ترجمة وتحرير نون بوست
ترجع الإجابة على سؤال “لماذا الآن” فيما يتعلق بالتغيير في الخطاب حول سياسة الولايات المتحدة تجاه “”إسرائيل”” في المقام الأول إلى الأنماط السياسية الأكبر التي تم التركيز عليها هذا العام.
لقد تسللت بعض الأفكار حول سياسة الولايات المتحدة تجاه “إسرائيل” إلى الخطاب السائد؛ حيث نادرًا ما كان يتم التعبير عن مثل هذه الأفكار قبل بضع سنوات فقط. يتحدث هذا التطور عن السياسة الأمريكية أكثر مما يتحدث عن القضايا التي تتصدر عناوين الصحف حاليًا في “إسرائيل”.
حسنًا لقد دخلت فكرة معينة واحدة على الأقل إلى الخطاب بالكامل: يجب أن تنتهي المساعدة السنوية البالغة 3.8 مليارات دولار بدون قيود والتي تمنحها الولايات المتحدة لـ”إسرائيل”، أو على الأقل إرفاقها بشروط. وقد أثار نيكولاس كريستوف هذا الموضوع مؤخرًا في عمود في صحيفة نيويورك تايمز مستشهدًا بمثقفين عامين محترمين لديهم سجلات صداقة لا شك فيها مع “إسرائيل”، بما في ذلك السفراء الأمريكيون السابقون لدى “إسرائيل” دانيال كيرتزر ومارتن إنديك، فيما يتحدث البعض الآخر ممن لهم نفس المكانة والخلفية، بما في ذلك ماكس بوت، كاتب العمود في واشنطن بوست، على نفس المنوال.
لكن لماذا يجب أن يحدث هذا التغيير في المناقشة العامة الآن؟ إن الحجة الداعية إلى الإلغاء التدريجي للمساعدات الأمريكية ل”إسرائيل” ليست قوية الآن فحسب، بل إنها كانت كذلك لفترة طويلة. ف”إسرائيل” دولة غنية وهذه الحقيقة ليست جديدة؛ حيث تقع ضمن أغنى خمس أو عشر بلدان في العالم، وذلك اعتمادًا على كيفية قياس نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. وبغض النظر عن مدى تفضيل المرء ل”إسرائيل” أن تظل إلى حد بعيد الدولة الأكثر قدرة عسكريًا في منطقتها، فإنها تستطيع تحمل دفع ثمن تلك القدرة بنفسها.
إن المليارات من المساعدات الأمريكية ل”إسرائيل” تشكل دعمًا من دافعي الضرائب الأمريكيين لدافعي الضرائب الإسرائيليين، وهو الدعم الذي يعتبر غير مبرر بشكل خاص عندما يتحسر القادة السياسيون لدافعي الضرائب الأمريكيين على عجز الميزانية ويقترحون تخفيضات كبيرة على البرامج الحكومية التي تدعم صحة ورفاهية وازدهار الأمريكيين أنفسهم.
علاوة على ذلك؛ أظهرت سنوات الخبرة أن المساعدات الضخمة غير المشروطة ل”إسرائيل” (158 مليار دولار حتى الآن) لم تعطِ للولايات المتحدة أي قدرة تقريبًا على التأثير على السياسات الإسرائيلية، ربما باستثناء بعض التصويت الرمزي في الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن الأمور التي يعارض فيها الجميع تقريبًا الولايات المتحدة.
ويبدو أن الحدث المعجل لتغيير الخطاب هو الاضطراب السياسي في “إسرائيل” المرتبط بجهود الحكومة لإضعاف القضاء. لكن هذه مسألة داخلية إسرائيلية؛ حيث تكون الصلات بالمسائل ذات التبعات الدولية غير مباشرة. صحيح أن المحكمة العليا الإسرائيلية، التي تتعرض سلطاتها وتشكيلتها للخطر، كانت عقبة أمام بعض الإجراءات التي حاولت الحكومة اتخاذها لإخضاع الفلسطينيين والمضي قدمًا في الضم الفعلي للضفة الغربية. لكن مسألة صلاحيات المحكمة وتكوينها هي في الأساس مسألة دستورية للبلد المعني، وليس شيئًا يُنظر إليه تقليديًا على أنه موضوع مناسب للتدخل الأجنبي.
