عشر سنوات مرت على مذبحتي رابعة العدوية والنهضة بشرقي القاهرة وغربها، وما زالت العدالة غائبة، والحالة الحقوقية تزداد سوءًا يومًا بعد آخر، مئات سقطوا قتلى، وآلاف أُصيبوا في هذه المذبحة، وفقًا لأقل التقديرات الرسمية، وأُحرق عشرات المصابين أحياءً في خيمهم، وجُرفت جثثهم، وأُلقيت في صناديق القمامة في مشاهد صادمة لم تبرح ذاكرة شهودها حتى اليوم.
ربما لا يبدو هذا الموت الجماعي المجاني كافيًا لنظام الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، الذي يقبض على أدوات القوة الأمنية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية كافة في البلاد، فسخَّرها للنيل من خصومه، وبدأت أذرعه الإعلامية بتشويه صورة المعتصمين السلميين، وانتقلت آلياته العسكرية لترتكب أفظع الجرائم الإنسانية بحقهم، ثم أجهز القضاء على ما تبقى منهم، وما زال المصريون يعيشون في ظل تلك الأحداث المروعة.
من نجا من القتل أو السحل كان الاعتقال من نصيبه بعد التنكيل بهم وتعذيبهم أمام الكاميرات قبل ترحيلهم إلى أماكن الاحتجاز
ما قبل المذبحة
لم تحدث مذبحة رابعة من فراغ، فهي حلقة غير مسبوقة من العنف الذي قادته الدولة ضد المتظاهرين المدنيين كجزء من الإستراتيجية المضادة للثورة التي يقودها السيسي الآن، وكان ذلك تتويجًا لجهود الدولة العميقة المضادة للثورة، التي كانت تلعب دورًا منذ الإطاحة بالرئيس الأسبق حسني مبارك وسط احتجاجات في أوائل عام 2011.
فتحت الإطاحة بنظام مبارك المجال السياسي في مصر بعد عقود من القمع، ما سمح بظهور جماعات معارضة سياسية كانت محظورة في السابق، مثل جماعة الإخوان المسلمين، في النهاية، وضعت مصر على طريق، وإن لم يدم طويلًا، نحو التحول الديمقراطي.
بعد عام واحد بالضبط من الانتخابات الرئاسية، اندلعت الاحتجاجات مرة أخرى، وكانت هذه هي الفرصة التي كانت الدولة العسكرية العميقة تنتظرها، وفي 3 يوليو/تموز 2013، دعم الجيش الاحتجاجات، وأُطيح بمرسي في انقلاب عسكري بقيادة السيسي، الذي أصبح رئيسًا في العام التالي، وشكل الانقلاب بداية حملة معادية للثورة أدت في النهاية إلى المذبحة التي يُشار إليها عادة باسم نهاية الربيع العربي.
بدأ الجنرال المنقلب التجهيز لمغامرته الدموية مع اللحظات الأولى لانقلابه على السلطة حين سارع باعتقال عشرات القادة المعارضين إلى جانب غلق القنوات المؤيدة للرئيس، لكن الأخطر كان منحه الضوء الأخضر لقوات الجيش والشرطة في فض التجمعات السلمية باستخدام القوة المفرطة إلى جانب استعانتها بالبلطجية في أماكن أخرى، ما أسقط عددًا من القتلى والجرحى.
في 28 يونيو/حزيران 2013، توافدت حشود من المؤيدين للرئيس المعزول محمد مرسي على ميدان رابعة العدوية، تمسكًا بالشرعية ورفضًا لانزلاق الجيش في الحياة السياسية، تظاهروا واعتصموا ونصبوا الخيام، وقالوا إن اعتصامهم سلمي، لكنهم لم يسلموا من الآلة الإعلامية المؤيدة للانقلاب التي لم تنفك عن التحريض وقتل المعارضين ليل نهار.
لم تكن الآلة العسكرية أقل خطرًا من الآلة الإعلامية بل زادت، وفي فجر 8 يوليو/تموز 2013، نفذت قوات الجيش أول مجازرها بحق المعتصمين السلميين، إذ هاجمتهم بلا هوادة في أثناء صلاتهم بالقرب من مقر الحرس الجمهوري، لتوقع منهم عشرات القتلى والجرحى، وكانت المجزرة الأولى تدريبًا للقوات على طريقة الفض، وتمهيدًا لاستساغة الدماء المصرية وتبريرها لدى مؤيدي السلطة الجديدة.
