رغم تفوق الروس عليهم أضعافًا في كل شيء، لم يفقد الشيشانيون أملهم الثابت في المقاومة والاستقلال، فمن اللافت أن كل جيل من الشعب الشيشاني على مدى الـ 300 عام الماضية عاش مأساة جديدة سبّبتها الدولة الروسية، وكأنها سلسلة من الآلام تتعاقب عليها الأجيال، لكن الشيشانيين يعتبرون أن أكبر كارثة لحقت بهم في التاريخ، هي تهجيرهم قسريًّا من أراضيهم في اليوم الأكثر مأسوية 23 فبراير/ شباط 1944.
رغم أن مسلسل الإبادة والتهجير استمر على مدار القرون السابقة، لكن تهجير عام 1944 كان بالفعل أبشع ما مرَّ به الشيشانيون، إذ لم يقرر الروس القضاء على عدة أفراد أو حتى على جزء من السكان فحسب، بل قرروا إبادة أمّة بأكملها برجالها ونسائها وأطفالها، ومسح أوطانهم وتراثهم من الوجود في غضون أيام قليلة.
حتى الوقت الحاضر، ما زال لهذه الإبادة الجماعية جروح عميقة في ثقافة وذاكرة المجتمع الشيشاني، إذ إن جميع العائلات الشيشانية لديها ذكريات عن فقد الأهل والأصدقاء، بجانب المعاناة النفسية والجسدية، والأهم من ذلك خسارة التراث الثقافي والتاريخي، وبالتالي أصبح تهجير عام 1944 جزءًا من الهوية ومستودعًا للذكريات والمظالم تتوارثها الأجيال الجديدة، وهذا ما تجسّده البديهة الشيشانية: “لا شيء يُنسى، ولن يُنسى شيء”.
ستار من الدخان: الأسباب الحقيقية للتهجير
كان الشيشانيون من أكثر الأمم جرأة وعنادًا، تشبّثوا بأوطانهم، وكان من الصعب فرض نمط الدولة الحديثة على مجتمع تقليدي مرن كالشيشانيين، ولذا كان لديهم قدرة على رفض الاندماج ومقاومة الضغوط الروسية.
كانت مناطقهم من أكثر المناطق إزعاجًا للروس بسبب رغبتهم في الاستقلال، وتمسُّكهم بهويتهم الدينية والثقافية، فرأت القيادة الروسية أن هذه المعايير الدينية والثقافية تشكّل خطرًا عليها، وأن استمرار وتوسع الاتحاد السوفيتي مرهون بالقضاء على بذور عدم الولاء الموجودة في العقلية الشيشانية.
لذا في فبراير/ شباط 1943، اجتمعت اللجنة التنفيذية للحزب الشيوعي السوفيتي مع هيئة الأركان العامة للجيش، وقرروا إنهاء المشكلة الشيشانية مرة واحدة وإلى الأبد، فاتخذوا القرار بإبادة أمة بالكامل عبر تهجيرها من أراضي أجدادها لتموت بصمت في مكان آخر، كما قام مهندسو التهجير بوضع خطة لتوطين روس وجنسيات أخرى في الشيشان، وتوزيع الأراضي الشيشانية على المقاطعات المجاورة.
كان الدافع الحقيقي وراء قرار التهجير هو إرث هذه المنطقة، كمنطقة صراع تاريخي ومقاومة شرسة، ومخافة السوفيت من احتمال أن يقاوم الشيشانيون والإنغوش مرة أخرى، لأنهم رفضوا الخضوع باستمرار.
من اللافت أن الإرث التاريخي للمقاومة الشيشانية كان ماثلًا في ذكريات القادة السوفيت، أي أن العداء العرقي حلَّ محل العداء الطبقي، وبالتالي أرادوا منع أي تهديد مستقبلي قد تشكّله العرقيات، وخصوصًا الشيشان، لأنها تمثل بوابة الاستقلال للمناطق المجاورة، منبع التمرد في المنطقة.
