نشرت “وكالة الفرقان” التابعة لتنظيم “داعش”، عبر حساب لها على تيليغرام يوم الخميس 3 أغسطس/ آب 2023، تسجيلًا صوتيًّا للمتحدث الجديد باسم التنظيم المدعو أبو حذيفة الأنصاري، أعلن فيه عن تنصيب زعيم آخر لـ”داعش” يُدعى أبو حفص الهاشمي القرشي.
وبذلك يكون الزعيم الخامس للتنظيم خلفًا لأبي الحسين الحسيني القرشي، الذي اعترف الناطق بمقتله واعتقال المتحدث السابق أبو عمر المهاجر مع مجموعة، متهمًا هيئة تحرير الشام التي نفت قول ما أورده الملقب بالأنصاري ووصفته بالادّعاء، مؤكدة -في بيان لها- أنها كانت ستبشّر الأمة لو أنها هي من قامت بذلك.
وفي بداية شهر مايو/ أيار من العام الحالي، أعلن الرئيس التركي عن مقتل الزعيم الرابع لتنظيم “داعش”، أبو الحسين القرشي، خلال عملية وصفها بالنوعية للأمن التركي شمال سوريا، ونقلت تقارير حينها أن مسؤولًا بارزًا في تنظيم “داعش” فجّر نفسه أثناء محاولة اعتقاله ليلًا، إثر عملية أمنية نفّذها جهاز الاستخبارات التركية مع مجموعات من الجيش الوطني السوري، قرب جنديرس بريف حلب الشمالي.
التسلسُل الزمني لزعماء التنظيم
تمّ الإعلان عن قيام “داعش” في يوليو/ تموز 2014، تحت زعامة أبو بكر البغدادي (الخليفة الأول)، والذي بلغ التنظيم تحت إمرته ذروة السيطرة والتسلُّط على مساحات واسعة من سوريا والعراق، وشُكّل لمحاربته “التحالف الدولي” بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
بعد الإعلان عن القضاء على آخر معاقل “داعش” في بلدة الباغوز بريف مدينة دير الزور شرق سوريا في مارس/ آذار 2019، وبالتحديد في 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، أعلنت القوات الأمريكية مقتل إبراهيم عوض إبراهيم علي البدري السامرائي، المعروف باسم أبو بكر البغدادي في عملية إنزال على بلدة باريشا بريف إدلب شمال غرب سوريا، لتكون بداية مسلسل تصفية زعماء “داعش” الذي تتسابق الدول للإعلان عنه، ولتبدأ معها سلسلة الحلقات الصوتية (التسجيلات) لـ”داعش” في الإعلان عن مقتل وتنصيب الخليفة بصوت متحدث جديد أيضًا.
في فبراير/ شباط 2022، أعلن الرئيس الأمريكي، جو بايدن، مقتل الزعيم الثاني لتنظيم “داعش”، أبو إبراهيم القرشي، في عملية خاصة بسوريا، وقال بايدن في كلمة إلى الشعب الأمريكي حينها، إن القرشي فجّر نفسه.
وتابع: “لعلمنا أن هذا الإرهابي اختار أن يحيط نفسه بعائلات بينها أطفال. اتّخذنا خيار تنفيذ غارة للقوات الخاصة مع كل ما لها من مخاطر أكبر بكثير على عناصرنا، بدلًا من استهدافه بضربة جوية”.
ووفق تقارير صحفية نقلًا عن مصادر استخباراتية، الاسم الحقيقي لأبو ابراهيم القرشي هو أمير محمد عبد الرحمن المولى الصلبي، وهو في الواقع أحد مؤسّسي التنظيم ومن كبار منظّريه العقائديين.
في 10 مارس/ آذار 2022، حدد التنظيم هوية زعيمه الثالث خلال أقل من 8 أعوام، وفي 30 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام ذاته أكّد مقتله بتعيين خليفته الرابع أبو الحسين الحسيني القرشي، في الوقت الذي قالت القيادة المركزية الأمريكية إن أبو الحسن الهاشمي القرشي (الخليفة الثالث) قُتل في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 2022، وأن الجيش السوري الحر في محافظة درعا جنوب سوريا هو من نفّذ العملية.
كيف أثّر مقتل “الخلفاء” على نهج التنظيم
عمل التنظيم منذ تأسيسه للدولة المزعومة على تصدير أبو بكر البغدادي في المشهد الإعلامي، سواء بحديثه الصوتي أو المرئي، أو حتى بالحديث عنه في المقاطع المرئية الأخرى، مثل سلسلة “العاقبة للمتقين” التي نشرتها وسائله، و كان جُلّها حديثًا عنه وعن بيعته، وعن وجوب طاعته ووصفه بأفضل الصفات.
