احتدام النقاش حول التصنيفات التي أُصبغت على مجموعة “السائحون” بالنظر إلى بعض أنشطتها يقود نحو تسليط الأضواء على تلك التحولات التي تحدث داخل الجماعات أو لدى الأشخاص لاسيما المفكرين منهم، وكان النقاش قد ابتدأ على إثر تصريحات أطلقها “الزبير أحمد حسن” وهو يصف مجموعة السائحون بأنهم: ” خليط من الوطني والشعبي واليسار وبعضهم لا ينتمون لنا..” وكان ذلك تعليقًا على لقاء جمع قيادة السائحين بالأمين العام للحركة الشعبية قطاع الشمال.
في أول ردة فعل على تصريحات الزبير حسن، أطلق الناطق باسم “السائحون” توضيحات جاء فيها: “التصريحات الصادرة من الأخ الأمين العام للحركة الاسلامية تفتقر إلى القراءة السليمة والمعلومة الصحيحة، فالأخ الزبير أحمد الحسن لم يميز بين مبادرة السائحين وبين صفحة السائحين وهناك فرق بين الإثنين، مبادرة السائحين تيار إصلاحي له مبادرة ورؤية وأدبيات، وصفحة السائحين صفحة على الفيسبوك مفتوحة لكل الناس الإسلامي والعلماني، والحوار والنقاش فيها مفتوح لكل الناس بمختلف تكويناتهم وتوجهاتهم”، لكن الناطق باسم السائحين قدّم إضافة مهمة حملت إشارة أن مجموعة الشباب الذين ينتمون إلى الصف الإسلامي وخاضوا الصراع الدامي من أجل تثبيت أركان المشروع الإسلامي يتسمون في لحظتهم هذه بالانفتاح على الآخر، حيث يقول علي عثمان علي: “مبادرة السائحين تسعي للانفتاح علي الآخر الذي يؤمن بمرجعية الإسلام وتسعد بانضمام أهل اليسار لها، ولكن حتى الآن لا يوجد بها يساريون، والأخ الزبير يحتاج إلى مراجعة هذه المعلومة والقراءة غير السليمة من مظانها الصحيحة”.
ليس الأمر وقفًا على الأمين العام للحركة الإسلامية وتيار السائحين، فقد شهد العالم بأسره ارتباكًا فيما يتعلق بالتحولات في المفاهيم والأفكار بين اليمين واليسار، وهو الموقف الذي يعبر عنه دائمًا الأستاذ “المحبوب عبد السلام” وهو يقول: “أنا قلت أكثر من مرة أن كلمة (يسار) في العالم تغيرت، اليسار تيمّن واليمين تيسّر، كما حدث فى الصين أو فى حزب المحافظين ببريطانيا، فالبرنامج الذى يقوده حزب العمال الآن هو برنامج تاتشر منذ غوردن براون وتونى بلير، والصين الآن أقرب إلى اقتصاد السوق منها إلى الاقتصاد الاشتراكي، فالعالم فيه رتباك فيما يتعلق بالتحولات من اليمين إلى اليسار منذ السبعينات”.
عرّف السائحون مبادرتهم للإصلاح على الدوام بأنها تنطلق من مرجعية إسلامية وتضم في عضويتها منتمين للمؤتمر للشعبي والمؤتمر الوطني والرصيف، كما أنّهم أوضحوا أن حوارهم مع الحركة الشعبية “كان حوار رؤى وتصورات ومفاهيم” وهو عند هذا المستوى يمثل تطورًا كبيرًا يجسد الانتقال من ساحة الاقتتال والحوار بالسنان إلى ساحة أوسع للحوار باللسان، تفاوضًا وتفاكرًا وهو تطور فكري يمثل الأصل في المفكر الذي يختص بإعمال عقله يتوسل به إلى الحركة والتجديد على النقيض من حالة الجمود التي تركن وتنكفئ بالأفكار مكتفية بالقديم المتوارث.
