قبل عقد ونصف تقريبًا من الآن، كان حلم أي طفل صغير حين يكبر أن يصبح طبيبًا أو مهندسًا، أو أن يلتحق بكليات الإعلام والاقتصاد والعلوم السياسية بصفتها كليات القمة في ذلك الوقت، إذ كان أبنائها يتمتعون بنوع من الوجاهة الاجتماعية التي لم تكن متوفرة في ذلك الوقت.
كان الالتحاق بتلك الكليات يتطلب الحصول على أعلى الدرجات في الثانوية العامة، وكان عمداءها وأساتذتها دوما ما يصفون طلابها عند استقبالهم في أول يوم دراسي بأنهم “كريم شانتيه” المجتمع، أي نخبته المميزة التي يتم إعدادها لقيادة الدولة مستقبلا، فهم يستحوذون على المهن ذات المستوى الرفيع (طبيب- مهندس- سياسي- صحفي أو إعلامي)
اليوم تغير المشهد بصورة كاملة، فالإجابة شبه الموحدة عن التساؤل التقليدي لأي طفل: ماذا تحب أن تصبح حين تكبر؟ هي أن اكون ضابطا، وتحولت ساحات الالتحاق بالكليات العسكرية والشرطية إلى ما يشبه “المولد” من شدة الزحام، إقبال غير طبيعي، كثافة لم تكن مسبوقة، وسط زخم إعلامي واجتماعي لم تحظى به الكليات العلمية المرموقة.
نقلة كبيرة في المزاج الشعبي المصري إزاء الصورة الذهنية الخاصة بكليات القمة، بل أكثر دقة هو تحول جذري وانقلاب مكتمل الأركان في البوصلة الشعبية من الكليات المدنية المرموقة إلى الكليات العسكرية التي سحبت بساط الوجاهة والنفوذ من تحت أقدام التعليم المدني ليصبح التعليم العسكري اليوم هو صاحب الكلمة العليا وطموح معظم الطلاب والأسر معًا.. فماهو سر هذا الانقلاب؟
بداية.. أبرز ملامح خارطة التعليم العسكري
تتميز منظومة التعليم العسكري في مصر بالتجديد المستمر، فبين الحين والأخر يضاف إليها كيانات جديدة، تتداخل في مضمونها، الدراسي والوظيفي، مع التعليم المدني، وهو الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات مؤخرًا حول هذا التغول والهدف منه.
الكلية الحربية.. أول كيان عسكري تعليمي في مصر، تأسس عام 1811م كأحد مخرجات استراتيجية محمد علي باشا، مؤسس مصر الحديثة، الذي بناء جيش مصري قوي يدين بالولاء الكامل له، كأحد أولوياته لتعزيز نفوذ الدولة المصرية في ذلك الوقت في مواجهة الباب العالي، قبل أن تتحول إلى شكلها التقليدي الحالي في العصر الملكي عام 1946م.
الكلية الفنية العسكرية.. نشأت عام 1958 بعد حركة الضباط الأحرار في 23يوليو/تمًوز 1952، التي أنهوا بها حقبة الملكية وبدأوا في مرحلة جديدة تحت مسمى “الجمهورية”، وكان الهدف منها إدخال الدراسة الهندسية في التعليم العسكري بما يتناسب مع متطلبات العصر.
وبرزت فكرة إنشاء هذه الكلية مع صفقة السلاح التشيكية عام ١٩٥٤ التى أبرمتها الثورة بعد أن فشلت فى الحصول على سلاح من دول لإعادة بناء الجيش على نظم حديثة بعد الإطاحة بالملكية، ومن هنا جاء التفكير في إنشاء كلية لتخريج كوادر هندسية قادرة على التعامل مع معدات التسليح، وتم إنشائها بالتعاون مع أكاديمية برنو العسكرية التشيكية لتخريج الضباط المهندسين للعمل بالقوات المسلحة المصرية.