ومع إشراقة يوم 14 أغسطس/آب عام 2014، اقتحمت آليات الجيش العسكرية ومدرعات الشرطة الميدان من جميع مداخله، وأمطر قناصة الأمن المتظاهرين بالرصاص، وأطبقوا الخناق على المعتصمين، ونفَّذوا ما أسمته منظمات حقوقية “إحدى أسوأ عمليات القتل الجماعي للمتظاهرين في تاريخ مصر الحديث”، حيث يقارن عدد القتلى أو يتجاوز مذبحة ميدان تيانانمين في الصين عام 1989، وذلك بعكس حديث السلطات المصرية عن تعاملها مع المعتصمين وفقًا للمعايير الدولية.
كان هذا هو الدليل النهائي على عدم ظهور نظام سياسي جديد في أعقاب ثورة 2011، فقد قُتل ألف أو يزيد وأُصيب الآلاف وفقًا لحقوقيين، وأحرقت قوات الأمن المصرية الأدلة، بما في ذلك الجثث، وأجبرت العائلات المصرية على قبول شهادات وفاة تفيد بأن أحباءها ماتوا “لأسباب طبيعية”، وتحدثت تقارير رسمية عن عشرات القتلى من الضباط، ولم تدعم هذه الرواية منظمات مستقلة.
أُحرقت الخيام بمن فيها، واقتحم الأمن مسجد رابعة والمستشفيات الميدانية بداخله والمحيطة به، وامتلأ المكان بالحثث، ووفقًا لشهود الواقعة، لا ممرات آمنة لخروج المعتصمين كما روَّج الإعلام المصري، فمن نجوا من القتل أو السحل كان الاعتقال من نصيبه بعد التنكيل بهم وتعذيبهم أمام الكاميرات قبل ترحيلهم إلى أماكن الاحتجاز.
تباينت التقارير الصادرة عن المنظمات المحلية والدولية بشأن أعداد المعتقلين في ذلك اليوم، وكان أغلبها يتحدث عن آلاف الأشخاص نقلتهم قوات الأمن إلى السجون وأماكن الاحتجاز بعد المذبحة، وبعد أيام قليلة، قُتل 37 معتقلًا اختناقًا بعد أن ألقت قوات الأمن عليهم الغاز المسيل للدموع داخل عربة ترحيلات كانت في طريقها إلى سجن أبو زعبل، وقيل إنهم تعرضوا للتعذيب والحرق بهدف إخفاء الأدلة.
كما قامت الشرطة والجيش بتصفية المتظاهرين المؤيدين للإخوان في عدة مناسبات أخرى في يوليو/تموز وأغسطس/آب 2013، بما في ذلك ما لا يقل عن 51 شخصًا أمام مبنى الحرس الرئاسي في 8 يوليو/تموز 2013، و87 آخرين على الأقل في ميدان النهضة في 14 أغسطس/آب 2013، وما لا يقل عن 95 آخرين في منطقة المنصة بمدينة نصر يوم 27 يوليو/تموز 2013.
صحيح أن القضاء المصري فتح تحقيقًا في مجرزة رابعة، لكن المثير أن المجني عليهم تحولوا على ما يبدو إلى جناة، فلا أحد من الجيش أو الشرطة يُحاكم في هذه القضية، واقتصر الأمر على توجيه تهمة الإهمال والقتل الخطأ لحفنة من العسكريين، وصار المعتصمون هم المتهمون.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن مجزرة رابعة غيَّرت المشهد الاجتماعي والسياسي في مصر بشكل كبير، ولم تكتف بإعادة الدولة العميقة فحسب، بل قضت على أي آمال في التغيير بعد عام 2011، وعززت تنصيب نظام معادٍ للثورة يتسم بتراجع مطرد في حقوق الإنسان، ومحو ما تم تحقيقه من مكاسب اجتماعية سياسية قليلة بعد الثورة.
