في صبيحة يوم 14 أغسطس/آب 2013، ومع الأضواء الأولى من النهار، تحركت قوات احتكار العنف النظامي المصرية، بشقيها العسكري والشرطي، صوب ميدان رابعة العدوية، شرق القاهرة، من جميع المداخل، بما يمكن وصفه بالتزامن التقريبي، تحت شعار رسمي هو “فض اعتصام” مؤيدي الرئيس الأسبق محمد مرسي، الذي استمر نحو 45 يومًا في تلك المنطقة.
على رأس مسؤولي الدولة الذين أشرفوا على تلك الخطة، عناصرها وأهدافها وتوقيتها، كان الرئيس المصري الحاليّ عبد الفتاح السيسي، الذي كان يشغل منصبي وزير الدفاع ونائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الأمنية حينها، وكان بمثابة بطل الدولة العميقة الأوحد الذي أطاح بتوليفة: ثورة يناير والإسلام السياسي، في ضربة واحدة 3 يوليو/تموز من نفس العام.
باستثناء أجهزة الدولة وأنصارها، فقد فجعت جميع الأطراف المعنية، سياسيًا واجتماعيًا، داخل مصر وخارجها، من حجم العنف النظامي المستخدم، وطبيعة التكتيكات الحربية المتبعة، بما يضاهي حالات السعار العسكرية والأرض المحروقة، في وقائع الاستباحة التي يقوم بها طرفٌ مثقل بالضغينة ومشبع بالكراهية والتحريض، ضد آخر محاصر مجرد من الحماية القانونية ومنبوذ من الجماعة الوطنية المصطنعة.
لماذا رابعة؟
الوصف الأدق للتجمع البشري الذي احتشد في ذلك المحيط الجغرافي آنذاك، أنه كان اعتصامًا سياسيًا مفتوحًا، في منطقة حساسة أمنيًا، حرص منظموه على أن يصل إلى ذروة الحشد الممكن، للدفع نحو أبعد نقطة – غير صدامية – قد يتأتى من خلالها التفاوض الفعال مع الجيش والقوى المؤثرة خارجيًا.
فقد وضعت كل الآمال على رابعة، لتكون بمثابة إما نقطة العودة وإما نقطة اللاعودة، فلم يكن الأمر متعلقًا بتعطيل الحياة العامة ومصالح المواطنين كما شاع في الإعلام الرسميِ حينها، وإنما بضرورة إبراز الوجود السياسي بصريًا للمراقبين، في ظل تنامي الأصوات المستعلنة بالإحصاء والقدرة على الحشد من الجهة الأخرى، وبمحاولة تأخير النهاية الكاملة، بالضغط تجاه حافة الهاوية.
نحن هنا، جميعًا، بصدور عارية، معتصمون، اعتصامًا مفتوحًا، حتى تتحق مطالبنا التي نعتقد بعدالتها، وهي عودة مرسي إلى وضعه، رئيسًا منتخبًا حرًا للبلاد، والتفاوض على ما هو قادم، وسنبذل قصارى جهدنا، سلميًا، لمنع فض هذا الجمع، مهما كان التهديد والخطر، فماذا أنتم فاعلون؟ كان هذا لسان حال المعتصمين في تلك البقعة آنذاك.
ساعد موقف مرسي الرافض، بحسم وجسارة، للتحركات العسكرية ضده، وخطاباته الأخيرة قبل عزله التي حملت مضمونًا بطوليًا واستعدادًا جادًا للتضحية من أجل ما يعتقد صوابه، في خلق حالة وجدانية من المؤازرة المتبادلة بينه، بعدما جرى تغييبه، وبين المعتصمين في رابعة العدوية، إذ لو كان مرسي قد خضع للضغوط والترهيب، وأعلن ذلك رسميًا، لما كان للاعتصام في رابعة معنى.
قتلت قوات الأمن، التي تلقت تعليمات عليا بحرية الحركة والحماية من المحاسبة، وامتلأت بالتحريض والكراهية، أكثر من ألف شخص
حوى ميدان رابعة المئات من المنتمين تنظيميًا لجماعة الإخوان المسلمين وأسرهم، والمثقفين المهنيين الرافضين للانقلاب العسكري من كل أرجاء البلاد، والإسلاميين المحافظين ممن قد لا تجمعهم مصالح تنظيمية مع الإخوان المسلمين بقدر ما تجمعهم بهم تقاطعات فكرية وتعاطف أيديولوجي، ليتحول الاعتصام، بمرور الوقت، إلى مجتمع صغير يعج بالحياة، دفع المؤمنون بقضيته كل ما لديهم، ماليًا وتنظيميًا، لإنجاحه.