الكلية البحرية.. كان الاهتمام بالسلاح البحري المصري خلال العهد الملكي، حيث بدأ التيقن بأهمية هذا السلاح ودوره في حماية الدولة المصرية، وفي 30 ديسمبر/كانون الأول 1946 صدر قرار بإنشاء الكلية البحرية بأمر قائد عام السلاح البحرى الملكى محمود حمزة باشا، وخصصت للكلية البحرية المبانى الواقعة بين سراى رأس التين وفنار رأس التين بعد جلاء البحرية البريطانية .
الكلية الجوية.. أنشئت عام 1951 لتبية احتياجات الجيش المصري من الطيارين والملاحين، وشملت الدفعة الأولى لها على خمسة طلاب فقط، وكانت باكورة تخريج مئات من الطيارين الحربيين الذين نجحوا في تعزيز قدرات الجيش الجوية القتالية والذي كان لهم دور فيما بعد في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
كلية الدفاع الجوي.. كانت أحد مخرجات انتصار 1973، فالدور المحوري البطولي الذي قدمه مقاتلو الدفاع الجوي في تلك الحرب ونجاحهم في توفير الحماية الجوية الفعالية لتشكيلات القوات المسلحة والأهداف الحيوية للدولة في مختلف مراحل القتال، دفع المؤسسة العسكرية المصرية لإنشاء كلية متخصصة في الدفاع الجوي، تقوم على خدمة القوات الجوية وتساعد بقية فروع الجيش الميداني.
المعهد الفني للقوات المسلحة.. أنشأه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في يوليو/تمًوز 1968، مع وزير الدفاع وقتها الفريق أول محمد فوزى وزيرا للدفاع، ويقوم المعهد بإعداد الضباط الفنيين و تأهيلهم تأهيلاً جيداً للعمل فى منظومة التأمين الفنى بالقوات المسلحة , والتى تشمل الاتى : الإستخدام الفنى – الصيانة – الإصلاح – الإمداد الفنى – النجدة والإخلاء – التدريب الفنى، وذلك للخدمة بكفاءة في الوحدات وورش الإصلاح والمنشآت التعليمية والفنية والمهنية بالقوات المسلحة
كلية الضباط الاحتياط.. نشأت في البداية تحت مسمى “مدرسة الاحتياط” وذلك في أكتوبر/تشرين الأول 1957 فى معسكر محمود السعدني بجهة فايد وبقيادة منطقة القنال وشرق الدلتا، ثم تحول اسمها إلى “كلية الضباط الاحتياط” في 1 يوليو/تمًوز 1960، وتهدف إلى توفير الكوادر اللازمة لزيادة الطاقة الاستيعابية للجيش والاستعداد لتعزيز قدراته في أي وقت وتحت أي ظروف.
كلية الطب العسكري.. أحدث المنشأت التعليمية العسكرية التي شهدتها الساحة المصرية، تأسست عام 2013، وتهدف إلى تخريج أطباء عسكريين حاصلين على درجة البكالوريوس في الطب لإعداد وتأهيل دفعات جديدة من الأطباء العسكريين لخدمة المنظومة الصحية في المؤسسة العسكرية، وتخرجت أول دفعات الكلية في 2019 وحملت اسم المشير محمد عبد الغني الجمسي.
الوالي وحلم الاستقلال.. بداية التعليم العسكري
مع تولي محمد علي باشا، رأس العلوية في مصر، حكم البلاد عام 1805م، وبداية الدخول في نزاعات مع الباب العالي في إسطنبول، فكر في الاستقلال عن الخلافة العثمانية من خلال تقوية الدولة المصرية وبناء جيش قوي يكون قادرًا على الدفاع عنها ضد أي اعتداءات خارجية.
كان الهدف شخصي من الدرجة الأولى بداية الأمر، لكن تلاقت أهداف وطموحات الوالي مع الدولة المصرية التي لم يكن لديها جيش وطني قبل ذلك، وهنا بدأ محمد علي في تكوين نواة أولى لهذا التطوير من خلال إيفاد البعثات لأوروبا، خاصة فرنسا وبريطانيا، حيث تلقي العلوم الحديثة هناك ومنها العلوم العسكرية، وفي الجهة الأخرى أهمل التعليم الديني والأزهري بشكل كبير.