إرث رابعة الثقيل
بالنسبة للعديد من المتضررين بشكل مباشر وأسرهم، لا يزال إرث ذلك اليوم المظلم باقيًا، فقبل 5 سنوات، حُكم على 650 شخصًا بالسجن لمدة تصل إلى 25 عامًا في تلك القضية المتداولة في المحاكم لسنوات، وأُدين المتهمون، بمن فيهم المتظاهرون والصحفيون، بالمشاركة في “احتجاجات غير مصرح بها، وجرائم أخرى تتراوح بين القتل، والتحريض على العنف والانتماء لجماعة محظورة”.
أوفى السيسي بوعده، وعمَّق جراح أهالي الضحايا، فلم تجرِ بالفعل محاسبة أي من تورط في قتل المعتصمين السلميين، ولم يجر أي تحقيق مستقل بشأنهم
وما زال مئات المعتقلين منهم يعانون داخل السجون منذ سنوات بعيدًا عن ذويهم ووسط ظروف شديدة السوء، حيث تعج السجون وأماكن الاحتجاز بآلاف المعتقلين لأسباب سياسية منذ فض الاعتصام، بعضهم محبوس إلى أجل غير مسمى دون أن توجه إليه أي تهم أو يتم إحالته إلى المحكمة، والبعض الآخر يتعرض لطائفة من التهم الجاهزة والمتشابهة، التي وصلت إلى السجن المؤبد والإعدام.
بعد سنوات من الحبس الاحتياطي على ذمة القضية التي عُرفت إعلاميًا بـ”فض اعتصام رابعة”، جرى معاقبة الضحايا أنفسهم بأحكام بين الإعدام والمؤبد والسجن المشدد، وكلا الفريقين محروم من الحصول على أبسط الحقوق والإجراءات القانونية والإنسانية في ظل سلطة تحاول خلع رداء الوطنية عنهم، وتصفهم بـ”الإرهابيين وأعداء الوطن والدولة”.
وحتى يومنا هذا، لا يزال العشرات ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام فيهم، ويوجد العشرات خلف القضبان لمجرد مشاركتهم في الاعتصام، وهناك آخرون ممن حُكم عليهم غيابيًا أُجبروا على مغادرة مصر خوفًا من الاعتقال والتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة والمحاكمات الجائرة والاختفاء القسري، ويعيشون في المنفى غير قادرين على العودة إلى ديارهم.
حتى أولئك الذين أطلق سراحهم بعد سنوات من الاعتقال على خلفية محاكمة فض رابعة العدوية يواجهون قيودًا صارمة على حريتهم بسبب إجراءات المراقبة القمعية، فيضطرون إلى قضاء 12 ساعة كل ليلة داخل أقسام الشرطة في أماكن مزدحمة ذات تهوية سيئة ومحدودية الوصول إلى المرافق الصحية ولا يمكنهم استقبال الزوار أو التواصل مع العالم الخارجي، هذه الإجراءات الصارمة تنتهك حقوقهم في الحرية والعمل والتعليم والتجمع السلمي، وتؤثر بشدة على حياة ذويهم وتقيد حقوقهم.
واقع ربما أسس وفقًا لمنظمات حقوقية نهجًا أمنيًا جديدًا تعامل به نظام السيسي بعد فض اعتصام رابعة مع الآلاف من رافضي الانقلاب، وقد طال في طريقه عائلات الضحايا أو المحبوسين على ذمة القضية أو الصادر بحقهم أحكام غيابية أو الفارين منهم من بطش النظام أو ممن يحسبهم النظام ضمن قائمة معارضيه، بالتهديد والاعتقال تارة والملاحقة الأمنية تارة أخرى، في محاولة للضغط على كل من شارك في اعتصام رابعة، لكنه نجا في اللحظات الأخيرة بعد أن حانت لحظة المذبحة، وانكشفت حقيقة الجنرال المتعطش للدماء، حينما انطلق الرصاص من أسلحة القناصة نحو رؤوس المعتصمين وصدورهم العارية دون تفريق بين رجل وامرأة أو شيخ وطفل.
غياب العدالة والإفلات من العقاب طوال هذه السنوات بات أكثر قسوة على ذوي الضحايا من هذه المشاهد، لكن الأكثر قسوة ووحشية وفقًا لأهالي الضحايا هو تشجيع قوات الأمن على تنفيذ عمليات الاختفاء القسري الجماعية وتعريض المعتقلين للتعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة، واستمرار نزيف الدماء المصرية البريئة بالتصفيات الجسدية والقتل خارج القانون تارة، والقتل بالإهمال الطبي داخل السجون والمعتقلات تارة أخرى أو بأحكام الإعدام الجماعية في محاكمات تفتقر إلى الحد الأدنى من معايير العدالة وفقًا لمنظمات حقوقية دولية.