كما تكون، مع مرور الوقت، لدى القائمين على الاعتصام، ولدى مناوئيه من أجهزة الدولة على السواء، وعيٌ إستراتيجيٌ بحساسية موقعه، الذي يبعد، مسافات متباينة، لكنها ليست بالكبيرة إجمالًا، عن القصر الرئاسي ومطار القاهرة ومقرات إدارية تخص الأرشيف الحكومي، وأخرى عسكرية، من ضمنها مقر الحرس الجمهوري.
في الأيام الأولى للاعتصام بعد الانقلاب العسكري، أشيعت رواية مقتضبة، لم تسر بعمق في نفوس القائمين على الاعتصام، أن مرسي، ربما يكون محتجزًا في مقر الحرس الجمهوري، غير البعيد أبدًا عن الاعتصام، وهو ما اندلع على إثره اشتباكات، أفرطت قوات الجيش في استخدام النيران الحية خلالها، ما أوقع ما يفوق 50 قتيلًا في صفوف مؤيدي مرسي، الذين اتهمهم الجيش بالاعتداء على المنشأة العسكرية.
ليتضح لاحقًا، بعد فض الاعتصام بمدة، ضمن تسريبات عرفت باسم “تسريبات مكتب السيسي” بأن مرسي، ظل محتجزًا لأيام في مقر الحرس الجمهوري، قبل أن ينتقل جوًا، بشكل سري، إلى القاعدة البحرية في رأس التين بالإسكندرية، وهو ما يعني أن المعتصمين كانوا على مقربة حقيقية، في وقت خطير، من الرئيس الأسبق، بناءً على قرار الاعتصام في رابعة.
فض أم مذبحة؟
نظريًا كان هناك تصوران ممكنان لإخلاء تلك المنطقة وتفكيك وسائل الإعاشة التي بناها المعتصمون وإعادة فتح الطرق أمام حركة المرور: الأول هو الفض الاحترافي، باستخدام القوة غير المميتة، لإجبار المعتصمين على المغادرة، بما يحافظ على مستويات العقلانية والرشاد في المناخ السياسي المصري.
يعتمد ذلك الأسلوب على الحصار الخارجي لمنافذ الميدان لمنع دخول أي إمدادات، بصرف النظر عن نوعها، إلى المعتصمين، والاستخدام المكثف للقنابل المسيلة للدموع والجرافات، وتوفير، ولو مخرج وحيد آمن للمحاصرين، خروج بلا دخول، وقصر القوة المميتة على مصادر النيران إن وجدت.
لم تكن رابعة المذبحة الأولى، لا في التاريخ السياسي المصري الحديث، ولا في سياقها الزمني المتصل حتى، لكنها كانت الأكبر من حيث الضحايا والقوة النظامية المستخدمة
لكن القائمين على الحكم وقتها، قرروا أن تكتسب مفردة “الفض” تطورًا دلاليًا سلبيًا، فعوضًا أن تشير إلى النوع الأول من الفض، المعروف في المعجمية السياسية الحديثة، الذي يستغرق وقتًا أطول ويحافظ على الأرواح إلى حدٍ كبير، فقد جنحوا إلى التصور الثاني أو “الحل الأبدي”، كما يسميه الباحث المعروف في الأكاديميا الغربية شادي حميد.
فضل القائمون على مقاليد الأمور حينها والمتحكمون في مقدرات الدولة الأمنية الحل الثاني، رغم خسائره البشرية المتوقعة في صفوف المعتصمين، نظرًا لفوائده السياسية المرجوة: ضرب قواعد جماعة الإخوان المسلمين التي وفدت من كل الجمهورية في بؤرة تمركزهم، وإصابة تلك القواعد الشبابية بصدمة نفسية جمعية حقيقية تفقدهم توازنهم وثقتهم فيما تربوا عليه من ثوابت لسنين داخل الجماعة، ليجدوا أنفسهم، فجأة، بين مقتول ومصاب ومطارد.
كما سيؤدي ذلك الخيار إلى تدشين عصرٍ سياسي جديد بمذبحة يمكن للمواطن العادي أن يشاهدها على التلفاز في بث مباشر، فيدرك أن فصيلًا، طالما كان معتبرًا، قد قضى، وأن مفردات مغايرة، مغرقة في البدائية والوحشية الغرائزية، ستحكم المشهد.
في الواقع، لم تكن رابعة المذبحة الأولى، لا في التاريخ السياسي المصري الحديث، ولا في سياقها الزمني المتصل حتى، لكنها كانت الأكبر من حيث الضحايا والقوة النظامية المستخدمة التي تعادل، كمًا ونوعًا، القوة المستخدمة في بعض المعارك الحربية الحقيقية، والمفارقة أنها وقعت ضد مواطنين مصريين، محاصرين، عزل، معتصمين لأسباب سياسية مشروعة.
