“صلف وغرور حتى النفس الأخير”، هكذا وصف السياسي السوري المعارض أحمد معاذ الخطيب ما صدر عن رئيس النظام في سوريا بشار الأسد، خلال لقائه الأخير مع قناة “سكاي نيوز عربية” التي تبث من الإمارات، وأُذيع يوم الأربعاء.
تعليق الخطيب جاء في تغريدة نشرها زميله في العمل المعارض عبيدة نحاس، والتي كانت عبارة عن رسم كاريكاتوري يظهر الرئيس السوري وهو يدوس على كل الملفات الداخلية التي استدعت تفجُّر الثورة الشعبية في البلاد عام 2011، مقابل تركيزه على ملف “المؤامرة الخارجية”.
رسم يختصر إلى درجة كبيرة تصريحات بشار الأسد، الذي لم يعترف طيلة 29 دقيقة، مدة اللقاء الأول له على قناة تلفزيونية بعد عودة نظامه للجامعة العربية، بأي مسؤولية لحكومته عن اندلاع الاحتجاجات، أو عن الجرائم والانتهاكات التي أعقبت ذلك على يد أجهزة أمن وجيش النظام، وأدّت إلى تدمير مساحات شاسعة من البلاد، وتهجير أكثر من نصف السكان وقتل وفقدان نحو مليون سوري.
صلف وغرور حتى النفس الأخير
— أحمد معاذ الخطيب (@Mouaz_AlKhatib) August 10, 2023
مسامحة العرب مع التمسُّك بإيران
وعلى عكس التمسك بموقفه المتشنّج من المعارضة، وإصراره على تصنيفها وتقسيمها بما يتناسب وذهنية النظام، حيث اعتبر أن هناك معارضة مصنّعة خارجيًّا وهي ضد الوطن، وأخرى مصنّعة في الداخل يعترف بها ويقبلها؛ كان بشار الأسد شديد التسامح مع القوى الخارجية التي اتهمها بالتآمر على البلاد، وجدّد أكثر من مرة أنه يجب النظر إلى المستقبل بما يخص العلاقة معها، وتجاوز الماضي “الأليم”.
وباستثناء تمسكه بشروط مسبقة قبل عقد أي لقاء مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عبّر الأسد عن سياسة اليد الممدودة وبقوة للعرب، لكن من دون التخلي عن تحالف نظامه الوثيق مع إيران.
ومنذ قررت الدول العربية الانفتاح على النظام في سوريا، وتحديدًا التطبيع الذي قامت بها دولة الإمارات عام 2021، والذي توسع بشكل كبير بعد كارثة زلزال فبراير/ شباط 2023، وانتهى بإعادة مقعد سوريا في الجامعة العربية له، وحضوره قمة جدة التي عُقدت في مايو/ أيار من هذا العام؛ كان إبعاد سوريا عن إيران وإعادتها للحضن العربي أحد الأهداف التي بررت بها هذه الدول انفتاحها على النظام.
ورغم اللهجة المتسامحة التي أظهرها الأسد في إجاباته عن الأسئلة التي وُجّهت إليه خلال اللقاء حول العلاقات مع الدول العربية، إلا أنه وبالمجمل كان سلبيًّا بما يخص العمل العربي المشترك
لكن الأسد، وردًّا على سؤال لمحاوره بالأمس حول العلاقات الخارجية لسوريا، جدد تمسكه بالتحالف الاستراتيجي لنظامه مع كل من روسيا وإيران، وقال: “ما حدث يثبت أن سوريا تعرف كيف تختار أصدقاءها”.
أمر يؤكد “أن التعويل على أي تغير بالعلاقة بين النظام السوري وإيران كان خاطئًا، وأن هذه العلاقات باتت أكثر تجذُّرًا من قبل”، كما يقول الكاتب والمحلل السياسي الأردني عامر سبايلة.