لم تقتصر تبعات المذبحة على من لقوا مصيرهم أو فروا من وجه النظام بل أورثوا معاناتهم لأهلهم، وكان في مقدمتهم الرئيس الراحل محمد مرسي الذي اُرتكبت مذبحة رابعة للتنكيل بخصومه والمطالبين بشرعيته، وفقد حياته نتيجة الإهمال الطبي وفقًا لأنصاره ومنظمات حقوقية طالبت بتحقيق دولي في ظروف وفاته، وأجبرت السلطات المصرية أهله على دفنه ليلًا دون جنازة رسمية تليق بأول رئيس مدني منتخب أو حتى جنازة شعبية، ومنعت أسرته من تلقي العزاء فيه، وهو ما اعتبره مراقبون “محاولة لإخفاء جريمة بحقه”.
وحتى اليوم، ما زالت عشرات الأسر المصرية تبحث عن إثبات لوفاة أو اختفاء أقاربهم قسريًا في هذا اليوم، ومن بينهم أشخاص تصادف وجودهم في أماكن قريبة من الميادين التي شهدت المجزرة، لكنهم قضوا أو اُعتقلوا وأنكرت الأجهزة الأمنية وجودهم داخل المعتقلات، وكأن “ليس في الحياة راحتهم ولا في الموت مستقرهم”، ومع ذلك، يعيش أهلهم على أمل معرفة مصيرهم.
المذبحة التي توقع البعض أن تكون آخر المذابح، فتحت الباب أمام سيل من المذابح المستمرة بذريعة الحرب على الإرهاب، وشكلت أحكام الإعدام بدورها مقصلة أخرى حصدت المزيد من الأرواح، وكانت الأحكام الصادرة بحق المئات في قضية “رابعة العدوية” الحلقة الأهم فيها، إذ قضت محكمة جنايات القاهرة، في يوليو/تموز 2018، بإعدام 75 شخصًا (من بينهم 31 من المتهمين غيابيًا)، وهو أكبر عدد من أحكام الإعدام التي تصدر في قضية واحدة، والسجن لفترات طويلة تتراوح بين 5 و15 عامًا لحوالي 500 متهمًا آخرين، من بينهم ابن الرئيس الراحل أسامة مرسي، في محاكمات وصفتها منظمات حقوقية محلية ودولية بـ”غير العادلة”.
وفي منتصف عام 2021، صدرت أحكام نهائية بإعدام 12 شخصًا بينهم قيادات في جماعة الإخوان المسلمين “المحظورة”، في حين لا تزال محاكمة آخرين جارية حتى اليوم، وتهدد بحصد أرواح آخرين قالت منظمات حقوقية دولية إنها لا تتوفر فيها معايير العدالة، بل وصفتها تقارير أخرى بأنها أداة من أدوات معاقبة الخصوم السياسيين، فأغلب من قُدِّموا للمحاكمة، وصدرت ضدهم أحكام بالسجن والإعدام هم من ذوي الضحايا بدلاً من الجناة، وهو ما يراه مراقبون متوافقًا مع تسجيلات مصورة لقائد الجيش وقتها عبدالفتاح السيسي تعهد فيها بعدم محاسبة أي ضابط تورط في قتل أو إصابة المتظاهرين.
تسريب مصور للسيسي تعهد فيها بعدم محاسبة أي ضابط تورط في قتل أو إصابة المتظاهرين.
أوفى السيسي بوعده، وعمَّق جراح أهالي الضحايا، فلم تجرِ بالفعل محاسبة أي من تورط في قتل المعتصمين السلميين، ولم يجر أي تحقيق مستقل بشأنهم، رغم مرور كل هذه السنوات على سقوط دماء مصرية بنيران قوات الجيش والشرطة في شوارع البلاد، واقتصر الأمر على توجيه تهمة الإهمال والقتلِ الخطأ لبضع عسكريين، وكان الوضع معكوسًا، حوكم المعتصمين وأُدينوا بقائمة طويلة من التهم الفضفاضة.