جعل هذا من أبو بكر البغدادي شخصية معنوية للتنظيم، الأمر الذي انعكس سلبًا على عناصر وأتباع “داعش” الذين انقسموا بعد مقتل البغدادي لتيارات نسبة إلى اختلافها مع الزعماء الذين خلفوه، لا سيما أن مقتله قد جاء في مرحلة تكوين جديدة للتنظيم بعد انهياره المكاني وخسارته لآخر معقل في الباغوز.
ومن الملاحَظ لدى المتابع لسياسة “داعش” مع كل تنصيب لـ”خليفة” جديد (كما يحلو للتنظيم تسميتهم) بداية لمرحلة مختلفة، وهذا ما له دلائل كثيرة حول سعي الزعماء على التتالي للمحافظة على البقاء، غير أن التقلُّص في ظل تكثيف القوى الدولية عملياتها المتمثلة في مكافحة الإرهاب، أدّى إلى تشتت واضح لدى “داعش”، لا سيما تنوع السيطرة والنفوذ للقوى في المناطق التي تتواجد فيها خلايا التنظيم، حيث يُعتبر العدو الأول لجميعها.
كما أن تنظيم “داعش” كان يعتمد بشكل كبير على الدعاية، من خلال استجرار العواطف والفتنة في الخطاب، ومن المعروف بذلك المتحدث الأبرز للتنظيم أبو محمد العدناني، الذي كانت تسجيلاته سببًا في استقطاب الكثير من المغرر بهم للانضمام إلى “داعش” منذ الإعلان عن دولته المزعومة، وكيف أثّر مقتله سلبًا على تراجع الأسلوب الدعائي، وأيضًا يعود إلى فقدان “داعش” التأثير للحصول على حاضنة، مع توالي خسارته للعنصر البشري والجغرافي.
“داعش”.. من الدولة المنشودة إلى الأوكار
يتواجد تنظيم “داعش” اليوم، وفق تقارير، على شكل مجموعات صغيرة متوزعة في نقاط سرية من البادية الممتدة من أرياف حمص وحماة وجنوب حلب، مرورًا بتدمر، وصولًا إلى مناطق غرب دير الزور وريف الرقة، وهي المناطق التي تسيطر عليها ميليشيات إيران والنظام وروسيا.
أما في مناطق سيطرة “قسد” وداعميها، فتتواجد خلايا “داعش” في جيوب صغيرة بمناطق شبه خاوية جنوب الحسكة، وفي أرياف الرقة ومناطق متفرقة بريف دير الزور الواقع شرق ضفة الفرات.
فقدَ التنظيم مع خسارته الجغرافية العديد من المقومات، وما بقيَ له سوى خبرة التنظيمات الجهادية في التخفّي والتحرك ضمن قيود التضاريس والظروف الأخرى، لكن تعدد القوى المسيطرة في سوريا، لا سيما المناطق التي يتخذ فيها أوكارًا لخلاياه، أضاف جزئية صغيرة من الخصوصية.
وذلك -على ما يبدو- ليس العائق الأكبر أمام فقدانه ثقة العناصر، نتيجة لانخفاض المستوى العملياتي وانشغال المجموعات في تأمين قوتها وإمداداتها، وانفراد قادة المجموعات المتفرقة بالقرار.
وبحسب الأحداث على مرّ قرابة الـ 4 سنوات، منذ مقتل الزعيم الأول أبو بكر البغدادي وتولّي 4 خلفاء بعده التنظيم، ورغم خسارته لآخر منطقة نفوذ شرق سوريا وانحيازه إلى جيوب وأوكار سرية، فإن ذلك كلّه لا يعني انتهاء “داعش” تمامًا، وهذا ما تؤكده بيانات رسمية ودراسات وتقارير صحفية كثيرة.
المركز الأوروبي لمكافحة الإرهاب
ولعل من أبرز الهجمات لـ”داعش” منذ انقضاء سيطرته وانتقاله إلى مرحلة التخفي، هجوم خلاياه في 20 يناير/ كانون الثاني 2022 على سجن غويران “سجن الحسكة المركزي”، أو ما يعرَف باسم “سجن الصناعة“، الواقع تحت إدارة “قسد”، ويعدّ من أكبر السجون التي تحتوي على أسرى من عناصر التنظيم (قرابة 5 آلاف سجين بحسب تقارير) آنذاك.
حيث جاء الهجوم بالتزامن مع عصيان للسجناء من عناصر “داعش” المعتقلين، واستمرت الاشتباكات التي وُصفت بالأشرس داخله 9 أيام، قبل أن تستعيد “قسد” بدعم من قوات التحالف الدولي السيطرة على السجن.