هذا بجانب تبنّي القيادة السوفيتية منطق “التطهير الجيوسياسي”، وهو نفس سياسة القيادة القيصرية التي توصّلت إلى أن إبادة وتهجير سكان القوقاز غير الموالين، سيضمنان لها تأمين السيطرة الكاملة على شمال القوقاز.
ثم سارت روسيا السوفيتية على تحقيق حلم القياصرة، فقام السوفيت منذ العشرينيات وحتى نهاية الأربعينيات من القرن الماضي بتهجير جنسيات بأكملها من أراضيها، معظمها من المسلمين، كالبلغار وتتار القرم الذين هُجّروا للأسباب نفسها التي هُجّر بها الشيشانيون والإنغوش، لكن الشيشانيين كانوا من أكبر العرقيات المهجّرة.
يرى أستاذ التاريخ والسياسة جيريمي سميث، أن تهجير الشعوب المسلمة في شمال القوقاز لم يكن فقط مدفوعًا برغبة هذه الشعوب في الاستقلال عن روسيا، لكن أيضًا بسبب التاريخ الطويل من المقاومة ضد الإمبريالية الروسية، كما أن هناك عرقيات أخرى تعاونت بالفعل مع الألمان، لكن الروس لم يتهموها أو يعاملوها بنفس ما عاملوا به الشيشانيين والعرقيات الإسلامية الأخرى.
وللتغطية على الدوافع الحقيقية للتهجير، لفّق السوفيت اتهامات رسمية ضد الشعوب التي هجّرها، كانت الأسباب التي أقرّها الروس لتبرير التهجير، هو أن جميع الشيشانيين والإنغوش خونة تحالفوا مع الألمان ضد الجيش السوفيتي، وأنشأوا مجموعات مسلحة.
لكن يشير غالبية المؤرخين إلى عدم وجود دليل يدعم هذا الادّعاء، لأن الشيشانيين والإنغوش لم يكن لديهم حتى فرصة للتعاون مع الألمان، فالجيش الألماني بالكاد وطأت قدمه الشيشان، ولم يُواصل التقدم إلى الأراضي الشيشانية، بل توقف عند مسافة قريبة من الحدود.
كما تكشف الوثائق الرسمية لعامَي 1943-1944 أن السكان المحليين من الشيشان والأنغوش قاوموا الألمان بالفعل وأوقفوا تقدمهم، إضافة إلى ذلك فإن أكثر من 40 ألف شيشاني وإنغوشي قاتلوا في الخطوط الأمامية بصفوف الجيش السوفيتي في الحرب العالمية الثانية -بعضهم جُنّدوا إجباريًّا وبعضهم قاتلوا بمحض إرادتهم-، وسقط الآلاف منهم في ميدان المعركة.
الطريق نحو المذبحة: الغدر الروسي
لم يكن التخطيط لتهجير أكثر من نصف مليون شيشاني وما يزيد على 100 ألف إنغوشي عبر آلاف الكيلومترات عملية سهلة، خصوصًا أنه كان يخطَّط لها وقت الحرب العالمية الثانية، وفي الوقت نفسه الذي كان الجيش الأحمر يخوض قتالًا شاقًّا ضد ألمانيا، وتكبّد خسائر فادحة ونقصًا في المؤن.
لذا استغرق التحضير للوجستيات والخطط العسكرية سنة كاملة، سُمّيت العلمية بـ Chechevitsa (أو Lentil)، خطّط الروس كل شيء فيها بسرّية تامة ودقة شديدة، حتى مدة نقل الأشخاص من أوطانهم إلى المكان الجديد كانت محددة بـ 8 أيام فقط، وبالفعل بدأت في 23 فبراير/ شباط 1944 وانتهت في 1 مارس/ آذار 1944.