اغتال النظام تدريجيًا ذوي الضحايا معنويًا كما اغتال ذويهم جسديًا، فهم يرون الإخفاق في محاسبة فرد واحد من قوات الأمن أو المسؤولين عنهم على أعمال القتل وقادة مصريين كبار وجَّهت منظمة “هيومن رايتس ووتش” إليهم اتهامات بارتكاب “جرائم ضد الإنسانية” أثناء فض الاعتصام، ومن بينهم السيسي نفسه الذي أصبح الرابح الوحيد بذكرى رابعة مقارنة بباقي شركاء قرار سحق الاعتصام.
في هذا الصدد، يذهب عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان إلى أن “الضحايا يمكن ارتكاب العنف بحقهم دون الخوف من الثأر والانتقام”، وقياسًا على مذبحة رابعة، يقول إنه “يمكن تعذيب الضحايا وإفلات الجاني من العقاب، بل يُعلن -على عكس المتوقع تمامًا- أن الضحية هو الجاني، ويرسم مقدرة الضحايا على سفك الدماء، ويصدر بيانات تُذّكر بضرورة توحيد الصفوف وحفظ قوة الجماعة ويقظتها الفائقة”.
المفارقة هنا أن النظام تجاوز هذه الحدود، وأسبغ على كل من شارك ونفَّذ “المذبحة” الحماية، وقدم حصانات قانونية تمنع محاكمة المشاركين بجرائم الفض، وعبر القاتلون فوق الجثث إلى مناصب أعلى، وضُحي ببعضهم كأكباش فداء، في حين تفرقت الطرق بقادة الاعتصام بين من انتهى به الأمر إلى غياهب السجون وغُرف الإعدام، ومَنْ اضطروا للهروب خارج البلاد بحثًا عن ممارسة دور سياسي معارض في المنافي وسط مخاوف من القبض عليهم وترحيله ليواجهوا مصير من سبقوهم.
هواجس رابعة في مخيلة السيسي
رغم مرور عقد على فض الاعتصام، تبدو علاقة السيسي بهذه المجزرة التي وقعت بعد شهرين من انقلابه، أقرب إلى المثل الشعبي المصري الذي يقول “اللي على راسه بطحة بيحسس عليها” في إشارة إلى مطاردة الجريمة لمرتكبها، فكثيرًا ما يتذكرها في حديثه سهوًا أو عمدًا.
وتشير كثير من الحوادث إلى أن هواجس “رابعة” لا تزال تؤرق السيسي، ولا يتوقف عن تبرير مذبحة ارتكبتها قواته، وفي أحيان أخرى لا يرغب في سماع اسم “رابعة” التي تحوَّلت في مخيلته إلى كابوس يطارده، ولا يستطيع الفكاك منه، وودَّ لو حذف الرقم 4 من الأعداد.
في البداية، سعى السيسي لمحو ذاكرة جماعية من القمع العنيف لمئات الآلاف من المتظاهرين الذين خرجوا في القاهرة للاحتجاج على الانقلاب العسكري، فبدأ بمحو اسم ميدان رابعة الذي ارتوى بدماء المئات، واستبدله بذكرى اغتيال هشام بركات، النائب العام الأسبق الذي قُتل في تفجير استهدف سيارته في صيف 2015، فسعت السلطات المصرية لتخليد اسمه لدوره في فض الاعتصام بالقوة، حيث صدر الأمر القانوني بالفض من النيابة العامة التي يترأسها.
ومثل كل نظام سياسي، تحاول الحكومة محو ما كان موجودًا من قبل واستخدام اسم أكثر انسجامًا مع سياساتها وتطلعاتها، فعندما وصل مبارك إلى السلطة بعد اغتيال أنور السادات، قام بتغيير اسم ميدان التحرير إلى ميدان أنور السادات، لكن لم يستخدمه أحد قط.
لذلك يبدو أن اسم هشام بركات لن يتم اعتماده بسهولة حتى بعد سنوات، وبدلاً من ذلك، أصبحت ساحة رابعة رمزًا للمقاومة، ربما مَنْ يدعم النظام كان سعيدًا بتبني تغيير الاسم لكن مَنْ لا يفعل ذلك استمر في تسميته القديمة، وحتى اليوم يلوِّح مرتادوا هذه المنطقة بأيديهم بإشارة رابعة (بأربعة أصابع) لسائقي وسائل النقل العام، وهي إشارة متعارف عليها بين المصريين لكن النظام يراها إشارة سياسية.