خلال الساعات الستة التي استغرقتها قوات الأمن المصرية عمليًا، من السادسة صباحًا وحتى الظهيرة، لسحق الاعتصام وضرب خواصره، تجردت الدولة المصرية، من أي قيم سياسية حداثية، لتؤسس واقعًا جديدًا، مستمرًا إلى زهاء العقد، من تعطيل القانون، وسيادة شخص واحد، تلقى تفويضًا شعبيًا بالقضاء على من يعدهم خطرًا على الوطن.
وحتى تكتمل الصورة، فقد قتلت قوات الأمن، التي تلقت تعليمات عليا بحرية الحركة والحماية من المحاسبة، وامتلأت بالتحريض والكراهية، في هذه الساعات، على امتداد نحو كيلومترين، أكثر من ألف شخص.
استقرار خطير
“إن الطريقة التي يتم بها استلام السلطة، هي الطريقة التي تحدد شكل ممارستها” – أنطونيو غرامشي
تسلم السيسي السلطة بانقلاب عسكري على ديمقراطية وليدة، وبتفويض شعبي تجهر فيه الجماهير علنًا بأنها لا تتمتع بالأهلية الكافية لحكم ذاتها، ومن ثم فإنها تسلم مقاليد الأمور إلى السيد الذي يحتكر القوة والأهلية، وبحزمةٍ من المجازر الجماعية المشهدية، كانت رابعة العدوية في القلب منها.
بنفس الطريقة التي استلم بها السيسي السلطة، وعلى النحو الذي تثبت معه مقولة غرامشي فاعليتها التفسيرية والتنبؤية، مارس السيسي الإدارة والحكم في مصر لعقدٍ كامل، وحيدًا منفردًا، بالقوة والسلطان.
بذل السيسي وسعه لإثبات جدارته بالقرار الإستراتيجي الأمريكي الخاص بتغليب المصلحة على القيمة، فأفرط في استظهار علاقته الطيبة مع “إسرائيل”، وبالانخراط الجذري في إعادة تأسيس الديموغرافيا في سيناء على أسس أمنية
يأمر السيسي، فيطاع على الفور، ترتعد الفرائص لذكر اسمه، يرتأي اقتلاع السكان والشجر والحجر، لبناء جسر، ينفذه الجيش، من أموال اقترضتها الدولة بكلفة عالية، دون أفق معلوم للسداد، فتصبح الديار والآثار في خبر كان.
على مقربة من ميدان رابعة العدوية الذي شهد المذبحة الأعنف، حيث حاول المعتصمون إعاقة الجرافات العسكرية عن سحق الخيام واللافتات المعارضة للانقلاب العسكري، جرت واحدة من أكبر عمليات التغيير الديموغرافي في تاريخ القاهرة، عندما وجدت فئة معتبرة من السكان تاريخها الثقافي المرتبط بالمكان مستباحًا لتعبيد الطريق أمام العاصمة التي يدشنها السيسي في صحراء شرق القاهرة لأسباب أمنية وطبقية ونرجسية.
تكررت تلك المشاهد، التي قد يبدو للمراقب غير المطلع من الخارج، أنها إعادة لمشاهد من الفض الدامي، بطول البلاد وعرضها، خلال عقد كامل، عددًا لا يمكن إحصاؤه من المرات، إذ تزيل الجرافات العسكرية، في حماية من قوات الأمن، إحدى المناطق من الوجود، لدواعي لا يمكن مناقشتها، وسط حسرة الأهالي وقلة حيلتهم، من رفح أقصى الشمال الشرقي، إلى الجنوب والغرب على أطراف القاهرة.
من الواضح أن تلك الطريقة في الحكم، وقبلها في فرض الأمن وإنهاء الصراع السياسي بالقوة الغاشمة، وثقة السيسي المبكرة في تطلعاته، أغرت الولايات المتحدة وكثيرًا من دول العالم الحر، إلى اتخاذ موقف “براغماتي” من الرجل، على أرضية أولوية الاستقرار والمصالح الأمريكية الآنية والعلاقة الممتدة بالجنرالات، على حساب القيم الديمقراطية غير معروفة العواقب.
من ناحيته، بذل السيسي وسعه لإثبات جدارته بالقرار الإستراتيجي الأمريكي الخاص بتغليب المصلحة على القيمة، فأفرط في استظهار علاقته الطيبة مع “إسرائيل”، وبالانخراط الجذري في إعادة تأسيس الديموغرافيا في سيناء على أسس أمنية، وبالقطيعة التامة مع جماعات الإسلام السياسي محليًا وإقليميًا.