كان اليوم الذي هُجّر فيه الشعب الشيشاني هو “عيد الجيش الأحمر”، حيث كان الجنود الروس يحتفلون في كل مكان، وحين ذهب أكثر من 100 ألف من قوات الجيش السوفيتي إلى القرى الشيشانية قبل 23 فبراير/ شباط 1944، استقبلهم الشيشانيون بحسن ضيافتهم المشهورة، وأخبر الجنود السكان أن سبب وجودهم في المنطقة هو القيام بتدريبات عسكرية.
قام السكان بإيواء الجنود الروس في منازلهم، لم يكن لديهم أدنى فكرة أن هؤلاء الجنود الذين آوَوهم من برد الشتاء، سيصوّبون أسلحتهم نحوهم ويهجّرونهم بالقوة من ديارهم.
ثم في صباح 23 فبراير/ شباط 1944، أجبر الروس جميع الرجال الشيشان على الخروج من منازلهم من أجل الاحتفال معهم في الساحات العامة في كل مدينة وقرية، ولأن الشيشانيين لم تكن لديهم شكوك بشأن الكارثة التي على وشك أن تحل بهم، خرجوا بالفعل.
استمرت أفواج الشيشانيين في الذهاب إلى الميادين مع أعضاء الحزب وقادة الحكومة السوفيتية، يحملون الشعارات الوطنية، ويغنّون أغانيهم التقليدية، دون أن يشكّوا في أي شيء، لكن بدلًا من استكمال الاحتفال بعيد الجيش الأحمر، سرعان ما حاصرت قوات الأمن كل ساحة عامة، وقرأ القائد العسكري على مواطني كل بلدة المرسوم الصادر عن هيئة رئاسة مجلس السوفيت الأعلى، والذي نصَّ على تهجير شعب وايناخ بأكمله (الشيشان والإنغوش) إلى آسيا الوسطى وغرب سيبيريا لأنهم خونة، خانوا الوطن السوفيتي وتعاونوا مع الألمان.
أُصيب الشيشانيون بالصدمة، وسأل كل واحد فيهم “لماذا؟“، لكن جواب الجنود الروس كان واحدًا، وهو أن أمامهم 15 إلى 20 دقيقة فقط للاستعداد للتهجير.
وفي الوقت نفسه، احتل الجنود الروس بالفعل كل القرى والمدن الشيشانية، بعد ما أفرغوها من معظم الرجال بالخداع والمكر، ثم أجبروا النساء في كل بيت بإعداد أنفسهن وأطفالهن في غضون نصف ساعة استعدادًا للتهجير، وأن تقتصر أمتعتهن على 20 كيلوغرامًا.
كما أمرت السلطات السوفيتية بقتل كل من يبدي رغبة في الاعتراض على التهجير، وبالفعل أباد الروس آلاف الأبرياء الذين رفضوا ترك أرض الأجداد، والكثير من القرى سُوّيت بالأرض وقُصفت بالقنابل.
غطت مشاهد الحرق الجماعي والجثث المنازل والساحات والقرى والغابات على طول الطريق، أما الأشخاص الذين اعتبرهم الروس “غير لائقين للسفر” كالمرضى وكبار السن والمعاقين، حتى الموجودين في المستشفيات، فقد صدرت الأوامر بذبحهم جميعًا من أجل الالتزام بالجدول الزمني المحدَّد لعملية التهجير.
قتل الروس المرضى في أحد المستشفيات الشيشانية (مشهد تمثيلي لمشهد تاريخي حقيقي)
وهناك أحياء وقرى بأكملها أُبيد كل من فيها، مثل قرية خايبخ الجبلية، حيث تمَّ اقتياد الجميع بما في ذلك النساء الحوامل وكبار السن والأطفال، وحبسهم الروس في إسطبل كبير وأحرقوهم أحياء، إحدى ضحايا ذلك اليوم أنجبت توأمَين، وهما حسن وحسين، لم يعيشا إلا ساعتَين فقط، ومات في هذه المذبحة حوالي 700 شيشاني، ولم ينجُ منها سوى طفل واحد.
