تحل الذكرى العاشرة لفض اعتصام معارضي الانقلاب العسكري في ميداني رابعة العدوية والنهضة في 14 أغسطس/آب 2013 وسط أجواء من الاستدعاء المكثف لتفاصيل ما حدث في هذا اليوم الذي وصفته منظمة هيومن رايتس ووتش بأنه المذبحة الأبشع في التاريخ المصري.
ورغم مرور عشر سنوات كاملة على تلك المذبحة، فإنها حاضرة وبقوة في أذهان كل ضحاياها، وذويهم، والمسؤولين عنها، وكل من سمع عنها سواء عبر منصات التواصل الاجتماعي التي وثقت ما حدث بالصوت والصورة، أم من خلال التقارير الصادرة عن المنظمات الحقوقية الدولية التي استندت إلى روايات شهود العيان الناجين من تلك المجزرة.
وكما كان الإفلات من العقاب السمة الأبرز خلال السنوات الماضية، فإن فشل مساعي السلطات في طمس تلك الجريمة عبر روايات متناقضة، وإصرار ضحاياها على الإبقاء عليها كـ”سبّة” في جبين دولة الثالث من يوليو/تموز 2013، سمة أخرى تفرض نفسها على المشهد.
وبين هاتين السمتين، تأتي الذكرى العاشرة في ظل حالة من الزخم الإعلامي والشعبي تخيم على الأجواء مع عرض الفيلم الوثائقي “ذكريات مذبحة” وهو الفيلم الذي أثار الكثير من الجدل لما يمثله من نقلة كبيرة في مسار الأعمال الوثائقية التي توثق تلك المذبحة، لتُعاد الأضواء مرة أخرى على جريمة الفض بعد سنوات من الأفول والتعتيم المتعمد.
الذكرى ما تزال حية..#مذبحة_رابعة#عشر_سنوات pic.twitter.com/lXL9SRePLK
— KilledinEgypt (@KillednEgypt) August 13, 2023
لن ننسى
“لم أصدق أن عشر سنوات كاملة مرت على تفاصيل ذلك اليوم المروع، فكل التفاصيل لا تزال عالقة برأسي، شريط أكثر من 12 ساعة كاملة، من السابعة صباح 14 أغسطس/آب 2013 وحتى السابعة مساءً، يعاد يوميًا على شاشة ذاكرتي، فأشعر أن ما حدث قبل 10 سنوات قد وقع اليوم، فرائحة الدماء لم تزل تزكم أنفي، وصور الجثث والأشلاء وصرخات الأطفال فيلم مرير يعرض كل يوم عليّ”… بتلك الكلمات علق “أشرف حسنين” ( 42 عامًا) على الذكرى العاشرة للمذبحة، واصفًا ما حدث في ذلك اليوم بأنه “محرقة بكل المقاييس”.
وأضاف الشاب المصري الذي كان بين المعتصمين في الميدان أن المشاهد التي عايشها في هذا اليوم لا يمكن نسيانها بأي شكل، منوهًا أنه كثيرًا ما كان يتمنى نسيانها بسبب ما تمثله من ضغط نفسي وعصبي عليه، وتسببت في تعرضه لأزمات نفسية حادة، لكن صعوبة المشاهد والآلام التي عايشها تأبى إلا أن تظل محفورة في الذاكرة كشريط سينما يتم عرضه بين الحين والآخر.
ويواصل الحديث قائلًا: “كنت بين المعتصمين في عمارة المنايفة الشهيرة بميدان رابعة، كنا ومجموعة من الشباب نتخذ من هذا المبنى درعًا لنا، كان معنا 3 أطباء يشاركون في المستشفى الميداني ثم يحتمون بتلك العمارة، وما إن جاءت الساعة السادسة مساء هذا اليوم المشؤوم إلا ووابل من الرصاص وقنابل الغاز اخترقت المكان، واستشهد في الحال اثنان من الأطباء الذين كانوا معي فيما هرب الثالث وأنا معه وكأننا في مشهد يوم القيامة، فلا أحد يدري إلى أين يذهب والرصاص يحيطنا من كل جانب، أرض وسماء”.