وبالفعل نجح في وضع اللبنة الأولى نحو بناء جيش قوي، وإنشاء المدرسة الحربية في أسوان عام 1821، تلك المدرسة التي تعلم فيها ألف من المماليك العلوم العسكرية وفنون القتال، ليكونوا نواة للجيش المصري، فيما فتحت بعد ذلك أبوابها لالتحاق المصريين وتأهيلهم فيما بعد للالتحاق بالجيش الوطني، وبالفعل نجح في تحقيق هذا الهدف وأصبحت مصر من دول المنطقة القليلة التي تمتلك جيشا وطنيا قوامه من المصريين وليس المماليك.
وبعد انتهاء عصر محمد علي ورضوخ مصر للاستعمار البريطاني، أهمل التعليم العسكري بشكل كبير، ثم عاد الاهتمام به مرة أخرى في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، إلى أن جاءت حركة الضباط الأحرار في 1952 وأطيح بالملك، وبدأت مرحلة جديدة من تكثيف العمل لتعزيز التعليم العسكري في مرحلة تواجه مصر فيها حربًا شرسة مع العديد من الخصوم والأعداء (بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة) ثم دولة الاحتلال لاحقا.
في تلك الفترة بدأ الاهتمام جليًا بإنشاء الكليات والمعاهد العسكرية لتعزيز قدرات الجيش المصري في ظل حرب الاستقطابات بين المعسكر الشرقي بقيادة السوفييت من جانب والمعسكر الغربي بقيادة الأمريكان من جانب أخر، وقد دفعت مصر ثمنا مكلفا نتيجة التأرجح بين المعسكرين وفق مصالحها الخاصة.
وخلال عهد الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، انتقلت الدولة من فكرة إنشاء كيانات تعليمية عسكرية لخدمة أهداف الجيش وتلبية لمهامه الدفاعية في الزود عن أمن البلاد القومي إلى التغول على التخصصات المدنية الأخرى وسحب البساط من تحت أقدامها – أو على الأقل منافستها- فكانت البداية إنشاء كلية للطب العسكري ثم مدارس خاصة تحت إدارة المؤسسة العسكرية تلاها إنشاء مدارس تكنولوجية تابعة لوزارة الإنتاج الحربي.
كليات القمة.. من النجومية للأفول
“في أول يوم لنا في كلية الإعلام جامعة القاهرة عام 1996 اجتمع بنا عميد الكلية وقتها الدكتور فاروق أبو زيد – رحمه الله – وقال لنا نصًا: أنتم كريم شانتيه المجتمع، وأنتم قادة الرأي خلال السنوات القادمة، وأنتم من ستحملون مسئولية توجيه الرأي العام وتشكيل العقل المجتمعي.. افخروا بكليتكم فأنتم أهل القمة”.. بهذه الكلمات استهل “مدحت” ( 49 عامًا) حديثه عن ذكرياته مع كلية القمة التي التحق بها قبل 27 عامًا.
ويضيف مدحت الذي أصبح اليوم صحفيًا في إحدى الصحف الخاصة في حديثه لـ “نون بوست” أن الوضع اليوم تغير كثيرًا، فلم تعد كلية الإعلام كلية قمة، شأنها شأن كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، مفرخة سفراء مصر ودبلوماسييها ونخبتها السياسية، حيث باتت تلك الكليات عبئًا على المنظومة التعليمية الحالية التي تتعامل معها كـ “سد خانة” على حد قوله.
وأشار إلى أن المعادلة انقلبت رأسًا على عقب، فالكليات التي تتطلب درجات عالية في الثانوية العامة لا تقل عن 90% باتت في مؤخرة الركب الذي قادته اليوم الكليات العسكرية التي رغم أنها لا تشترط أكثر من نسبة 60% من المجموع لكنها أصبحت كليات القمة الأكثر إقبالا وشهرة ونجومية.