وأدّت المعركة إلى مقتل المئات من الطرفَين، “قسد” و”داعش”، في حين تحدثت تقارير عن تمكُّن عناصر بارزين في تنظيم “داعش” من الهروب.
ورغم أن الهجوم على سجن الحسكة يعدّ من أكبر عمليات التنظيم وأكثرها جرأة منذ إنهاء سيطرته المطلقة على مناطق واسعة من سوريا والعراق، غير أن الكثير من النشطاء المحليين وصفوه بالانتحار، لما كان له من انعكاس سلبي على بنية “داعش” الداخلية، ما أدّى إلى الانقسام تباعًا، من خلال المجريات التي تؤكد فقدان التنظيم اليوم للمركزية، وذلك أيضًا من المؤشرات على تأثر “داعش” بمقتل زعمائه.
لا مركزية.. وخلافات داخلية على التركة
وبحسب شبكات ومواقع إخبارية محلية، شهدت عدة مناطق في ريف دير الزور الشمالي وجنوب الحسكة عمليات تصفية داخلية بين عناصر التنظيم أنفسهم.
يقول الناشط خيرات الخلف، وهو من أبناء دير الزور التي سيطر على معظمها التنظيم سابقًا، ولا يزال يتواجد في جيوب فيها حتى اليوم، إن التنظيم تراجع بشكل كبير تنظيميًّا، وبات يفتقد للتأثير حتى على المستوى المنهجي لتعزيز ادّعاءاته.
إذًا بالتالي بات يفتقر إلى أحد أشكال الدعم المعنوي لعناصره، ليصل التنظيم إلى حالة من التشظّي منقسمًا إلى مجموعات من الخلايا تعمل بشكل منفصل، وربما تختلف بين بعضها، وذلك يشير إلى وجود خلافات داخل التنظيم باتت تظهر.
“جنت على نفسها “داعش””
ويضيف الخلف بقوله: “أما على صعيد الفاعلية، باتت معظم عمليات “داعش” استفزازية للمدنيين، ولا تخدم سوى القوى المسيطرة والمفروضة على الواقع، الأمر الذي زاد من خطورة التنظيم وأصبحت محاربته أولوية بالنسبة إلى الأهالي”.
مكملًا: “حيث تتركز عمليات خلايا “داعش” في مناطق نفوذ “قسد” يسار ضفة نهر الفرات في الجباية، وتحصيل ما تسميه بـ”الزكاة” التي تفرضها على التجار وصغار الكسبة والرعاة والملّاك تحت التهديد بالقتل”.
هذا عدا عن المضايقات الأخرى التي تفوق الوضع المعيشي المتردي، وتزيد من سوء الوضع الأمني، وهو ما يولد لدى الأهالي الشعور بالاستهداف، فعلى سبيل المثال تلاحق خلايا التنظيم شخصيات عشائرية بتهمة التعامل مع “قسد”، وتوجّه إليه أصابع الاتهام في مقتل عدد من الشخصيات البارزة عشائريًّا بريف دير الزور (مثل عناد الحسن من شيوخ عشيرة البوفريو، ومطشر حمود الهفل أحد شيوخ قبيلة العكيدات الذي تُتهم “قسد” أيضًا باغتياله).
كما تهدد أيضًا الأفراد المنتسبين إلى “قسد”، ويشمل ذلك الموظفين في الخدمات والمجالس المدنية من المكون العربي فقط، في الكثير من عمليات التصفية والقتل التي تشهدها المنطقة بشكل متكرر.
ورقة قتال “داعش” في سوريا رابحة دومًا
شبّه الكثيرون تنظيم “داعش” بحصان طروادة جديد، لما قدّم للميليشيات الإيرانية ولنظام الأسد و”قسد” وغيرها من القوى المفروضة من خدمات لا تحصى، بدأت بتسليمه المناطق المحررة التي استولى عليها التنظيم بعد قتاله فصائل الجيش السوري الحر، وليس انتهاءً بإعطائهم غطاء دوليًّا لانتهاكاتهم بحقّ الشعب السوري، بذريعة محاربة الإرهاب المتمثل بـ”داعش”.
فما زالت ورقة محاربة “داعش” تلعب دورًا مجديًا في تحصيل المكاسب لقوى الأمر الواقع، وذلك أحد المؤشرات على عدم نية أي طرف في إنهاء وجود التنظيم تمامًا، والإبقاء على شماعة “داعش
ولو إعلاميًّا فقط.
ويفسّر هذا ورود الكثير من الأنباء عن عمليات خلّبية وعن انتهاكات متكررة تُنسب إلى “داعش”، وبصمات الميليشيات واضحة فيها، كما حدث قبل أشهر بعدد من المجازر بحقّ رعاة للغنم وورش الكمأة في البادية الشامية، القابعة تحت سيطرة إيران وروسيا ونظام الأسد.