لن ننسى رابعة! #رابعة #تذكروا_رابعة #لن_ننسى_رابعة #Rabaa #rememberRabaa#WeWillNotForgetRabaa pic.twitter.com/oEn0vovRyu
— HOSSAM ALMOTAIM (@ALMOTAIMH) August 14, 2023
أما “سمية متولي” (40 عامًا) تعمل أكاديمية في إحدى الجامعات المصرية فكانت تشارك زوجها (الأكاديمي) الاعتصام، مستبعدة بأي شكل من الأشكال أن يطلق عليهم الجيش أو الشرطة النيران، خاصة أن كل البيانات التي سبقت الفض كانت تشير إلى السلمية والخروج الآمن، لكن يبدو أن تعليمات ما جاءت إليهم بالفض بأي شكل ومهما كانت الضحايا، هكذا قالت.
وأضافت أنها فوجئت بالرصاص يمر من بين يديها وهي في الممر الذي صنعته قوات الأمن لخروج المعتصمين، لكن يبدو أن الأمر كان أبعد من ذلك، فالممر لم يكن آمنا كما قيل، فكثير من المارة سقطوا بالرصاص والآخرون تم إلقاء القبض عليهم وما زالوا في السجن حتى اليوم، أما من تبقى منهم فتعرضوا للتضييق، ما دفعهم لمغادرة الوطن.
واختتمت الأكاديمية المصرية حديثها لـ”نون بوست” قائلة: “على مدار تلك السنوات حاولوا شيطنة رابعة واتهموا المعتصمين بأبشع التهم، واعتقلوا الآلاف وأصدروا أحكامًا جزافية بحق المئات ما بين إعدام ومؤبد، وسخروا أجهزتهم الإعلامية والدرامية لتشويه صورة الثورة والثوار، في محاولة للردم على جريمتهم ضد الإنسانية، لكننا لن ننسى، ومع كل محاولة للطمس يزداد إصرارنا على ألا ننسى، فما حدث أعمق من أن ينسى هكذا”.
في مثل هذا اليوم وبعد 10 سنوات على #مذبحة_رابعة مازلت لا أعرف النوم، هذا اليوم فقدنا ماكنا عليه، لم نعد كما كنا و لم نعد كما حلمنا لقد ضاع الحلم وأصبح الصديق شهيدا أو معتقل، لم أعد أرئ غير الدم و السجن الذي أصبح عنوان وطني مصر ، لم أهنئ يوما منذ 14 أغسطس 2013 حتي اليوم لم… pic.twitter.com/NcWyVmZ1ma
— omar elfatairy (@OElfatairy) August 13, 2023
وفي ذات السياق غرد المستشار وليد شرابي على حسابه على تويتر بمناسبة تلك الذكرى قائلًا: “ذكرى مذبحة رابعة ليست ككربلاء نذكرها لكي نبكي أو نتباكى.. لكن ذكرى مذبحة رابعة لكي نذكر أنفسنا بأن المجرم وشركاءه لم يحاسبوا بعد، ولكي يعلم الجميع أن دماء الشهداء ما زالت تؤرق قلوبنا إلى أن يتم القصاص”، وأضاف في تغريدة أخرى “لا تنسوا.. فالمذبحة التي تنسى تتكرر “.
ويستدعي الطبيب إسماعيل حجازي، أحد الأطباء الذين شاركوا في الاعتصام بعض تفاصيل ما حدث وأنه صعب النسيان بكل تأكيد، قائلًا: “كنت مسؤول عن العناية المركزة في مستشفى مركز رابعة وكان دخولي يوم الفض في منتهى الصعوبة، فقد كان هناك قناص يطلق الرصاص على أي أحد يحاول الدخول، ليمنع المصابين من تلقي الاسعافات، ورأيت الجثث يثم حرقها أمام عيني”.
