نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية تقريرًا قالت فيه إن القيادة العسكرية الباكستانية تسعى لطرح بعض أصول الدولة للبيع للتخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية التي تواجهها مؤخرًا، ولتوفير العملة الصعبة من أجل القدرة على الوفاء بالتزامات الدولة واحتياجاتها في وقت تعاني فيه من مأزق اقتصادي خانق.
التقرير كشف عن مفاوضات تجريها إسلام أباد حاليًّا مع بعض دول الخليج وعلى رأسهم السعودية والإمارات وقطر من أجل شراء بعض أصول الدولة في قطاعات الطاقة والبنى التحتية والتجارة والزراعة نظير عدة مليارات يتم إنعاش خزانة الدولة الباكستانية بها خلال المرحلة القادمة.
يذكر أنه في يوليو/تموز 2022 اعترض رئيس الوزراء الباكستاني المحتجز حاليًّا، عمران خان، على مرسوم صادر من مجلس الوزراء الباكستاني ينص على بيع أصول الدولة، معتبرًا أن ذلك خيانة للوطن وسرقة لموارده، قائلًا إنه ينبغي عدم السماح لهؤلاء اللصوص (حكومة شهباز شريف) الذين أتوا إلى السلطة بمؤامرة أمريكية ببيع أصول الدولة.
وكانت صحيفة “دون” الباكستانية التي نقلت اعتراض خان على هذا المخطط قد أوضحت أن “المرسوم ينصّ على بيع حصص من شركات النفط والغاز ومحطات الطاقة المملوكة للحكومة إلى الإمارات والسعودية وقطر، ودول أخرى”، مضيفة على لسان رئيس الوزراء المحتجز أن هؤلاء اللصوص (في إشارة إلى حكومة شهبار شريف) يحاولون بيع الأصول الوطنية، مناشدًا الشعب الباكستاني بعدم السماح لهم بذلك.
هرولة الخليجيين للاستثمار في شراء أصول الدولة من مصر إلى باكستان، أثارت الكثير من التساؤلات بشأن دوافع تلك الإستراتيجية الجديدة التي تتبناها بعض العواصم الخليجية خاصة الرياض وأبو ظبي، الأمر الذي يفتح الباب أمام الحديث عن ساحات أخرى قد تدخلها الأموال الخليجية للحصول على أصولها.
باكستان.. سوق مهيأ للخليجيين
منذ عام 2021 تتسابق كل من السعودية والإمارات على الاستثمار في باكستان، إذ قدمت كلتا الدولتين تسهيلات للحصول على فرص استثمارية أكبر في هذا البلد الكبير، وهو ما وضع إسلام أباد في مأزق حقيقي فيما يتعلق بالتوازن بين البلدين الخليجيين ومصالح باكستان معهما.
بحسب الصحيفة الأمريكية فإن هناك مفاوضات حاليًّا مع الجانب السعودي لشراء منجم رصاص يتم تطويره بكلفة 7 مليارات دولار من الشركة الكندية باريك غولد غرب أفغانستان، كذلك بناء مصفاة نفط في باكستان يمكن أن تكلف 14 مليار دولار وفق تقديرات مسؤولين في إسلام أباد والرياض.
التقرير كشف عن تحول في إستراتيجية الجيش الباكستاني فيما يتعلق بالتشديدات والتضييقات التي كانت موجودة أمام الاستثمارات الأجنبية، حيث يسعى لتخفيفها بشكل جذري بما يفتح الباب أمام الكثير من رؤوس الأموال الأجنبية التي اشتكت قديمًا من تقاعس القرار السياسي.
وتحاول المؤسسة العسكرية الباكستانية تقديم أوراق اعتمادها بصفتها القادرة على تحسين الأوضاع الاقتصادية في محاولة للتغطية على انتهاكاتها المستمرة بحق المعارضة السياسية وتشديدها الخناق على الحريات في البلاد، وهو ما دفعها لطرق أبواب الأموال الخليجية خلال الآونة الأخيرة.