لقد استغل المدافعون المعتادون عن “إسرائيل” في الولايات المتحدة هذه النقطة؛ حيث انتقد روبرت ساتلوف، من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، الرئيس جو بايدن لحثه حكومة نتنياهو على التراجع عن خطة الإصلاح القضائي، مشيرًا إلى أن بايدن “أخطأ في تحويل الأزمة الداخلية الإسرائيلية إلى قضية سياسية بين بلدينا”. كما وجه السناتور جيمس ريش، من ولاية أيداهو والجمهوري البارز في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، نفس النقد لبايدن لتدخله في قضية محلية، قائلاً: “لا أعتقد أن هذا مناسب أكثر مما ينبغي أن يخبرونا كيف ينبغي لنا التصويت في المحكمة العليا هنا”.
السياق الذي يجعل هذه الانتقادات مضحكة إلى حد ما هو أن “إسرائيل” تتدخل بشكل مكثف وفاضح في السياسة الداخلية للولايات المتحدة، وهو تدخُّل مقنَّع جزئيًا فقط بفشل في تطبيق قانون تسجيل الوكلاء الأجانب بالكامل. ويعد الجانب المهيمن في العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” هو التحالف السياسي، الذي برز بشكل خاص خلال رئاسة دونالد ترامب، بين الحزب الجمهوري واليمين الإسرائيلي، وهو ما يعني الحكومة الإسرائيلية الحالية؛ حيث تخبر “إسرائيل” الأمريكيين كيف يصوتون على أشياء كثيرة، بما في ذلك من يجب أن يمثلهم في الكونجرس، حتى عندما يقوض ذلك الديمقراطية التي يُفترض أنها قيمة مشتركة بين البلدين.
وبغض النظر عن هذا السياق؛ فإن أولئك الذين يتساءلون عن سبب اختيار الإدارة الأمريكية لقضية محلية بشكل أساسي كقضية للضغط على حكومة نتنياهو؛ يطرحون سؤالًا وجيهًا.
علاوة على ذلك، فإن مؤيدي الإصلاح القضائي في “إسرائيل” لديهم وجهة نظر صحيحة في القول بأنهم من يدعمون الديمقراطية من خلال وضع السلطة النهائية في الممثلين المنتخبين في الكنيست بدلاً من القضاة غير المنتخبين. بدون دستور مكتوب، تعتبر “المعقولية” معيارًا غير واضح المعالم بشكل ملحوظ؛ حيث ألغت المحكمة العليا الإسرائيلية بعض إجراءات الكنيست. فالليبراليون الأمريكيون الذين يشعرون بالاستياء من أن الأغلبية اليمينية في المحكمة العليا بالولايات المتحدة تطغى على إرادة الكونجرس والرئيس من خلال حيل مثل “عقيدة الأسئلة الرئيسية” – وهو معيار لا يُعرَّف مثل “المعقولية” – للحصول على بعض التعاطف مع ما تحاول الحكومة الإسرائيلية القيام به.
الإجابة على سؤال “لماذا الآن” فيما يتعلق بتغيير الخطاب حول سياسة الولايات المتحدة تجاه “إسرائيل”، لا يمكن العثور عليها بشكل أساسي في جوهر قضية الإصلاح القضائي الإسرائيلي. وبدلًا من ذلك؛ عليها أن تفعل المزيد مع الأنماط السياسية الأكبر التي برزت في “إسرائيل” هذا العام. أحدهما هو الشدة المطلقة للانقسام السياسي في “إسرائيل” – بين اليهود الإسرائيليين – الذي تجلى في احتجاجات الشوارع الضخمة، حيث كانت هذه الشدة أكبر من أي وقت مضى في التاريخ السياسي الإسرائيلي السابق. ومع هذا العدد الكبير من اليهود الإسرائيليين الذين يعارضون بشدة الحكومة الإسرائيلية وما تفعله، يمكن للسياسيين والمعلقين الأمريكيين المشاركة بشكل مريح في انتقاد تلك الحكومة دون الإضرار بمؤهلاتهم “المؤيدة لإسرائيل”.
وهناك عامل آخر، يتمثل في طبيعة الحكومة الائتلافية الإسرائيلية الحالية التي تولت السلطة في مطلع العام، وهي الحكومة الأكثر تطرفًا في البلاد على الإطلاق. فرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي يئس من الحفاظ على التحالف موحدًا حتى يظل في السلطة ويخرج من السجن إذا واجهته تهم الفساد، قد تنازل فعليًا عن سيطرة المتطرفين. لذلك، فالعديد من النقاد الأمريكيين المفكرين لديهم قلق حقيقي من اتجاه تلك الحكومة، والذي يتوافق تمامًا مع ولعهم العلني لإسرائيل، بشأن المستقبل المدمر الذي تقود الحكومة البلاد إليه.