” لا تنسوا .. فالمذبحة التي تنسى تتكرر “
الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيجوفيتش
لذلك يجب أن نتذكر دائما المذبحة فالذكرى في حد ذاتها أحد وسائل الدفاع عن النفس .
إن أقصى أمنيات المجرم لا أن يفلت من العقاب بل أن ينسى أنه إرتكب الجريمة من الأساس .#رابعة#مذبحة_رابعة
— Waleed Sharaby (@waleedsharaby) August 11, 2023
زخم إعلامي يعيد المذبحة للأضواء
ثمّة حالة من الزخم الإعلامي والشعبي تخيم على الذكرى العاشرة للمذبحة ربما لم تشهدها منذ سنوات طويلة، وهو ما يمكن ملامسته عن قرب من خلال تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي وردود الفعل القوية إزاء عرض الفيلم الوثائقي المعنون له بـ”ذكريات مذبحة” المنتج بمناسبة الذكرى العاشرة لرابعة.
وأثار هذا العمل حين عُرض لأول مرة قبل أيام باللغة الإنجليزية على مسرح “الأكاديمية البريطانية للأفلام وفنون التليفزيون – بافتا” الكثير من الجدل، لا سيما مع الإشارة إلى عرضه في أكثر من عاصمة أوروبية وأمريكية وكندية، وتلك سابقة لم تحدث من قبل، فضلًا عن أنه يُمثل وثيقة تاريخية يصفها البعض بأنها الأقوى والأكثر تأثيرًا بين قائمة الأعمال الوثائقية الكثيرة التي توثق لعملية الفض.
العمل أخرجته البريطانية الشهيرة نيكي بولستر التي لها سجل حافل من الخبرات نتيجة عملها مع أبرز القنوات البريطانية من بينها “بي بي سي” و”آي تي في” والقناة الرابعة البريطانية، بجانب حصول الفيلم على جائزة “أفضل فيلم وثائقي” لعام 2023 من مهرجان السويد للأفلام، ويحتوي على شهادات حصرية لأول مرة من شخصيات لها مكانتها وتأثيرها مثل المسؤول السابق في إدارة أوباما بن رودس ومراسل صحيفة نيويورك تايمز ديفيد دي كيركباتريك، ورئيسة هيومن رايتس ووتش السابقة سارة ليا ويتسن، ومصور وكالة أسوشيتد برس مصعب الشامي، إلى جانب أصدقاء وأفراد عائلات أولئك الذين لقوا حتفهم، ما منح العمل ثقلًا وزخمًا كبيرًا.
شاهد صراخ وعويل سيساوية ومحاولتها البائسة التشويش على عرض الفيلم “#رابعة” في مقر البافتا المرموق في قلب #لندن. الفيلم يوثق أحداث مجزرة ميدان رابعة البشعة pic.twitter.com/GIHau6JdEl
— مجلة ميم.. مِرآتنا (@Meemmag) August 5, 2023
ويرى الكاتب الفلسطيني محمد عايش أن فيلم “ذكريات مذبحة” يُشكل تحركًا نادرًا على مستوى المعارضة المصرية، ويمثل نقطة محورية في التذكير بأن هذه الأزمات لم تنتهِ بعد وهذه الدماء ما زالت لم تجف بعد، لافتًا إلى أن أهمية هذا العمل تنبع من ثلاثة مسارات رئيسية:
الأول: أنه يخاطب العالم الغربي كونه يعرض باللغة الإنجليزية، فضلًا عن أنه يتضمن شهادات شخوص نافذين في صناعة القرار السياسي والإعلامي في الغرب مثل النائب البريطاني كريسبن بلانت، والصحافي الأمريكي ديفيد كيك باتريك، وأن تلك الخطوة هي الأولى من نوعها منذ أكثر من عشر سنوات.