وصفَ المقدم الروسي غريغوري بورليتسكي تجربته مع تهجير الشيشانيين، وفيها يقول: “أمرت وحدتي التي كانت جزءًا من قوات الدفاع الخلفي عن شمال القوقاز بالتحرك لتنفيذ مهمة حكومية ذات أهمية خاصة، وفي غضون يوم وساعة محددة واصلنا التقدم إلى منطقة كاراشاي، ومثل جميع زملائي الآخرين شرعت في تنفيذ الأمر بإعادة التوطين القسري لسكان كاراشاي”.
“ورغم النحيب والبكاء والدعاء، تمَّ وضع عائلة بعد عائلة بالقوة في الشاحنات لنقلها إلى نقطة التجمع، ومن هناك تمَّ إرسالهم مرة أخرى تحت الحراسة في شاحنات إلى محطة السكة الحديد، وتمَّ نقلهم بعدها في عربات الماشية بالقطار”.
“جميع الجنود كانوا على دراية بالمسار التقليدي لشعوب القوقاز، فلم تكن شجاعتهم خفية على الحكومة السوفيتية التي كانت تخشى من مقاومتهم وانتقامهم، لذلك قررت خداعهم وإزالتهم مرة واحدة وإلى الأبد، وعلاوة على أن المراكز الإقليمية والميادين كانت محاصرة بالقوات المسلحة، فإن جميع المرتفعات كانت أيضًا مطوّقة من قبل القوات”.
على مدار أيام قليلة، محا الروس شعبًا بأكمله من أراضي أسلافه، وبعد هذه المذابح مباشرة نفّذ الروس الجزء الثاني من خطة التهجير، فدمّروا كل ما يمتّ بصلة إلى الشيشان، وحذفوا جميع الإشارات إلى الشيشان من الأماكن والخرائط والسجلّات والموسوعات الرسمية.
كما أحرقوا المكتبات والوثائق الشيشانية، ثم قاموا بتوطين الروس والجنسيات الأخرى في الأراضي والبيوت الشيشانية التي سرقوا كل محتوياتها أولًا، كما ذكرنا بالتفصيل من قبل، اقرأ: اغتيال التاريخ وسحق الحضارة.. كيف أباد الروس تراث وذاكرة الشعب الشيشاني؟
بعد بضعة أسابيع، لم يعد لما سُمّي بـ”جمهورية الشيشان الإنغوشية الاشتراكية السوفيتية” وجود، وقام النظام السوفيتي بنشر بروباغاندا صوّرت الشيشانيين المهجَّرين قسريًا على أنهم خونة وقطاع طرق، كما حاول المثقفون والعلماء الروس تبرير وإثبات صحة التهجير، وانزلقوا في هاوية الأكاذيب وتشويه سمعة الشيشانيين.
حتى كتب التاريخ الروسية صورت الشيشانيين على أنهم شعب إرهابي خائن وأصل كل المصائب، وتمّت الإشارة إليهم بمصطلحات الحشرات والتلوث والقذارة، الأمر الذي أدّى إلى مزيد من “الشيشانوفوبيا”، والتي ما زالت منتشرة اليوم بين صفوف المجتمع الروسي.
رحلة الهلاك: قطار الموت
لقد تطلب الأمر قوة بشرية هائلة وتخطيط دقيق لتهجير الشيشانيين والإنغوش، حيث شارك 100 ألف جندي و19 ألف ضابط روسي في تنفيذ التهجير وإعادة التوطين القسري، وكانوا مجهّزين بفرق دبابات وسلاح جو، إلا أن بعض الشيشانيين تمكّنوا من الفرار إلى الجبال في اللحظة الأخيرة، والبعض قاوم ومات.
واللافت أن الروس جهّزوا 110 آلاف وحدة عسكرية لمرافقة المهجرين، أي أنه لكل 5 من الشيشانيين والإنغوش يوجد جندي سوفيتي يراقبهم.