وكما كان متوقعًا ألا يختفي اسم رابعة بسهولة، سقط بعض المسؤولين في هذا “الخطأ” أمام الكاميرات وفي المناسبات العامة وأمام السيسي، ففي أبريل/ نيسان 2020، تحدث رئيس الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة المصرية اللواء إيهاب الفار، خلال الاحتفال بإنهاء أعمال الحفر في أحد الأنفاق أسفل قناة السويس، عن جسر شارع الطيران، وذكر أنه يمر أعلى ميدان رابعة، لينفعل السيسي مصححًا “الإثم” الذي ارتكبه المسؤول العسكري.
السيسي نفسه يعيش أسير جريمته، فقد أفسد عليه هذا الاسم بهجة الاحتفال بعدد من المشروعات التي افتتحها، ففي إحدى المناسبات، وخلال حديثه عن الموازنة العامة، تذكر مجزرة رابعة عند قوله إن “الموازنة تتضمن 4 أقسام”، مع الإشارة بيده رافعًا 4 أصابع، لكنه حاول تدارك الموقف وطمس الحقيقة برفعه الأصبع الخامس.
هل يغير طمس “المجرزة” حقيقتها؟
لطالما تعرض السيسي لانتقادات شديدة بسبب سيطرته المشددة على صناعة الترفيه، وفرضه رقابة غير مسبوقة، مع حظر عرض الفقر المدقع وتصوير الأجهزة الأمنية على أنها أبطال، ووفقًا للتقارير، بعد عامين من إطاحة مرسي، حذر السيسي نجوم التلفزيون من أنهم سيحاسبون إذا لم يعكس عملهم نظرة الدولة السردية والإيجابية.
عندما خيم شبح الاحتجاجات الجماهيرية مرة أخرى على النظام في سبتمبر/ أيلول 2019، التقى السيسي بمؤيديه في نفس المكان الذي ذبح فيه خصومه عام 2013: ميدان رابعة.
وتواصل أذرعه الإعلامية والمخابراتية محاولة تشويه كل ما يتعلق بالمجزرة مع حلول ذكراها العاشرة، وفي آخر المحاولات، سعى نظام السيسي، منذ أيام قليلة، لإفشال عرض فيلم وثائقي حصل على جائزة أفضل فيلم لعام 2023 من مهرجان السويد للإعلام، ويحمل عنوان “ذكريات رابعة” بعدما جرى عرضه في أهم قاعة للعروض الافتتاحية للأفلام في بريطانيا، وهي قاعة “بافتا” بمسرح الأكاديمية البريطانية للأفلام وفنون التليفزيون في 3 أغسطس / آب الجاري.
الفيلم الذي أزعج نظام السيسي تناول أحداث فض الاعتصام، وكشف كواليس ما حدث في الميدان، وعرض المشاهد المروعة للمجزرة، وتضمن شهادات تنشر لأول مرة، إضافة إلى شهادات حصرية لعدد من الناجين وشهود عيان على ما جرى، من بينها لقاء مع والدة أسماء البلتاجي، قوبل بهجوم شرس من إعلام السيسي، وتعليقات من حقوقيين ومراقبين سياسيين مصريين وأجانب.
وكما جرت العادة، اتهم الإعلامي المصري المحسوب على النظام المصري أحمد موسى المخابرات البريطانية بمساعدة جماعة الإخوان من أجل إنتاج الفيلم الذي وصفه بـ”المفبرك”، واتهم صنَّاعه باستخدام مشاهد مزيفة لتشويه صورة السيسي، علمًا بأن موسى نفسه حرَّض على قتل المتظاهرين، ففي تصريحات متلفزة، قال في إحدى حلقات برنامجه على الهواء مباشرة: “انهي موضوع رابعة العدوية أيًا كانت الخسائر، ومتبصش (لا تنظر) على المجتمع الدولي”.