ويضيف سبايلة في تصريح خاص لـ”نون بوست”، أن هدف إبعاد سوريا عن الحضن الإيراني وعودتها للحضن العربي لم يكن ممكنًا بالسابق، وليس ممكنًا اليوم ولا في المستقبل، لأن التحالف بين النظام في دمشق وطهران كان عضويًّا واستراتيجيًّا قبل عام 2011، وأصبح أكثر تجذّرًا بعد ذلك مع الانتشار الإيراني في سوريا، وتحويل البلاد إلى مجال حيوي لخدمة مشروع إيران.
ومن هنا يعتقد سبايلة أنه ورغم اللهجة المتسامحة التي أظهرها الأسد في إجاباته عن الأسئلة التي وُجّهت إليه خلال اللقاء حول العلاقات مع الدول العربية، إلا “أنه وبالمجمل كان سلبيًّا بما يخص العمل العربي المشترك”.
ويقول تعليقًا على هذه النقطة: “بشار الأسد وجّه نقدًا مباشرًا للعلاقات العربية-العربية، واعتبر أنها لا تقوم على أساس مؤسساتي، وبالتالي لا نجد أنه يعول أو يرغب في أن يكون الدور العربي جزءًا من الحل، بل أصرَّ على أن العرب كانوا جزءًا من المشكلة، ولذلك لا أعتقد أن ما قاله بهذا الصدد يمثل أي دعوة لأي دور عربي في سوريا”.
ورغم احتفاء وسائل إعلام تيار التطبيع العربي مع النظام السوري بتصريحات الأسد حول مستقبل العلاقات العربية مع سوريا، إلا أن تقييم سبايلة السابق يقدم تصورًا معتمًا للأمر، لكنه أقرب إلى الواقع برأي الكثيرين.
العرب أم أموال العرب؟
تمسُّك الأسد بالتحالف الراسخ مع إيران، وبموقف غير متحمّس للعمل العربي المشترك، يضع الاجتماع القادم للجنة المتابعة العربية حول سوريا على المحك مجددًا.
الاجتماع الذي كان مقررًا بعد عيد الأضحى، وتمَّ تأجيله إلى ما بعد منتصف شهر أغسطس/ آب الجاري، بهدف منح النظام السوري فرصة أكبر لإنجاز ما هو ملموس على صعيد تعهُّداته المقدمة ضمن مبادرة “الخطوة مقابل خطوة”، سيعقد على أية حال في الموعد المحدد كما تقول مصادر دبلوماسية عربية لـ”نون بوست”.
المصادر لا تستبعد أن تكون دولة الإمارات قد تعمّدت منح بشار الأسد هذا الظهور، على أمل أن يدلي بتصريحات مشجّعة تظهر نجاعة خيارات أبوظبي في التعاطي مع القضية السورية، بعد الخيبة التي عاد بها وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي من زيارته الأخيرة إلى دمشق مطلع يوليو/ تموز المنصرم.
وحسب المصادر، فإن كلًّا من بشار ووزير خارجيته فيصل المقداد، أكّدا للصفدي وقتها أن الحكومة السورية ليس لديها المزيد لتفعله من أجل تهيئة بيئة آمنة لعودة اللاجئين، وأن الكرة بهذا الخصوص في ملعب “الأشقاء العرب” الذين يجب أن يبدأوا بتقديم أموال المساعدات وإعادة الإعمار.
فما يمنع اللاجئين السوريين من العودة، حسب رأي قيادة النظام، هو دمار البنية التحتية، والواقع الخدمي والمعيشي المزري في البلاد، بعد 12 عامًا من الحرب، وهو ما عاد وأكّد عليه الأسد في لقائه مع “سكاي نيوز عربية”.
ما سبق يجعل التنبُّؤ بتوجهات اجتماع لجنة المتابعة، التي تضمّ وزراء خارجية كل من مصر والسعودية والعراق والأردن، أمرًا معقدًا، بالنظر إلى أن رئيس النظام السوري حاول مجاملة العرب لكن من البوابة التركية، مقابل تمسّكه بلهجة المنتصر، وبالعلاقة الخاصة جدًّا مع إيران.
فإلى جانب تهجُّمه المفاجئ على حركة حماس الفلسطينية، رغم عودة العلاقات الرسمية للنظام معها، حيث وصف موقفها ممّا جرى في سوريا بأنه “مزيج من الكذب والنفاق”؛ جدّد الأسد تمسكه بالشروط المسبقة قبل إنجاز التطبيع الدبلوماسي بين أنقرة ودمشق.