لكن بالنسبة للكثيرين ممن ينخرطون في الجدالات والنقاشات السياسية في الولايات المتحدة؛ فإن الوضع يتعلق أكثر بالبصيرة وكيف يجعلون مواقف معينة من الناحية السياسية آمنة أو غير آمنة. من السهل أن يعبر المتطرفون الأكثر تطرفًا في الحكومة الإسرائيلية عن كراهيتهم، ومن بينهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير الذي أشاد وعرض في السابق صورة لباروخ غولدشتاين، القاتل الجماعي الذي قتل 29 من المصلين المسلمين وجرح 125 آخرين في الخليل في سنة 1994، ومن بينهم أيضًا وزير المالية بتسلئيل سموتريتش (والذي يشارك أيضًا في إدارة الضفة الغربية)، والذي يدافع عن الفصل في أقسام الولادة حتى لا تضطر النساء اليهوديات إلى التواجد بالقرب من العرب، حيث يقول سموتريتش: “هم أعدائي ولهذا السبب لا أستمتع بالتواجد بجوارهم”.
هذه الشخصيات الرئيسية في الحكومة هم من اليهود المتعصبين من ذوي التوجهات القومية، والصورة التي يقدمونها قبيحة بما يكفي لانتقاد الحكومة الإسرائيلية من قبل الأمريكيين ليكون أكثر أمانًا من الناحية السياسية مما كان عليه من قبل.
وعلى الرغم من التحول في الخطاب، لا يبدو أن تقليص المساعدات الأمريكية ل”إسرائيل” وارد، فقد قال الزعيم الديمقراطي في مجلس النواب هاكيم جيفريز، الذي يقود رحلة من الكونغرس إلى “إسرائيل”، إن الجدل حول الإصلاح القضائي لا ينبغي أن يؤثر على المساعدة الأمريكية. وحتى إذا تم كبح المساعدات المالية، فإن ذلك سيبقي جميع الأشكال الأخرى للدعم الأمريكي ل”إسرائيل”، بما في ذلك حق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والشيكات الدبلوماسية على بياض.
إن الأنماط السياسية الأساسية التي تشكل السياسات الأمريكية تجاه “إسرائيل” ليست جديدة، وتعود في أصلها إلى الوراء على الأقل عندما انحاز هاري ترومان في سنة 1948 إلى جانب مستشاره السياسي كلارك كليفورد، ضد النصيحة القوية لمستشاريه في مجال الأمن والسياسة الخارجية فيما يتعلق بالاعتراف بدولة “إسرائيل” المعلنة من جانب واحد. أصبح هذا النمط أكثر وضوحًا في السنوات الأخيرة، وبالتأكيد لم يختفِ في سنة 2023 على الرغم من التغيير في بعض ما يقال عن المساعدات الأمريكية؛ حيث يستمر هذا النمط في قمع المناقشة الكاملة والصادقة للاختلاف بين المصالح الأمريكية وكثير من السياسات والسلوكات الإسرائيلية.
إن الاحتجاجات على الإصلاح القضائي ورغم أنها ضخمة، إلّا أنها لم تمتد إلى قضية أكثر تحديدًا للاتجاه الذي تتجه إليه “إسرائيل”، وبالأخص عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، والتأثيرات على المصالح الأمريكية باستمرار الاحتلال وإخضاع الشعب الفلسطيني. من المعقول أن نأمل أن تتوسع الاحتجاجات، وتعبيرات التأييد لها خارج “إسرائيل” في هذا الاتجاه، ولكن حتى الآن كانت القضية الحاسمة في الغالب هي الأمر الأساسي المغيّب.
لم تغيّر قضية الإصلاح القضائي والاحتجاجات المرتبطة بها أساسيات العلاقة بين الولايات المتحدة و”إسرائيل”، فقط جعلوا الأمر أقل مجازفة من الناحية السياسية إذا اقتربوا من التحدث عن بعض الحقائق التي تم قمعها منذ فترة طويلة حول تلك العلاقة.
المصدر: ناشيونال إنترست