ثم بعد أن اصطاد الروس عائلة بعد عائلة بالقوة خلال منتصف الشتاء، أرسلوهم في شاحنات إلى محطة السكة الحديد، وبعدها تمَّ نقلهم تحت الحراسة إلى عربات القطارات المستخدمة في نقل الماشية والأمتعة، وهذه العربات لا تتوفر بها عناصر التدفئة، وبلا نوافذ.
حُشر ما يقرب من نصف مليون إنسان، رجالًا ونساء وأطفالًا، في 180 قطارًا، ولم يعرفوا إلى أين هم ذاهبون، ولم يُسمح لهم بأخذ كميات كافية من الطعام والماء أو أي نوع من المساعدات الطبية.
كانت رحلة الطريق محنة قاسية، قضوا عدة أسابيع في ظروف مروعة، وكما يتذكر أحد الشهود، فقد اختنق الكثير لأن الأبواب كانت مغلقة ليلًا ونهارًا، والجميع كان تحت تهديد السلاح، مكتظين في هذه العربات دون وجود تهوية أو مراحيض أو مرافق للاغتسال، وتسبّب عدم احترام الجنود التقاليد وجمع الرجال والنساء معًا في وفاة بعض الشيشانيات، اللاتي رفضن قضاء حاجتهن في عربات القطار أمام الرجال.
أدّى كل ذلك إلى انتشار الأمراض على نطاق واسع، خصوصًا أوبئة التيفوئيد، وسرعان ما حصد الموت الآلاف من كبار السن والأطفال على طول الطريق.
كان الجنود الروس يوقفون القطار في فترات محددة كل 24 ساعة لإخراج الجثث وإلقائها على جانبَي السكة الحديد، دون السماح للشيشانيين بدفن موتاهم طبقًا لتعاليم دينهم، الأمر الذي اضطر الشيشانيين إخفاء جثثهم، على أمل أن يتم دفنهم وفق الشريعة في نهاية رحلتهم السوداء. ويقول أحد شهود القطار:
“في مكان ما توقفت عربات القطار، التفت الجنود حولنا وسألوا: “هل هناك أي جثث؟”، فقلنا: “لا”، لكنهم فحصوا بأنفسهم. أتذكر بوضوح أن امرأة مريضة في عربتنا طلبت ماء، فركض ابنها ليحضر لها بعضًا منه، وبمجرد عودته قتله جندي بالرصاص، فسقط على الأرض وظل وعاء الماء بجانبه”.
أرسل لافرينتي بيريا، رئيس الشرطة السرية (NKVD)، والذي أشرف بنفسه على عملية التهجير، رسالة إلى ستالين في 29 فبراير/ شباط 1944 يبلغه فيها نجاح خطة التهجير، وعلى الفور كافأت السلطات الروسية أولئك الذين أبادوا الشعب الشيشاني، فتمّت مكافأة بيريا و711 جزارًا من زملائه، ونالوا أوسمة عسكرية تقديرًا لإنجازاتهم.
الصراع اليومي
بعد أن انتهت رحلة الهلاك، بدأت صفحة أخرى بائسة، نُقل الشيشانيون والإنغوش إلى أماكنهم الأجنبية، كان على الجميع بناء ملاجئهم الخاصة وإطعام عائلاتهم، ووضع الروس الجميع تحت المراقبة التعسفية، وفرضوا قواعد صارمة لقتل المهجَّرين ببطء.
فعلى سبيل المثال، لم يُسمح لهم بمغادرة أماكن إقامتهم المفروضة عليهم خارج محيط 3 كيلومترات، كما كان على جميع الشيشانيين الحضور كل 3 أيام إلى مكتب الشرطة للتحقق من وجودهم، وحتى أبسط المخالفات عوقبوا عليها بالسجن والأشغال الشاقة.
كما أُجبروا على العمل سخرة في معسكرات العمل، وأُرسل عدة آلاف منهم إلى مناجم الفحم والمعادن، لكن الغالبية منهم اعتبرهم الروس غير قادرين على الأنشطة الإنتاجية، وتركوهم يواجهون الصعاب بمفردهم.