أما حسين (طبيب 52 عامًا) فيشير إلى أنه في تسعينات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي كان للطبيب والمهندس والصحفي مكانة مرموقة في المجتمع، وهو ما يمكن تلمسه حين كان يزور أي منهم أي مؤسسة حكومية أو خاصة، كان الجميع يرحب به بصفته أحد خريجي كليات القمة المعروفة، أصحاب الدرجات العلمية العالية.
وأضاف في حديثه لـ “نون بوست” لكن اليوم الوضع تغير بشكل كبير، فغابت تلك المكانة، بل على العكس تبدلت إلى ماهو أسوأ من ذلك، إذ بإمكان مجند أو ضابط حديث التخرج أو حتى أمين شرطة أن يتجاوز بحقك دون أن تستطيع الرد عليه، ” بل إنك لو ذهبت إلى أي مكان، عام أو خاص، طبيب (صاحب الـ 95% من الدرجات في الثانوية العامة وخريج كلية الطب، أعلى الكليات العلمية)، إلى جوار ضابط (صاحب الـ 60% من الدرجات)، ستجد الفرق الهائل في المعاملة، إذ تفتح كل الأبواب المغلقة أمام الضابط فيما يتم تجاهل الطبيب بشكل قد يبكيه إذا ما جلس بينه وبين نفسه متحسرًا على حاله”.. هكذا أكمل الطبيب المصري حديثه.
فيما أشار “عزت” (طبيب بالسعودية) إلى مؤشر واحد فقط قال إنه يعكس الفرق بين نظرة الدولة للتعليم العسكري والتعليم المدني قائلا: هل رأيت يوما الرئيس يحضر حفل تخريج كلية الطب أو الهندسة أو العلوم؟ بالطبع لا، لكن سنويًا يحضر حفل تخريج الكليات العسكرية، وهو مؤشر يكشف ترتيب التعليم في مصر في قائمة النظام الحاكم سواء في عهد مبارك أو في عهد السيسي”
التعليم العسكري.. امتيازات لا تنته
هنا تساؤل يفرض نفسه: لماذا سحبت الكليات العسكرية بساط القيمة والوجاهة من تحت كليات القمة المدنية؟ وماهو سر الإقبال الكبير عليها بهذا الشكل لدرجة أن البعض قد يدفع رشاوى تتجاوز أحيانا عشرات الآلاف من الدولارات من أجل الالتحاق بتلك الكليات؟ ما هي الامتيازات التي توفرها حتى تغري الجميع بهذه الصورة.
أولا: خلال الدراسة… يتم منح الطلاب داخل الكليات والمعاهد العسكرية رواتب رمزية تعينهم على استكمال الدراسة هذا بجانب توفير أماكن جيدة للتعلم وفرصة الالتحاق بالكليات المرموقة للحصول على كورسات تعليمية متميزة بأسعار رمزية، وبعضها بالمجان
منح خريجي الكليات العسكرية، خاصة الكلية الحربية، على 5 تخصصات علمية تفتح له جميع أبواب الوظائف وتلك التخصصات هي: بكالوريوس العلوم العسكرية، وبكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسية، وبكالوريوس الحاسيات والمعلومات، وبكالوريوس إدارة أعمال النقل واللوجيستيات، وذلك بناء على القرار رقم 302 لسنة 2022، وبالتالي يسمح لخريجي الكليات العسكرية بالعمل في مجال الإعلام والاقتصاد والسياسة والإدارة والحاسبات بعيدًا عن تخصصه الأصلي الذي درسه ف الكلية وهو العلوم العسكرية.
ثانيًا: بعد التخرج.. توفير فرص عمل بشكل مباشر وبرواتب تصل أحيانا إلى ضعف راتب خريج كليات القمة التي من الصعب أن يلتحق بأحد الوظائف الحكومية ماعدا خريجي كليات الطب والتي لا يتجاوز راتب طبيب الامتياز المعين حديثا عن 3 ألاف جنيه مقابل ما لايقل عن 10 ألاف جنيه لزميله خريج الكلية الحربية.