تكشف هذه الواقعة عن محاولات لا هوادة فيها من قبل أجهزة السيسي لمنع عرض الفيلم بكافة السبل الممكنة، بداية من الهجوم الإعلامي على صنَّاعه ومحاولة تشويه سمعتهم، مرورًا بدور السفارة المصرية في لندن في محاولة منع عرض الفيلم، حيث وجهت شخصيات تابعة لها لتحذير الأكاديمية التي استضافت عرضه، وحاول مقربون منها إفساد الندوة الحوارية.
بينما يخصص إعلام السيسي هذه الأيام فقرات للحديث عن مجزرة رابعة بالتزامن مع ذكراها العاشرة، أجبر هذا الفيلم وسائل الإعلام المؤيدة للنظام على إعادة التذكير بالمجزرة، وتخصيص مساحات كبيرة للرد عليه.
يعيدنا ذلك إلى محاولات الأجهزة الدينية والإعلامية المبكرة لتشويه صورة الضحايا وذويهم في أكثر من مناسبة، ففي حين نفذ الجيش والشرطة الجزء الأكبر من أعمال العنف، قدمت هذه الأجهزة دعمًا أيديولوجيًا، ولعبت الشخصيات الدينية والإعلامية دورًا فعالًا على وجه الخصوص، وبالغت دعايتهم في تضخيم عدد الضحايا من ضباط الشرطة، وأشادت بقوات الأمن باعتبارهم أبطالًا، وفي بعض الحالات، احتفلت بمقتل أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها والمتعاطفين معها.
ومع مرور الوقت، بدا نظام السيسي أكثر حرصًا على الإجهاز على ما تبقى في ذاكرة المصريين من مشاهد مأساوية، وبعد سنوات من هذه الجريمة، أنتجت الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية “سينرجي”، المملوكة بشكل غير مباشر للمخابرات المصرية والمحتكرة لقدر كبير من الإنتاج الرمضاني، عملاً دراميًا -كرَّم السيسي صنَّاعه- يمجد فض الاعتصام، ويزوِّر الأحداث ويعيد كتابة التاريخ من أجل شيطنة المعارضة وتصوير المتظاهرين على أنهم مدججون بالسلاح وإظهار صورة الجيش وقوات الأمن على مستويات عالية من ضبط النفس، وأنهم قاموا بتفريق المتظاهرين بشكل سلمي.
قد يبدو اختيار تصوير القتل الجماعي للمتظاهرين غريبًا، لكن هذه المذبحة هي حدث تأسيسي للنظام، والأسطورة التي بُنيت حولها لها أهمية قصوى في سيطرة النظام على السلطة، فقبل أن ترتكب قوات الأمن المصرية مجزرة رابعة في أغسطس/ آب 2013، دعا السيسي، وزير الدفاع آنذاك، إلى احتجاجات حاشدة لتفويضه بـ “محاربة الإرهاب” في إشارة واضحة إلى فض اعتصام الإخوان المسلمين بالقوة، ورافقت هذه الدعوة حملة دعائية جماهيرية بأن الاعتصام كان مسلحًا، وأن المحتجين يخطفون ويعذبون المواطنين.
لم تكن الاستراتيجية مجرد خلق دعم شعبي لعمل الدولة القمعي، ولكن لتصنيع عمل من أعمال القتل الجماعي؛ بعبارة أخرى، التماس المشاركة النشطة لقطاع كبير من الجماهير في القتل الجماعي للمعارضين السياسيين، وقد تجلى ذلك في يوم المجزرة، عندما حاول المتظاهرون الفرار من العنف، تم القبض عليهم من قبل مجموعات الحراسة المؤلفة من السكان المحليين.
وتشير كل الدلائل إلى أن نظام السيسي لم يهدف من وراء فض رابعة لمجرد إخلاء الميدان من المتظاهرين، إذ كان يسهل تحقيق ذلك بأقل القليل من العنف المستخدم، ولكنه أراد أن يصنع حالة من الرعب تستقر في نفوس المصريين، بحيث تجعلهم يعيدون التفكير مرات ومرات قبل معارضته بهدف تجنب تكرار السيناريو مرة أخرى.