لكن رغم ذلك، كانت المشكلة الأكبر بالنسبة إلى الشيشانيين والإنغوش هي في تشرذم العائلات وفصلها عن بعضها، حيث قام الروس بفصل قادة العائلات والأخوات عن بعضهم، وأجبروهم على العيش في أماكن منفصلة عن عائلتهم.
في الحقيقة، كانت حياة الشيشانيين اليومية عبارة عن صراع يومي مستمر، البرد والجوع والألم الناجم عن فقدان الأقارب، الحرمان من جميع حقوقهم الإنسانية والقانونية، والافتقار إلى أساسيات العيش من الطعام إلى الملابس والرعاية الطبية والحرمان من التعليم.
لقد واجهوا المجاعة والأمراض الأكثر فظاعة في فصول الشتاء القاسية في سيبيريا وآسيا الوسطى، ولم يتمكنوا من حفر القبور لمن مات منهم، لأن الأرض كانت متجمدة، كانوا يلقون الموتى في الثلج وعندما يأتي الربيع يدفنونهم مرة أخرى في الأرض، ويصف أحد الجنود الروس الوضع قائلًا:
“لقد جلبانهم إلى هنا من دون أي شيء على الإطلاق، من دون سرير أو طعام أو أوانٍ أو فلس واحد. أُجبروا على العمل في المزارع الجماعية من الفجر حتى الغسق، ولم يتم إعطاؤهم حتى غرام واحد من الخبز أو فلس واحد، أما الذين أُجبروا على العمل في مزارع “السفخوز (Sovkhoz)” فتمَّ إعطاء الفرد الواحد 200 أو 300 غرام من الخبز”.
“حاول الناس أن يتاجروا بالممتلكات السيئة التي تمكنوا من إحضارها معهم مقابل بعض الطعام، وبهذه الطريقة تمكّنوا من الصمود وهم يتضورون جوعًا لمدة شهر أو شهرَين، لكن استشرى الجوع فيهم بعد ذلك، وذبل الناس إلى هياكل وبدأوا في السقوط”.
أحد الشيشانيين الناجين من الإبادة الجماعية يروي قصته
وحسب شهادة أحد الشيشانيين المهجّرين، فقد كان الروس يطلقون النار على الأطفال، وفي إحدى المرّات أطلق أحد الجنود النار على فتاة تبلغ من العمر 4 سنوات لتسلقها شجرة وأخذ تفاحة واحدة، عندما علم والدها بموتها جاء راكضًا، فأطلق الجندي النار عليه أيضًا، فذهب أقاربه إلى القائد الذي كانت وظيفته حماية الأشخاص، وأخبروه بالحادث، فأجاب بسخرية: “من المؤسف أنه لم يطلق النار عليكم جميعًا”.
لم يمُت الشيشانيون في قطار الموت فقط، بل مات كثيرون في ظل هذه الظروف القاسية التي أُجبروا على العيش فيها، ويبدو أنه كان محكومًا عليهم بالموت جوعًا.
من الجدير بالذكر أنه بينما كان كل هذا يحدث للأمة الشيشانية، كان الآلاف من الشبان الشيشانيين والإنغوشيين مجنّدين في الجيش الأحمر، يقاتلون ويموتون لحماية الاتحاد السوفيتي من الجيش النازي، هؤلاء أيضًا بعد أن انتهت الحرب أمرت الحكومة السوفيتية بإبعادهم من وحداتهم وإرسالهم إلى معسكرات التهجير في آسيا الوسطى.
فيديو بعنوان “يوم من المجزرة”
كانت تكلفة التهجير باهظة للغاية، ووفقًا للمؤرخين الشيشانيين، فخلال الأسابيع الأولى من التهجير ارتفع معدل الوفيات إلى 50%، وتوفى أكثر من 70 ألف شخص بسبب الجوع والبرد والأمراض.
وبحسب المؤرخ الشيشاني المهجَّر عبد الرحمن أفتورخانوف، فما يقرب من نصف الشعب الشيشاني لقي حتفه في سنوات التهجير الأولى، أما الأرقام السوفيتية الرسمية فتذكر أن ما يقرب من ثلث الأمة الشيشانية لقي حتفه خلال سنوات التهجير.