الثاني: أن الفيلم يأتي بعد مصالحة القاهرة مع كل من أنقرة والدوحة، وهما العاصمتان المتهمتان دومًا من السلطات المصرية باحتضان المعارضة ورعايتها، ما يعني أن الحراك السياسي للمعارضة لا يحتاج إلى عواصم ترعاه وتحدد مساره وأنها – المعارضة – قادرة على التطور والنمو بعيدًا عن أي حاضنات إقليمية أو دولية، وعليه فإن الطريق الوحيد لإسكات المعارضة “هو المصالحة الوطنية الداخلية، التي تشمل الجميع وتتعامل معهم بالتساوي، وتفسح المجال لكل القوى السياسية أن تُشارك في إدارة بلادها” على حد قول عايش.
الثالث: أن الفيلم أعاد مجددًا أحداث فض الاعتصام إلى الأضواء رغم مرور عشر سنوات على تلك الجريمة، “ما يعني أن الأزمات لا تنتهي بطريقة الردح والنواح والصياح بالصوت المرتفع على البرامج المسائية في القنوات التليفزيونية المحلية، وإنما الطريق الوحيد للتعامل مع هذه الأزمة وتسويتها هو الحوار الوطني والمراجعة الشاملة والانفتاح على الجميع لخلق وطن للجميع، وليس لنخبة دون غيرها”.
Today marks the 10th anniversary of the Rabaa massacre, where Egyptian forces killed at least 900 people using armoured vehicles and bulldozers.
10 years later, several Egyptian families are still searching for missing family membershttps://t.co/iNBuPBnQiD
— Middle East Eye (@MiddleEastEye) August 14, 2023
البحث عن مسارات جديدة
في مقال له بمناسبة الذكرى العاشرة لتلك المذبحة حاول الصحفي المعارض، قطب العربي، عضو حركة صحفيون ضد الانقلاب، استدعاء بعض ذكريات ذلك اليوم، لافتًا إلى أنه كان على وشك الإصابة برصاصة تودي بحياته لولا أنها مرت من فوق ظهره بسنتيمترات قليلة لتستقر في جسد طبيب بجواره كان يعالج المصابين، مضيفًا “لو أنني رفعت ظهري قليلًا في تلك اللحظة فربما كانت الرصاصة من نصيبي أنا.. إذن لقد نجاني الله منها، وكتب لي الحياة، لكن هذا المشهد لم أستطع محوه من ذاكرتي طيلة السنوات العشرة الماضية، وإلى جانبه مشاهد مرعبة أخرى كنت شاهدًا عليها”.
ووصف العربي الاستهداف الشرس من قوات الأمن للمعتصمين بأنه كان خارج نطاق التوقعات “فقواعد الحروب تمنع قتل المسالمين، والأطفال والنساء، لكن الذين فضوا اعتصام رابعة تجردوا من أي مبادئ سماوية أو أرضية، وتعاملوا مع مصريين مثلهم كوحوش مفترسة انقضت على فريستها دون رحمة”.
واختتم الصحفي المصري مقاله بأنه رغم ما يحمله كل من شارك في هذا اليوم من آلام وجراح، ليس من الحكمة أن يظل الناجون من عملية الفض عالقين في ذلك اليوم، “بل الواجب أن نبحث عن مسارات جديدة لإنقاذ الوطن، ووقف نزيف المزيد من الدماء، واستعادة لحمة المجتمع، واستعادة المسار الديمقراطي، وساعتها سيمكن تطبيق عدالة انتقالية تعطي كل ذي حق حقه، وتفتح للوطن صفحة جديدة”.
عشر سنوات مضت على تلك المذبحة، حاول مرتكبوها بشتى السبل طمس ملامحها، فغيروا مسمى الميدان، وزجوا بالمشاركين وذويهم إلى السجون، ودفعوا من نجا منهم إلى مغادرة البلاد، على أمل أن تُطوى تلك الصفحة، لكن الواقع يقول عكس ذلك، فكلما مر الزمن زاد الزخم، ومع كل ذكرى تتعاظم التفاصيل وتتعمق آثارها، لتترك جروحا غائرة في العقل والروح تأبى النسيان.