كذلك توفير صنادق اجتماعية وتأمينية لخريجي الكليات العسكرية تسمح لهم بالحصول على وحدات سكنية في أماكن متميزة بأسعار قليلة والبعض بالمجان، أو عن طريق تسهيلات كبيرة جدا في السداد عبر أقساط تمتد لعدة سنوات، فضلا عن المساهمة في تجهيزها من خلال المنتجات الخاصة بمصانع الإنتاج الحربي
تقديم العديد من التسهيلات لخريجي الكليات العسكرية للحصول على عضوية الفنادق والمنتجعات والأندية المختلفة، مع إعفائهم من الكثير من الرسوم المقررة على خريجي الكليات المدنية، وهو ما يسمح لهم بدخول أي نادي أو أي فندق في أي وقت وبكامل التسهيلات.
ثالثا: أثناء فترة العمل.. النفوذ الذي يتمتع به الضباط وخريجي الكليات العسكرية يمنحهم مكانة اجتماعية مرموقة، تجعلهم في مرتبة أعلى نسبيًا من نظرائهم خريجي الكليات الأخرى حتى لو كانوا أكثرهم تفوقا علميًا أثناء مراحل الدراسة، وهو ما يرضي بعض الطموحات والأهداف الشخصية بشكل ربما يفوق الراتب والعائد المادي المحصل.
رابعًا: بعد التقاعد.. يضمن الجنرالات العاملون في المؤسسة العسكرية بعد إحالتهم للتقاعد التعيين في مناصب أخرى مدنية، كنوع من مكافأة نهاية الخدمة، حيث يعين رؤساء الأفرع في الغالب محافظين، ومن هم أقل يعينون رؤساء للأحياء والمدن والمجالس المحلية، ومن خلفهم رؤساء ومدراء لشركات القطاع العام والخاص، فيما يُزج بالالاف منهم كمستشارين في الشركات والهيئات يتقاضون رواتب خيالية أسوة بغيرهم ممن قضوا حياتهم في الخدمة والوظيفة.
انفتاح على كافة المجالات
البعض يطلق على مصر في الأونة الأخيرة لقب “جمهورية الضباط” في إشارة إلى أن الدولة بكل مجالاتها باتت في قبضة جنرالات المؤسسة العسكرية، وإلى حد ما الشرطية، وهذا يعد أحد الأسباب الرئيسية وراء رغبة معظم الطلاب في الالتحاق بتلك الكليات، التي توفر مستقبلا مضمونًا كما يقول أحدهم.
التغول على القطاع التعليمي.. في السنوات الأخيرة طالت العسكرة الحقل التعليمي، فالأمر لم يعد مقتصرًا على إنشاء الكليات والمعاهد العسكرية المتخصصة وفقط، بل تجاوز ذلك إلى إنشاء مدارس خاصة مملوكة للقوات المسلحة، لتزاحم بها القطاع الخاص، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال بعض المؤشرات:
أولها: تأسيس الجيش لـ “مدارس بدر الدولية للغات” بالسويس عام 2013 على مساحة 30 فدان وبكلفة إنشائية قدرها 90 مليون جنيها ، وتترواح مصروفاتها بين 20 – 32 ألف جنيه آنذاك، ارتفعت بطبيعة الحال مؤخرًا وفق زيادات الأسعار الأخيرة بسبب التضخم وتراجع الجنيه أمام الدولار.
كذلك تأسيس المدرسة التكنولوجية التطبيعية التابعة لوزارة الإنتاج الحربي في عام 2019، وهي المدرسة التي تركز على تخصصات تكنولوجيا الميكانيكا وتكنولوجيا الكهرباء والإلكترونيات، في خطوة بررت بأنها تستهدف تزويد المصانع الحربية بفنيين وعمال متخصصين، رغم وجود الكلية الفنية العسكرية والمعهد الفني للقوات المسلحة، وكلاهما يقوم بالمهمة ذاتها، فيما مُنح لواءات الجيش العديد من الامتيازات داخل وزارة التعليم، في الغالب تولى شؤون التعليم ما قبل الجامعي)، ففي عام 2015 تم ندب 6 لواءات من القوات المسلحة إلى الوزارة.