وتزخر الساحة الاقتصادية الباكستانية بالكثير من المجالات المغرية للاستثمارات الأجنبية، من أبرزها المناجم والبنى التحتية للطاقة والمزارع والمؤسسات التجارية التابعة للدولة، وهي القطاعات التي تسيل لعاب صناديق السيادة في الخليج بجانب رجال الأعمال من القطاع الخاص.
ومن بين العقود التي أثارت اهتمام المستثمر الخليجي في باكستان، إدارة خدمات جزء من مطار إسلام أباد حيث تتنافس عليه كل من قطر والإمارات، كذلك الاستثمار في شركة الخطوط الجوية الباكستانية، فيما نقلت الصحيفة عن وزير النفط الباكستاني مصدق مالك تصريحاته بشأن قرب اكتمال صفقة مصفاة البترول، التي ستكون في ميناء غوادار الذي تطوره الصين على بحر العرب، إضافة إلى ما يثار بشأن استمرار المفاوضات بين السعوديين والباكستانيين لشراء 50% من منجم ريكو ديق المملوك للحكومة الباكستانية.
وترى الصحيفة أن هذه الخطوة تعكس التحول الجذري الكبير لدول الخليج من سياسة منح القروض والمساعدات للدول الفقيرة إلى الاستثمار عبر شراء الأصول والسندات المملوكة لتلك الدول، وهو التحول الذي يجيب عن الكثير من التساؤلات عن اختيار بلدان بعينها لتقديم عروض خيالية لشراء أصولها، فالأمر ليس عشوائيًا كما يظن البعض.
وكان نائب وزير الخارجية ووزير التعدين السعوديين زارا إسلام أباد في هذ الشهر وذلك من أجل مناقشة الفرص الاستثمارية المتاحة هناك، تزامن ذلك مع بعض الإجراءات والخطوات التي تتخذها باكستان لـ “تستيف” المشهد السياسي من خلال حل البرلمان والتحضير لانتخابات قد تعقد العام المقبل، كما أن خطوة تعيين حكومة لتصريف الأعمال في البلاد لفترة انتقالية ربما يكون مغريًا لإبرام العديد من الصفقات في هذا الوقت.
الأمن والسياسة والاقتصاد.. ثلاثية مترابطة
لم يكن الاقتصاد هو الهدف الوحيد لهذا التوجه السعودي الإماراتي بشأن الاستثمار في أصول الدولة الباكستانية، فهناك أهداف أخرى تكشف وبشكل كبير الكثير من الدوافع التي قادت الخليجيين لهذا المسار، الذي يتمحور حول استغلال الازمات الاقتصادية لبعض البلدان والانقضاض عليها للسيطرة على أصولها وممتلكاتها.
في يناير/كانون الثاني الماضي كانت السعودية المحطة الأولى لقائد الجيش الباكستاني، الجنرال عاصم منير، الذي اجتمع مع ولي العهد محمد بن سلمان، وناقشا سبل تعزيز التعاون وبحث المزيد من آليات الانخراط السعودي في المشهد الباكستاني.
القدرات العسكرية الهائلة للجيش الباكستاني، صاحب الإمكانيات النووية المؤثرة، والثقل الإقليمي لتلك الدولة التي يتجاوز عددها السكاني 240 مليون نسمة، فضلًا عن موقعها اللوجيستي الكبير، وتأثيرها السياسي الواضح في ضوء حدودها الملاصقة للعديد من القوى المؤثرة في المنطقة، كل ذلك كان على قائمة الأهداف والدوافع السعودية الإماراتية للتوغل أكثر في المضمار الباكستاني.