بل أن رئيس النظام ذهب أبعد من ذلك، عندما كرر أكثر من مرة خلال المقابلة أن تركيا هي المسؤولة الأولى عن “الإرهاب” في سوريا، متمسكًا بضرورة انسحاب القوات التركية من سوريا، قبل الموافقة على عقد أي لقاء بينه وبين الرئيس رجب طيب أردوغان.
أمر يعتبره الكاتب والمحلل الاستراتيجي السوري عبد الناصر العايد أنه “طبيعي ومتوقع من بشار”، الذي لا يريد أن يخسر أموال العرب التي يسيل لها لعاب نظامه، وهو كل ما يريده منهم، خاصة أنه يدرك مدى حساسية العديد من الدول العربية تجاه تركيا والقوى السياسية العربية المتحالفة معها، أو القريبة منها، بما في ذلك حركة حماس وتيار الإسلام السياسي بشكل عام.
احتفاء قناة “سكاي نيوز عربية” باللقاء كان واضحًا، حيث أفردت ساعات من البث بعد إذاعة اللقاء مساء يوم الأربعاء لتحليل ما ورد فيه، بينما ركزت وسائل الإعلام الإماراتية بشكل كبير على هذه التصريحات باعتبارها ذات مضمون إيجابي.
ويقول العايد في حديث مع “نون بوست”، بعد مشاهدة اللقاء يوم الأربعاء: “لم يقدم بشار الأسد على مدار نصف ساعة من الحديث ما هو جديد، ويمكن القول إن هناك متغيرًا وحيدًا ظهر لديه، وهو تملُّق العرب وتقديم تمسكه بالعداء مع تركيا بديلًا عن الانفصال عن إيران، بهدف كسب مساعدات اقتصادية لا أكثر”.
ويتابع: “أظن أن هذه المقابلة تعبّر أكثر من أي شيء آخر عن النهج العربي نحو بشار، فهي لا تضيف جديدًا أيضًا إلى هذا النهج الذي يقول: “نعطيك سجادة حمراء، مساحة في الإعلام، بعض المساعدات الإنسانية.. وفقط””.
وما يؤكد ذلك، حسب العايد، أن المقابلة كانت غير ودية، بل ظهرت على أنها عدوانية على غير المتوقع، إذ لا يمكن تصور مذيع يخاطب من يفترض أنه رئيس دولة، بالقول إن “دولتك أصبحت مركزًا لتجارة المخدرات، وأنت متّهم بأنك مديرها”.
ما يريد العايد قوله ربما، أن فكرة الحل العربي في سوريا كانت فكرة مبالغًا بها من الأصل، وأن تعويل بعض العرب على استجابة بشار الأسد ونظامه لمطالبهم، وإحداث تحول في سياساته وتوجهاته الداخلية والخارجية، كان تعويلًا خاطئًا، وأن ما أدلى به في مقابلته الأخيرة يؤكد ذلك.
لكن مع ذلك، مشروع الحل العربي المطروح للمسألة السورية ما زال قائمًا، ورغم التهجُّم الذي أبداه الأسد على مؤسسة الجامعة العربية، ونقده لإدارة القادة والحكومات العربية للعلاقة البينية، بل انتقاصه مجددًا من حكمة ووعي القادة العرب السياسي، إلا أن احتفاء قناة “سكاي نيوز عربية” باللقاء كان واضحًا.
فقد أفردت ساعات من البث بعد إذاعة اللقاء مساء يوم الأربعاء لتحليل ما وردَ فيه، بينما ركزت وسائل الإعلام الإماراتية بشكل كبير على هذه التصريحات باعتبارها ذات مضمون إيجابي، الأمر الذي يجعل من إعادة طرح الأسئلة حول دوافع الانفتاح العربي على نظام الأسد، ومدى توحُّد الدول المحتضنة لهذا الانفتاح على الهدف منه، أمرًا مهمًّا بقدر أهمية التساؤل حول مصير هذا المسار.