علاوة على الملفات الأخرى ذات الأولوية مثل قطع الطريق على الهجرة غير النظامية إلى الشمال المتقدم وحماية حركة التجارة العالمية في جانبها المتعلق بمصر، وإرساء أوضاع تمييز إيجابية للهويات ذات الأولوية الثقافية عالميًا كالأقباط والمرأة.
لكن تلك الطريقة الجذرية في الحكم، التي باركت دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة بواكيرها، ويستخدمها السيسي لإثبات الولاء والجدارة في الملفات ذات الأولوية للعالم الغربي أمنيًا واجتماعيًا وثقافيًا، هي نفسها التي تضع البلاد على الحافة في الوقت الحاليّ.
يتأرجح النظام المصري ما بين الهلع من أي إشارة لهذه الذكرى، بالنظر إلى ما ستجتره من أسئلة مشروعة عن الضحايا والقوة المفرطة ومحاسبة المسؤولين
فبينما تلقى السيسي، قبل عقد، ضوءًا أخضر خارجيًا لقطع الطريق على الآثار السلبية “المحتملة” من تمكين الإسلام السياسي على استقرار المصالح الأمريكية في مصر، فإن البلاد، بعد تلك المدة، أضحت تواجه خطرًا أفدح كليًا، وهو الانفجار الاجتماعي العام المتزامن والمفاجئ، كاستجابةٍ مطروحة ضد انحطاط الأوضاع الاقتصادية وسوء إدارة الموارد، وانسداد سبل التغيير السلمي الآمن، في ظل شبق السيسي الذي لا يفتر إلى السلطة.
بلغة أخرى، يمكن القول إن العالم الحر قامر بقيمه الديمقراطية، على أساس إحلال الاستقرار، فإذا به، بعد 10 أعوام، يواجه خطرًا حقيقيًا أكبر على هذا الاستقرار، دون أفق للحل، أي أن ما جرى كان تأخيرًا للمواجهة، واختيارًا للحل الأسهل، وترسيخًا لخطر هيكلي كامل دفعًا لهواجس محتملة.
عقدة رابعة
رغم مرور عشرة أعوام على المذبحة، وجهود النظام المصري لتضليل الرأي العام بشأنها بشتى السبل، فإن رابعة باتت تشكل “عقدة” بمفهوم علم النفس السياسي، لدى النخبة الحاكمة في مصر، خطًا أحمر، “تابو” لا يجرؤ كائن من كان على الاقتراب منه، ولو كنشاطٍ ذهني.
عفويًا، أسرع السيسي لرد أحد معاونيه من ضباط الجيش خلال مناسبة رسمية، لمجرد أن هذا الضابط قد أخطأ وخالف الكود السياسي غير المكتوب، وذكر الهوية الجغرافية لتلك المنطقة، قائلًا “ميدان رابعة”، ليقاطعه السيسي، على الفور، أمام كاميرات الإعلام والرأي العام، بأنه لم يعد هناك مكان بهذا الاسم، إذ صار اسمه ميدان “هشام بركات”، النائب العام المقرب من دوائر الحكم، الذي قتل في عملية ذات دوافع انتقامية سياسيًا على الأرجح.
من القاهرة إلى لندن، بثت وسائل إعلام غير تقليدية مقطعًا مصورًا قصيرًا لإحدى السيدات الطاعنات في السن، من مؤيدات السيسي، تحاول اقتحام إحدى دور العرض والاشتباك مع قوات الشرطة البريطانية، في حالة هستيريا تامة، رفضًا لعرض فيلم وثائقي حديث يتناول التأريخ للمذبحة من منظور إنساني.
من جانبه، يتأرجح النظام المصري ما بين الهلع من أي إشارة لهذه الذكرى، بالنظر إلى ما ستجتره من أسئلة مشروعة عن الضحايا والقوة المفرطة ومحاسبة المسؤولين، وما بين محاولة تبرير ما حدث، بضرورة حماية البلاد وتحميل المجني عليهم أنفسهم مسؤولية التسبب في الخسائر.
وفقًا لكينيث روث الناشط الحقوقي البارز عالميًا والمطلع على ملف رابعة، فإن التعامل مع “العقدة” ذات الحمولة السياسية، لا ينبغي أن يكون بدفن الرأس في التراب، والذعر من مجرد ذكرها، وإنما يكون بالمواجهة، والتصالح الحقيقي مع الماضي، ومحاولة إيجاد صيغة مقبولة مرضية للضحايا لإعادة السلم الاجتماعي للبلاد، وإلا فإن شبح العقدة سيظل ماثلًا، والشعور الجمعي بالغبن والكراهية والانتقام سيظل مكبوتًا، في انتظار فرصة لتفريغه.