هذا الرأي يتناغم بشكل واضح مع تصريحات الباحثة بجامعة كولومبيا، كارين يونغ، التي نقلت عنها “وول ستريت جورنال” قولها “بالنسبة لدول الخليج، باكستان ومصر تعتبران أولوية أمنية إقليمية ولا تستطيع رؤية دول فاشلة في مصر وباكستان”، وهو ذاته الذي أكد عليه مؤسس زين فينتشر كابيتال في باكستان، فيصل أفتاب الذي قال “لدى مصر وباكستان أعداد كبيرة من السكان ومساحات من الأراضي الزراعية وجيوشًا كبرى، كل هذه الصفات غير موجودة في دول الخليج”
اختيارات ليست عشوائية.. النفوذ في ثياب الاقتصاد
لم يكن اختيار دول بحجم وثقل مصر وباكستان لشراء الأصول السيادية بها وتعزيز النفوذ بداخلها اختيارًا عشوائيًا لدول الخليج، خاصة تلك الطامعة والطامحة في تعزيز نفوذها الإقليمي والدولي، حيث تحاول تلك البلدان توسعة رقعة حضورها بما يخدم أجنداتها التوسعية، وإن كان عبر الباب الاقتصادي الأكبر، كونه الجسر العريض لتحقيق تلك الأهداف بصورة مشروعة وسهلة وسريعة العائد.
خلال العامين الماضيين نجحت كل من السعودية والإمارات، وقطر مؤخرًا، في شراء عشرات الأصول المصرية في شركات وقطاعات حيوية، بعضها يحقق نجاحات كبيرة، وإن تراجعت تلك الهرولة في الأشهر الأخيرة بسبب عدم استجابة القاهرة لبعض الشروط والمطالب الخليجية بشأن عدد من الصفقات، خاصة للشركات المملوكة للجيش التي تتمتع بامتيازات خاصة أسوة بنظيرتها في القطاع الخاص أو الحكومي.
وهاهي تلك الدول تنقل بوصلتها إلى باكستان – الغنية بمواردها لا سيما في مجال الطاقة – التي تحتل مكانة كبيرة في خريطة الدول ذات الثقل الأسيوي، رغم وضعها الاقتصادي الصعب، فإنها تمثل فرصة مواتية للرياض وأبو ظبي لتوسيع نفوذهما في العمق الأسيوي، بما يضعهما على خريطة القوى الأكثر نفوذًا في قارة آسيا إلى جوار الصين وروسيا.
ومن باكستان الأسيوية إلى أدغال إفريقيا، حيث المخطط السعودي الإماراتي لتعزيز نفوذ البلدين في كل من السودان وإثيوبيا، ومن المتوقع الصومال ودول القرن الإفريقي، بجانب دول الساحل التي تعاني اليوم من انفراط عقد النفوذ الفرنسي ليفتح الباب أمام قوى أخرى.
وتتسلح الدول الخليجية بسلاح الاقتصاد لفتح كل الأبواب المغلقة في تلك البلدان، فالسودان الذي يحتل موقعًا لوجيستيًا محوريًا على البحر الأحمر وبالقرب من القرن الإفريقي الذي يمثل عسكري الحدود الأمين للعديد من الممرات المائية المهمة التي تعبر منها أكثر من نصف التجارة العالمية، إضافة إلى البعد اللوجيستي المتمثل في مراقبة الوضع في اليمن ووضعه تحت مجهر الاهتمام والسيطرة، كل ذلك يدفع الحكومات الخليجية لتغيير بوصلتها التوسعية إلى تلك المناطق الحيوية.
ونجحت بالفعل عواصم النفط في استغلال الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية المتردية في تلك البلدان للحصول على موطئ قدم لها وهو ما لم يحدث في السابق، فالسودان اليوم الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام السعوديين كان بالأمس حجر عثرة أمام توسيع النفوذ السعودي في إفريقيا رغم التنازلات التي قدمها طيلة عهد عمر البشير، الوضع كذلك إزاء الإمارات التي طُردت قبل أعوام قليلة من الصومال وتعاني من صعوبات في إريتريا وجيبوتي، هاهي اليوم قد تجد الفرصة مواتية تمامًا لاستعادة نفوذها المتراجع في تلك المناطق اللوجيستية.
ومن المتوقع أن تتحول تلك الأهداف السهلة في آسيا وإفريقيا إلى ساحات كبيرة لمعارك محتملة بين السعودية والإمارات، المتسابقتين على جائزة الريادة الإقليمية الشرق أوسطية، وسط خريطة معقدة من التشابكات والتحالفات التي تُحدث الكثير من التغيرات والتحولات في خريطة النفوذ والمصالح.