ترجمة وتحرير: نون بوست
لأسباب عملية (وساخرة) تستحق التحليل، أعادت النخب السياسية الفرنسية لأكثر من قرنين إحياء رواية مقلقة تُصوّر علاقتها بالشعب الذي يُفترض أن تقوده. وفي هذه الرؤية المرعبة، يداهم حشد من الناس الغاضبين قصور الجمهورية ووزاراتها (أو الملك أو الإمبراطور)، مطالبين برؤوس قادتهم والتنكيل بها. وتعتبر الشرطة الأمل والقوة الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها لإنقاذهم.
تسعى “قوى النظام”، كما يُشار إليها في فرنسا، جاهدة لحماية نظامها باعتبارها هيكل سلطة الهيمنة التي تعمل في بعدين. فالبعد الأول اجتماعي واقتصادي مع الحفاظ على الامتيازات حيثما تنتمي: بالأمس لصالح النبلاء والبرجوازيين، واليوم في خدمة كبرى الشركات والمصالح الرأسمالية. أما البعد الثاني فهو عنصري وسياسي مبني على إرث القوالب النمطية والتمييز الهيكلي الموروث من الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية.
وفي كلا البعدين، تعمل الشرطة على تنفيذ رؤية الحكومة السياسية: فهي تقمع المظاهرات، وتحرس البنوك، وتجرّم المعارضين السياسيين، وتضايق الأطفال العرب والسود بمعدل غير متناسب، وتقتلهم في بعض الأحيان.
وحشية الشرطة
لهذا السبب، ليلة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 1961، قتلت الشرطة مئات المتظاهرين الجزائريين بإلقائهم في نهر السين. وللسبب نفسه أيضا، أطلقت الشرطة في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1972 النار على محمد دياب في صدره وظهره بعد أن أوسعته ضربًا بينما كانت والدته وشقيقته تشاهدان المشهد كاملاً من النافذة. ولهذا السبب، أطلقت الشرطة في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1984 النار على سليم بزاري في سيارته بعد أن تجاوز إشارة المرور الحمراء. ولهذا السبب، في السادس من كانون الأول/ ديسمبر 1986، ضربت الشرطة مالك أوسكين حتى الموت عندما كان يتجوّل في أحد شوارع في باريس بعد حضوره حفلا موسيقيا للجاز.
لهذا السبب أيضًا، قتلت الشرطة في السادس من نيسان/ أبريل سنة 1993 ماكوم ميبول البالغ من العمر 17 سنة في مركز شرطة باريس بإطلاق النار عليه من مسافة قريبة. ولهذا السبب، في 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2005، كان زيد بينا (17 سنة) وبونا تراوري (15 سنة) يركضان للنجاة بحياتهم في إحدى ضواحي باريس خائفين من الشرطة وقُتلا في النهاية بسبب التعرض لصعقة كهربائية في محطة كهرباء فرعية، على الرغم من أنهما لم يُخطئا في شيء.
وهذا هو السبب أيضا وراء وفاة أداما تراوري في حجز الشرطة في تموز/ يوليو 2016 قبل أن يتم تجريم أشقائه بشكل منهجي تقريبًا ومضايقتهم ونبذهم لدعوتهم إلى معرفة الحقيقة بشأن وفاته. ولهذا السبب، في 27 حزيران/ يونيو 2023، في نانتير، في ضواحي باريس، قُتل نائل المرزوقي البالغ من العمر 17 سنة من مسافة قريبة مثل مئات الشبان الآخرين قبله.
وفي الواقع، تكشف العديد من هذه الوفيات عن تحيز عنصري في طريقة التعامل مع الشباب السود والعرب على أنهم تهديد أمني لفرنسا، لكن من المهم الإشارة إلى أنهم ليسوا الهدف الوحيد لعنف الشرطة.
فعلى سبيل المثال، مات سيدريك شوفيا، وهو عامل توصيل يبلغ من العمر 42 سنة، بسبب الاختناق وكسر في الحنجرة على يد الشرطة بعد استخدام هاتفه الخلوي على دراجته البخارية، في كانون الثاني/ يناير 2020. وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2014، قُتل ريمي فرايس، البالغ من العمر 21 سنة وهو عالم نبات، بقنبلة يدوية أطلقتها الشرطة. وفي حزيران/ يونيو 2019، عُثر على ستيف مايا كانيكو ميتًا في نهر لوار، بعد أن داهمت الشرطة الحفلة الموسيقية في مدينة نانت التي كان يحضرها.
العوامل الهيكلية
تختلف الديناميكيات لكن بعض العوامل الهيكلية لا تزال تلعب دورا مهما. أولاً، يتم اعتبار الأطفال السود والعرب كتهديد موروث من الاستعارات العنصرية في فترة ما بعد الاستعمار، ويتم استهدافهم بشكل غير متناسب من قبل الشرطة. وقد أظهرت دراسة أن الشباب الذكور السود معرضون ست مرات أكثر لإمكانية التوقيف من قبل الشرطة مقارنة بالذكور البيض، مقابل ثماني مرات للشباب العربي.
ثانيًا، يعتبر النهج الأمني الذي تتبعه الشرطة الفرنسية تجاه الشباب السود والعرب متجذّرًا بعمق في الهياكل السياسية للبلاد ويستدعي عنفًا غير مرغوب فيه وغير مبرر، مما أسفر عن مئات القتلى.
ثالثًا، هذا النهج المتحيّز العنصري الذي يركز على مجتمعات السود والعرب والمسلمين والمهاجرين يعمل كمختبر، الذي يؤثر بدوره على طريقة تنفيذ الأمن على مستوى أوسع بكثير، مما يؤثر على الحريات الأساسية وسلامة جميع المواطنين.
رابعًا، يصوت أكثر من نصف قوات الشرطة لليمين المتطرف، ويستخدمون حاليا من خلال نقاباتهم وممثليهم أساليب الضغط والتهديدات لدفع أجندتهم السياسية، مما يزيد من الانقسام بين عامة السكان والمؤسسة ذاتها التي تتمثل مهمتها في حمايتهم.
وأخيرًا، يتألف المكتب المسؤول عن التحقيق في عنف وانتهاكات الشرطة من ضباط الشرطة، ما يفسّر العدد الضئيل للقضايا التي تم النظر فيها فعليًا، دون أي عقوبات تقريبًا، والغياب التام للثقة في المؤسسة ومساءلتها.
وطالما أن الحكومة الفرنسية لا تحاسب الشرطة عندما تخالف القوانين التي من المفترض أن تطبقها والقيم التي من المفترض أن تتمسك بها، فلا يمكن توقع أي تغيير في المستقبل المنظور. وستستمر النخب السياسية في البلاد في الحفاظ على هذه العلاقة السامة مع الشرطة، حيث تحمي بعضها البعض بينما تعرض أمن الجميع للخطر.
المصدر: ميدل إيست آي