ثانيًا: الانخراط في اقتصاديات التعليم، ويمكن تلمسه من خلال عدد من المشروعات التي قامت بها المؤسسة العسكرية داخل المنظومة التعليمية وأبرزها: إشراف جهاز الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة على توريد وجبات التغذية المدرسية إلى المدارس والإشراف على مطابخ المدينة الجامعية لجامعة القاهرة، كذلك إشراف الهيئة الهندسية التابعة للجيش على بناء المدارس اليابانية.
يذكر أنه في عام 2016 بنت الهيئة الهندسية 257 مدرسة نموذجية في 18 محافظة، والاستمرار ببناء 225 مدرسة من بينها 98 مدرسة في محافظات الصعيد، بجانب بنا 100 مدرسة في 17 محافظة بتمويل مباشر من الإمارات، وفي عام 2018 أنشأت الهيئة “جامعة زويل” بتكلفة بلغت 966 مليون جنيه، وفي عام 2019 كما سيطرت على مناقصة خاصة بتوريد أجهزة “التابلت” التي تم تطبيقها ضمن تحديث النظام التعليمي في مدارس الوزارة.
احتكار المناصب التنفيذية.. فرضت المؤسسة العسكرية منذ أيام حسني مبارك قبضتها على معظم المناصب التنفيذية في الدولة، وزراء ومحافظين ورؤساء مدن وأحياء ورؤساء مجالس محلية ومدراء شركات قطاع عام وخاص، وخلافه، وهو ما أسقط البلاد بشكل كامل في قبضة الجنرالات، بصرف النظر عن مدى تأهيلهم للقيام بتلك المسئوليات -التي تتطلب مؤهلات خاصة- أم لا.
في تقرير صادر عن عن “مركز كارنيغي” في أغسطس/آب 2012، تحت عنوان ” فوق الدولة: جمهورية الضباط في مصر” استعرض هيمنة الجنرالات على المشهد السياسي التنفيذي في مصر منذ بداية عهد الجمهورية إبان فترة جمال عبدالناصر، ثم تراجعت نسبيًا خلال ولاية أنور السادات، حتى عادت للمشهد مرة اخرى في عهد حسني مبارك، ومن أبرز مؤشراتها حركة تعيين المحافظين رقم 30 في عهد مبارك التي أجريت في العام 2006، حيث تم تعيين 14 وزير بخلفية عسكرية بجانب 7 أخرين من ضباط الشرطة، فضلا عن هيمنة العسكريين على منصب رئيس هيئة الرقابة الإدارية ذات النفوذ الرقابي على كل الانتهاكات الإدارية والمالية المتعلقة بقطاعات الدولة.
الأمر تعزز أكثر في 2011 حين سيطر المجلس العسكري على المشهد السياسي بشكل كامل، ورغم تسليمه للسلطة للرئيس المنتخب محمد مرسي في 2012 إلا أنه لم يرفع يده عن الدولة، فكرس أركانه ورسخ حضوره من خلال العديد من الأذرع التي عادت للأضواء مرة أخرى منذ 2013 وحتى اليوم.
في 2019 شهد هذا العام تعديلين وزاريين مرة واحدة، كان للجنرالات النصيب الأكبر فيهما، حيث سيطر 19 لواء من الجيش والشرطة على الحقائب الوزارية في التعديل الأول، وفي التعديل الثاني أضيف لهم 11 لواء أخرين، فضلا عن تعيين مستشار عسكري لكل محافظ، له تأثير ونفوذ قوي حتى على المحافظ ذاته، فيما مُنح الشباب من خريجي البرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب (عسكرة سياسية في ثياب مدني) مناصب نواب المحافظين
كل تلك المغريات والامتيازات دفعت الكثير من المصريين، شباب وأولياء أمور، إلى تغير بوصلة الحلم من كليات القمة المدنية إلى كليات القمة العسكرية، التي أصبحت الملاذ الآمن اليوم اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، فيما بقى حلم خريجي كليات الطب والهندسة والإعلام اليوم السفر إلى دول أخرى تحترم العقول وتقدر أصحاب التميز العلمي بعيدًا عن الكاب والنسور والنجوم اللامعة فوق الأكتاف.