بعث من الرماد
أنا أتألم..
أنا بالآلاف..
آلاف الدموع..
أنا بحر..
أنا شاهد قبر..
رغم كل المآسي التي مرَّ بها الشيشانيون، لم يفقدوا الأمل في العودة إلى وطنهم الأمّ، ومن المفارقات أن تجربة التهجير عمّقت بالفعل إحساس الشيشانيين بالدين والقومية، وسيلعب “أطفال التهجير الستاليني” الذين كان من بينهم الرئيس الشيشاني جوهر دوداييف، دورًا هامًّا في صراع التسعينيات.
كتب ألكسندر بينيجسن وإندرس ويمبوش عن الشيشانيين أنه “منذ التهجير، توحّدت صفوفهم وزادت الأنشطة الدينية والوعي بالانتماء إلى الأمة الإسلامية، وسادت أفكار الحرب المقدسة”.
جوهر دوداييف: أول رئيس شيشاني اغتاله الروس
في الواقع، إن عددًا قليلًا من الشيشانيين نجح بالفعل في الهروب والتسلُّل إلى الجبال، الأمر الذي أقلق الروس بشدة، لذا قاموا باعتقالات واسعة من أجل إنهاء حالات الهروب، كما ظلَّ الشيشانيون يرسلون احتجاجات إلى موسكو من أجل العودة.
ورغم نجاح خطة التهجير، وترتيب الروس عمل المخبرين بين صفوف الشيشانيين والإنغوش، تثبت وثائق أرشيفات كازاخستان وآسيا الوسطى أن الناس لم تنكسر إرادتهم، ولم يصمتوا حتى خلال السنوات الأولى من التهجير، وانخرطوا في أشكال مختلفة من المقاومة والاحتجاج الاجتماعي، سواء كانت عفوية أو واعية.
ثم بعد موت ستالين ومجيء خليفته خروتشوف، الذي كان عضوًا في عملية الإبادة الجماعية للشيشانيين، قدّم الأخير في مؤتمر مغلق للحزب في فبراير/ شباط 1956 تقريرًا بعنوان “عواقب تقديس الشخصية”.
أشار في هذا التقرير ضمنيًّا إلى استبداد سلفه وعدم مشروعية التهجير الذي قام به، ثم في عام 1957 أصدر قرارًا يسمح لمن بقيَ حيًّا من الشيشانيين والإنغوش بالعودة إلى وطنهم، وإعادة تأسيس جمهورية الشيشان-إنغوشيا السوفيتية مرة أخرى.
لم تعوّض الحكومة السوفيتية ضحايا التهجير، وأجبرت الشيشانيين على التوقيع على وثائق تنازُل عن ممتلكاتهم السابقة في الشيشان، وكان لديها تخوف من مقاومة الشيشانيين مرة أخرى، لذا حاولت منعهم من العودة إلى مناطق الجبال، حيث كان من الصعب السيطرة عليهم هناك، كما حرمتهم من حق التعبير وإحياء ذكرى التهجير، أو التحدث والكتابة عن هذه الإبادة المؤلمة، وبذل الروس جهودًا كبيرة للتقليل من شأن التهجير.
عاد الشيشانيون إلى ديارهم بعد 13 عامًا من التهجير، حاملين في حقائبهم عظام موتاهم الذين ماتوا في المنفى من أجل دفنهم في أرض أجدادهم، وبين فترة التهجير وعودة الشيشانين إلى الوطن عام 1957، لم يكن هناك أي شيشاني وُلد في الشيشان.
لكنهم حين عادوا إلى وطنهم، صُدموا بما حدث في غيابهم، ماضيهم القريب مشوّه، دمّر الروس تراثهم ومقابر أجدادهم ومساجدهم، أسماء المدن مختلفة. ببساطة، لم يفقدوا وظائفهم وحياتهم السابقتَين فقط، بل لا يمكن أن تعود الحياة إلى ما كانت عليه قبل عام 1944.