كان مشهد العنف الذي تجاوز حدود الإفراط يبعث برسالة واضحة: لن يتم التسامح مع أي تكرار لأحداث يوم “جمعة الغضب في 28 يناير/ كانون الثاني 2011 – عندما تمكن المتظاهرون من هزيمة قوات الأمن والمطالبة علانية بمساحة في حرية الرأي والتعبير لأول مرة منذ عقود- بغض النظر عن عدد القتلى، لكن في جوهرها، كانت المذبحة انعكاسًا لذلك الحدث، فقد استعادت قوات الأمن سطوتها فيما بدا أنه سياسة منهجية لإلحاق أكبر عدد ممكن من الضحايا.
سمحت عواقب المذبحة بالتستر على فشل النظام في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، حيث تم تصوير معارضة سياساته على أنها “مؤامرة من قبل قوى الشر المتحالفة مع الإخوان المسلمين لتدمير الدولة”.
منذ تلك اللحظة فصاعدًا، استعاد النظام الفضاء العام، عبر تقنين قانون التظاهر الذي تمت الموافقة عليه في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2013، حتى عندما خيم شبح الاحتجاجات الجماهيرية مرة أخرى على النظام في سبتمبر/ أيلول 2019، التقى السيسي بمؤيديه في نفس المكان الذي ذبح فيه خصومه عام 2013: ميدان رابعة.
وفي مناسبات عدة، دعا السيسي الإعلام لنشر فكرة “فوبيا إسقاط الدولة” والخوف من الفوضى، واستخدم لتحقيق غايته العنف المبرر مثل “مذبحة رابعة” وما تلاها، كما فعل محمد علي في “مذبحة القلعة” حين قضى على المماليك لبناء دولته الحديثة، وأثبت أنه بحاجة دائمة إلى أعداء ومؤامرات مستمرة لتبرير قبضته على السلطة، وأعمال القمع الجماعية ضرورية ليثبت لقاعدته وجود هؤلاء الأعداء.
وفي ذلك تأويل لما ذكره عالم الاجتماع والأنثربولوجي الفرنسي رينيه جيرار في كتابه “العنف المقدس”: “لإعادة ترسيم حدود أي جماعة معينة من قبل السلطة الحاكمة، يتم تحويلها إلى عدو يهدد الأمن والاستقرار الاجتماعي، وشيطنتها وإعلان الحرب عليها، وتفريغ العنف بدوافع محددة تبرر ذلك العنف، ومن ثم التضحية بها على مذبح الوحدة الجماعية”.
عواقب المذبحة واسعة وطويلة الأمد، وأرست الأسس لنظام سياسي شديد الاستقطاب، فقد اُستبعدت جماعة الإخوان المسلمين من العملية السياسية، وصُنِّفت لاحقًا على أنها “جماعة إرهابية”، وسمح هذا الاستقطاب للنظام بإلغاء بتصوير الاختلافات السياسية على أنها صراع ملحمي بين الأمة، متجسدة في النظام، وخصومه، الذين أطلق عليهم السيسي فيما بعد “أهل الشر”، ومن ثم السماح بتوسيع قمع النظام ليشمل جميع فصائل المعارضة، بدعم شعبي واسع.
كما سمح ذلك للنظام أيضًا بالتستر على فشله في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، حيث تم تصوير معارضة سياساته على أنها “مؤامرة من قبل قوى الشر المتحالفة مع الإخوان المسلمين لتدمير الدولة”، هذا المنطق خلق حالة طوارئ مستمرة، مما سمح للنظام بتعميق قمعه.
ومع استمرار التشويه بأكاذيب لا تُغتفر في كل مناسبة، قد تبدو ذكرى مجزرة رابعة نفسها سائرة في طريق الكثيرين ممن احتضروا في قلب الميدان، مع ابتعاد الزمن وتكرار المجازر واختلاط المآسي وتشابه النهايات، وقبل كل ذلك، إلهاء الكثيرين بالبحث عن لقمة العيش وسط كومة من الأزمات الاقتصادية، لكن المجزرة قد تبدو لمن عايشوها -سواء كانوا شهودًا أو ذوي ضحايا – جريمة لا تسقط بالتقادم.
من الصعب فهم التكاليف الاجتماعية والصدمات الشخصية الثقيلة التي تطارد ضحايا المجزرة، ولا يمكن التغلب عليها إلا من خلال تصفية حسابات الماضي وعملية مصالحة عميقة، وهو أمر غير ممكن في الظروف الحالية، لكن حتى يحدث هذا، ستستمر المذبحة في الإلقاء بظلالها على المجتمع والسياسة المصريين.