قدّم المفكر العربي المغاربي “محمد عابد الجابري” نموذجًا أبرز في ساحة التحولات الفكرية، إذ قضى ما يصل إلى نصف عمره ماركسيًا شديد الحماسة والإيمان بالمنهج الجدلي، لكنه في مستهل عقد الثمانينات من القرن الماضي تحول فجأة إلى الدعوة لمشروع نهضة عربية إسلامية، وأظهر الجابري في كتابه “الدين والدولة وتطبيق الشريعة” برمًا شديدًا من فكرة الدعوة إلى العلمانية في بلاد المسلمين باعتبارها مسألة مزيفة لا تخاطب القضايا الماثلة التي تطمح إليها المجتمعات في العالم العربي والإسلامي، إذ إن شعار العلمانية طُرح في العالم العربي بداية بواسطة مفكرون مسيحيون من الشام الخاضع آنذاك للأتراك والخلافة العثمانية التي كانت تحكم باسم الإسلام، وكان ذلك تعبيرًا خجولاً عن الحاجة للاستقلال عن سلطة الأتراك العثمانيين، ومن هنا ينطلق الجابري إلى أن مسألة “العلمانية” في الوطن العربي مسألة مزيفة، بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات، إن الحاجة إلى الاستقلال في إطار هوية قومية واحدة، والحاجة إلى الديمقراطية التي تحترم حقوق الأقليات، والحاجة إلى الممارسة العقلانية للسياسة، هي حاجات موضوعية فعلاً، مطالب معقولة ومطلوبة ولكنها تفقد معقوليتها عندما يعبر عنها بشعار ملتبس كشعار العلمانية.
من هنا يبدو السؤال عن إمكانية انفتاح الإسلاميين السودانيين، وقد خرجت من بين تياراتهم مجموعة “السائحين”، وإمكانية خوضهم لتجارب الحوارات والمناظرات المفتوحة أمام أعين الرأي العام، إذ تمت كثير من الحوارات في السابق بعيدًا عن المساحات المتاحة اليوم بفعل الانفتاح الإعلامي الذي وفرته التكنولجيا الحديثة وهي المساحات والطفرة الإعلامية التي تستغلها مجموعة السائحين حين أنشأت منبرًا حرًا على شبكة الإنترنت لكنه منبر موارٌ بالجدل الفكري والفلسفي ربما دار بين تيارات منهم أو اتصل به علمانيون وأصوليون وإسلاميون مستنيرون.
دوران الحوار على هذا وظهور أصوات أخرى بين تيارات الإسلاميين على هذا النحو ينبئ عن تغييرات قد تطرأ عليها حالما انبسطت الحريات وفق تصورات الأستاذ المحبوب عبد السلام وهو يقول: “إذا تغير المسار السياسى العام سيتغير التيار الإسلامى تغيير كبير، إذا توفرت حريات حقيقية فى السودان ووجدت فرصة أمام الصوت المناوئ للتيار الإسلامى ليتحدث؛ سيحصل فى التيار الإسلامى تغيير كبير جدًا في داخله، وكما قال باحث مصري: إنك إذا أردت أن تعرف الإخوان المسلمين فلا يجب أن تقرأ كتبهم لكن ينبغي أن تعيش بينهم، هل تعتقدون أن التيار الشبابى الإسلامى في المؤتمر الشعبي أو الوطني أو السائحين قرأ لسيد قطب؟ هل منفعل بظلال القرآن ومعالم فى الطريق؟ وإلى أى مدى هو منفعل بأطروحات الترابي .. أنا اعتقد أنه تيار متنوع ولديه اهتمامات واتجاهات جديدة، الكبت العام يمنعه من التعبير عن نفسه في أشكال جديدة، إذا بسطت حريات سيحدث تغيير كبير جدًا فى الحركة الإسلامية الحديثة التى جددها حسن الترابى”.