كانت الصدمة الأكبر حين وجدوا أن منازلهم وأراضيهم وجميع ممتلكاتهم التجارية والزراعية محتلة من قبل المستوطنين الروس والأجانب، بجانب أن روسيا وزّعت أجزاء من أراضيهم التاريخية على جمهوريات القوقاز الأخرى، ويروي لنا شاهد عيان لحظة عودته مع أهله إلى وطنهم: “عندما عدنا في عام 1958، كانت جميع القرى فارغة أو محتلة من قبل الروس، في قريتنا كان يوجد مقبرة قديمة، وضريح لأحد الأولياء، دمّره المستوطنون الجدد وحفروا تحته مترَين بحثًا عن كنز”.
حاول الشيشانيون استعادة ممتلكاتهم التي سُلبت منهم، وإعادة تأسيس قراهم من جديد، فوقع نزاع مسلح بين الشيشانيين والمستوطنين تسبّب في سقوط عدد من القتلى، بعض الشيشانيين تمكنوا من استعادة منازلهم عبر إعادة شرائها، لكن القليل منهم كانوا قادرين على القيام بذلك.
اللافت حقيقة هو أن السلطات المحلية (في الغالب الروس) اعترضوا على عودة الشيشانيين إلى وطنهم، وخرج المستوطنون الروس في مظاهرات لمطالبة الحكومة السوفيتية بإعادة تهجير الشيشانيين والإنغوش مرة أخرى.
ويبدو أن الشيشانيين شعروا بمرارة الخسارة الديموغرافية التي تعرّضوا لها حين وجدوا أنفسهم أقلية في أراضيهم، ولذا يدّعي الشيشانيون أنهم قاموا عمدًا بزيادة معدلات الإنجاب للحفاظ على استمرار أمتهم على قيد الحياة.
وربما يكون فعلًا الارتفاع الهائل في معدل المواليد هو العامل الوحيد الذي أنقذ هوية الشيشان، لأن التقديرات تشير إلى أن ما بين 30 إلى 60% من الشيشانيين ماتوا أثناء فترة التهجير.
ثم سرعان ما انتزع الشيشانيون حريتهم في أوائل التسعينيات، وعندما تمَّ انتخاب الرئيس الشيشاني جوهر دوداييف، كان أول عمل قام به إنشاء نصب تذكاري كبير لذكرى وشهداء التهجير، ونُقشت على قاعدة النصب التذكاري كلمات جوهر دوداييف: “لن نبكي.. لن ننسى.. لن نسامح”.
استعراض وطني لذكرى التهجير القسري
كان الشيشانيون من أوائل الشعوب المهجَّرة التي شيّدت نصبًا تذكاريًّا للتهجير بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وكان هذا النصب التذكاري من أوائل الأماكن التي استهدفها الجنود الروس بشكل متعمّد خلال الحربَين الأخيرتَين.
يدل هذا على أن إرث ستالين وأسلافه ما زال حيًّا، فبعد مرور 50 عامًا على التهجير، واصل النظام الروسي اتّباع تقاليد روسيا القيصرية والشيوعية، حيث لم يكتفِ بالإبادات السابقة، فقرر إبادة الأطفال الناجين من تهجير عام 1944، وارتكب مجازر جماعية مرة أخرى بحقّ الشعب الشيشاني في فجر الألفية الجديدة.
ونتيجة لإرهاب دولة قوية تشعر بالحصانة من استعباد وإبادة شعب صغير، قُتل في الحربَين الروسيتَين الأخيرتَين أكثر من ربع الشعب الشيشاني، وهرب نصفهم إلى الخارج، لتصبح الشيشان فعليًّا أمة ممزقة جغرافيًّا وديموغرافيًّا، إذ يقول علماء الإثنوغرافيا أنه عندما يحدث هذا فإن الأمة لا تعود موجودة.