ترجمة نون بوست
خلال صيف 2013، كانت مصر في قبضة ما يمكن أن نطلق عليه “هوس السيسي”، فالأغاني والشطائر والموسيقى والقصائد والأفلام وحتى ملابس النوم تشيد بعبد الفتاح السيسي، القائد العسكري الذي أطاح بالرئيس محمد مرسي.
من الخارج، بدا المشهد غريبًا عندما ابتهج ملايين المصريين بالتدخل العسكري الوحشي والعنيف ضد جماعة الإخوان المسلمين الذين انتُخب من بينهم رئيس قبل عام فقط في يونيو/حزيران 2012.
حتى من كانوا يسمون بالثوار ومنتقدي النظام السياسي المصري بدوا معجبين بهذا القائد العسكري الصغير الذي وعدهم ببداية جديدة بعد 18 شهرًا من الاضطراب بدأت بالثورة ضد الرئيس السابق حسني مبارك في أواخر يناير/كانون الثاني 2011.
ومع اعتقال مرسي وموت الكثير من أفراد جماعة الإخوان المسلمين أو اعتقالهم أو هروبهم خارج البلاد، وعد السيسي المصريين بأيام أفضل، لكنه طلب من المواطنين التحلي بالصبر، كان ذلك قولًا حكيمًا، فمشاكل مصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعقدة ازدادت عمقًا مع ترنح مصر بين أزمة وأخرى نتيجة الأجواء المشحونة والانتقال الديمقراطي قصير المدى.
لكن بعد عقد، لم يكافئ السيسي المصريين على صبرهم، ما حدث كان العكس تمامًا، فالرجل الذي كان من المفترض أن ينقذ مصر، يشرف الآن على دمارها.
وعد السيسي المصريين بالازدهار، لكن مصر مفلسة الآن، والإحصاءات مترنحة، وقد وصل التضخم إلى 37% بينما تجاوز سعر الدولار الأمريكي الواحد 30 جنيهًا (كانت قيمته 7 جنيهات فقط عندما وصل السيسي إلى السلطة).
أصبح الدين الدولي للبلاد نحو 163 مليار دولار، ومن المتوقع أن يصل إجمالي الديون بنهاية عام 2023 إلى 93% من إجمالي الناتج المحلي، أما مسؤولو الحكومة فهم مضطرون لإدارة الشؤون المالية للبلاد كأنها “لعبة القذيفة” حيث يحركون الأموال في محاولة عقيمة لإخفاء الظروف الاقتصادية المتزعزعة للبلاد.
انغمس السيسي في إنفاق تُغذيه الديون على مشروعات عملاقة ليس لها مبرر اقتصادي، أبرزها وأضخمها العاصمة الإدارية الجديدة
يحاول السيسي إظهار الأزمة الاقتصادية للبلاد بأنها نتاج قضايا خارج إرادته خاصة جائحة كوفيد-19 والغزو الروسي لأوكرانيا، لا شك في أن هذه الأزمات شكلت تحديًا بارزًا لكثير من الدول الكبرى، لكن من الواضح تمامًا أن السيسي يتبع إستراتيجية استطرادية للحد من لومه على فقر مصر.
انغمس السيسي في إنفاق تُغذيه الديون على مشروعات عملاقة ليس لها مبرر اقتصادي، أبرزها وأضخمها العاصمة الإدارية الجديدة، التي كلفت في مرحلتها الأولى فقط 45 مليون دولار، وعندما انسحبت كل من الإمارات والصين من المشروع، اضطر المصريون لدفع الفاتورة بإضافة مبالغ هائلة من الديون على الميزانية العامة للبلاد.
وبالإضافة إلى بناء عاصمة جديدة في قلب الصحراء تمامًا، أشرف السيسي على عدة مشاريع كبيرة أخرى، من بينها العاصمة الصيفية في الساحل الشمالي ومحطة طاقة نووية (في بلد تمتلك فائضًا من الكهرباء)، ومدينة مستدامة في دلتا النيل وإعادة إحياء مشروع مبارك الفاشل في صعيد مصر “توشكى”، يأتي ذلك كله بعد افتتاح تفريعة جانبية لقناة السويس سُميت بـ”قناة السويس الجديدة” في 2015.
كل هذه المشاريع ليس لها قيمة اقتصادية ملموسة، لكنها ذات أهمية سياسية، كان من المفترض أن تصبح مظهرًا واقعيًا لميلاد مصر مرة أخرى تحت قيادة رئيسها العسكري الجديد وزملائه في وزارة الدفاع.
ربما كانت الرسالة أن مصر ما زالت قادرة على القيام بأشياء عظيمة، لكن هذه المشاريع الضخمة أصبحت عبئًا اقتصاديًا على البلاد.
أشار المسؤولون إلى أن الكثير من المصريين عملوا في إنشاء هذه المشاريع، هذا حقيقيّ، لكن بأي ثمن؟ فالحكومات مسؤولة عن تأسيس البنية التحتية، لكن الأرباح طويلة المدى يجب أن تغطي التكاليف قصيرة المدى.
ثار المصريون في 2011 مطالبين بالكرامة، لكن بيع أصول الدولة بسعر زهيد أبعد ما يكون عن الكرامة
ربما تستحق الجسور والطرق وتحديث المطارات ومترو الأنفاق هذا الإنفاق لأنها تقدم عائدًا اقتصاديًا فعالًا، ويمكننا أن ندرج قناة السويس تحت هذه الفئة، لكن العاصمة الإدارية الجديدة والعاصمة الصيفية يحتاجان إلى منجم من المال لا تمتلكه مصر.
من الصعب أن نستوعب أنه خلال عقد فقط حكم السيسي دولة فقيرة لتصبح أكثر فقرًا، رغم أن حلفاءه في السعودية والإمارات ساعدوه في إعادة الاقتصاد المصري إلى السطح، ورغم أنه تمكن من تأمين قروض من صندوق النقد الدولي بشروط يسيرة، وأيضًا تمتعه بسمعة جيدة بين الحكومات الغربية.
في آخر اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وافقت الحكومة المصرية على بيع أصول الدولة بما في ذلك الأصول العسكرية، ومع ذلك لم يكن هناك الكثير من المشترين، إما لأن هذه الأصول لا قيمة لها ولا يستطيع أحد تحديد قيمتها، وإما لأن المشترين المحتملين ينتظرون تعويمًا آخر للجنيه المصري (الذي سيصبح التعويم الرابع منذ تعويم مارس/آذار 2022) للحصول على شركات جيدة بسعر أرخص.
أعلنت الحكومة مؤخرًا عن مبيعات قيمتها 1.9 مليار دولار من أصول الدولة، لكن هذه الأموال لن تفعل الكثير للحد من المعاناة الاقتصادية، ثار المصريون في 2011 مطالبين بالكرامة، لكن بيع أصول الدولة بسعر زهيد أبعد ما يكون عن الكرامة.
وبدلًا من الاستمرار في انتظار الازدهار الذي وعد به قائدهم، أصبح المصريون يغادرون البلاد بأعداد ضخمة، ورغم ضياع الكثير من تفاصيل قارب الصيد ذي الحمولة الزائدة قبالة السواحل اليونانية في شهر يونيو/حزيران، فقد كان على متنه نحو 300 إلى 350 مصريًا.
ورغم أن أعداد المصريين المهاجرين إلى أوروبا عبر القوارب ازدادت منذ ثورة يناير/كانون الثاني 2011، فإن الرقم ارتفع بشدة في السنوات الأخيرة، فقد حاول أكثر من 6 آلاف مصري السفر إلى إيطاليا عبر البحر منذ بداية 2023، فهم يشكلون ثاني أكبر مجموعة من المهاجرين الذين يحاولون الوصول إلى الشواطئ الإيطالية.
في 2022 سعى نحو 22 ألف مصري للحصول على حياة أفضل بعبور البحر المتوسط، بالطبع يبدو منطقيًا رغبة هذا العدد من المصريين في الرحيل نظرًا للظروف الاقتصادية البائسة التي يجب عليهم مواجهتها.
الآن بعد عقد من ثورة المصريين مطالبين بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية، لم يعد لديهم أي من ذلك
تعزز معاناة مصر الاقتصادية من فكرة أن البلاد قوة مستهلكة، في السبعينيات باع الرئيس أنور السادات قصة لوزير خارجية أمريكا هنري كيسنجر مفادها أن مصر كانت لاعبًا مؤثرًا ساعد في تحقيق السلام الإقليمي، وكانت جزءًا حيويًا في النظام الإقليمي المناهض للاتحاد السوفيتي، كان السادات يبالغ في الأمر (بما يتفق مع شخصيته ووظيفته السياسية).
تعد مصر شريكًا مهمًا للولايات المتحدة، مع استثناءات قليلة، مثل عملية عاصفة الصحراء (في حرب الخليج الثانية) التي لم تملك فيها مصر الموارد اللازمة للعب الدور الذين كان يأمل صناع السياسة في أمريكا، أن تلعبه، عندما أعادت مصر توجيه سياستها الخارجية نحو أمريكا.
ورغم وجود السيسي في غرف الاجتماعات المهمة، مثل القمة الإفريقية الروسية في سانت بطرسبرغ مؤخرًا، أو قمة “GCC+3” في الصيف الماضي مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، فإن حضوره بدا شكليًا، فبينما يقدم وجودك في الغرفة تأثيرًا ما، فإن مصر كانت مراقبًا في هذه الاجتماعات وليست لاعبًا.
أبرز مثال على تراجع مصر وفراغ سياستها الخارجية المصاحب لذلك، غياب القاهرة الكامل عن الحرب الأهلية في السودان (التي تمثل الفناء الخلفي لمصر)، في بداية الصراع احتجز الجنرال محمد حمدان دقلو – قائد قوات الدعم السريع – ما يقارب 200 جندي وطيار مصري كانوا يتدربون مع الجيش السوداني، كرهائن، وقد أُطلق سراحهم بسرعة نسبية نتيجة مساعدة دبلوماسيين إماراتيين.
بعد هذه الحادثة المهينة، تنحت مصر ووقفت تشاهد السعودية وهي تلعب دورًا مهمًا في إجلاء رعاياها من السودان، ولم يبذل السيسي أي جهد للتوسط في السودان لولي العهد السعودي محمد بن سلمان (بمساعدة من أمريكا).
يجب أن يخجل القادة في القاهرة من أن السعودية أصبحت تلعب دورًا حاسمًا في صراع كان ينبغي على مصر قيادته – وفقًا لأسطورتها الخاصة – في الحقيقة، عندما استضافت القاهرة مؤتمرًا لجيران السوادن السبع في منتصف يوليو/تموز لمناقشة وقف إطلاق النار – رغم فشله – لم يكن الأمر أكثر من مجرد حديث وبضع صور، فقد شكر القائد الإثيوبي آبي أحمد السعودية على جهودها الإصلاحية.
مؤخرًا، غردت محللة مصرية بارعة قائلة: “أستطيع أن أقول بكل صدق إنني لم أعد أرى مخرجًا لذلك”، أعتقد أنها تقصد بكلمة “ذلك” هذا الدمار الذي صنعه السيسي بمصر، والآن بعد عقد من ثورة المصريين مطالبين بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية، لم يعد لديهم أي من ذلك.
المصدر: فورين بوليسي