ترجمة وتحرير نون بوست
بالنسبة للناجين من مجزرة ميدان رابعة العدوية، لا يبدو الأمر وكأن عقدًا قد مضى، حيث لا تزال أصوات ذلك اليوم تطاردهم، عندما انتشرت رائحة الموت في كل مكان، ولم تعد حياتهم وبلدهم أبدًا كما كانت.
ففي 14 آب/ أغسطس 2013؛ استخدمت قوات الأمن المصرية الذخيرة الحية لتفريق المحتجين المناهضين للحكومة المصرية. وقالت جماعات حقوقية إن أكثر من 800 شخص لقوا حتفهم في واحدة من أكبر المجازر في حق المتظاهرين في التاريخ الحديث للعالم؛ فيما قدرت الحكومة أن عدد القتلى بلغ 624 شخصًا، وقد لا يُعرف الرقم الدقيق على الإطلاق.
اعتقل وسجن مئات المتظاهرين، وحُكم على البعض فيما بعد، بينما هرب الكثيرون من البلاد ولم يعودوا أبدًا.
وجاءت حملة القمع العنيفة هذه بعد ستة أسابيع من استيلاء الجنرال عبد الفتاح السيسي، على السلطة والإطاحة بالرئيس محمد مرسي، أحد قادة جماعة الإخوان المسلمين. وتجدر الإشارة إلى مرسي انتُخب في السنة التالية لثورة 2011 في مصر، والتي أطاحت بالرئيس المستبد، حسني مبارك، من السلطة وأثارت الأمل في التغيير الديمقراطي في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
واحتشد آلاف المصريين بشكل سلمي للاحتجاج على الإطاحة بمرسي، ومعظمهم ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين ويدعمون مرسي، فيما كان آخرون يعارضون ببساطة استيلاء الجيش على السلطة، وخيموا لأسابيع وأقاموا حواجز بدائية وجلب بعضهم أسلحة خوفا من هجوم قوات الأمن عليهم.
واحتضن ميدان رابعة أكبر تجمع للمتظاهرين؛ حيث قالت الحكومة إن هناك إرهابيين وفاعلين خطرين آخرين في حشود المحتجين. وفي سنة 2019، صرّح السيسي، الذي أصبح رئيسًا في سنة 2014، لشبكة “سي بي إس نيوز” بأنه “كان هناك آلاف المسلحين في الاعتصام لأكثر من 40 يومًا، وحاولنا تفريقهم بكل الوسائل السلمية”. وقد وجدت التحقيقات التي أجرتها جماعات حقوق الإنسان أن معظم المتظاهرين كانوا غير مسلحين.
وشكّلت عملية القتل الجماعية وانعدام العدالة هذه نقطة تحول رئيسية لمصر؛ حيث عززت قبضة الجيش على السلطة واستعداده لاستخدام القوة المميتة للحفاظ عليها.
وأدت مجزرة ميدان رابعة إلى تقسيم العائلات والأصدقاء، وقلب الحياة رأسًا على عقب، وتعميق الانقسامات السياسية في البلاد. وبعد كل هذه السنوات، من الصعب مناقشة الأمر بصراحة.
وقد تحدثت صحيفة “واشنطن بوست” إلى خمسة مصريين كانوا حاضرين في ذلك اليوم، والذين تغيرت حياتهم بسبب ما حدث بعد ذلك.
أحمد سميح، 44 سنة: ناشط حقوقي سابق
قبل يوم 14 آب/ أغسطس، تلقى الناشط الحقوقي المصري أحمد سميح دعوة لحضور اجتماع مغلق في وزارة الداخلية. وفي النهاية، قال “كان لدي إحساس قوي بأن عملية تفريق المحتجين ستكون عنيفة”.
وقال إن قوات الأمن قدّرت وقوع حوالي 3000 قتيل بين الجانبين، وهي أرقام شاركها مع الصحفيين في ذلك الوقت. وقال إن الانقسامات حول مستقبل مصر كانت شديدة لدرجة أن هناك عنفًا في الأفق. وأوضح قائلًا: “كان هناك أشخاص مسالمين للغاية طوال حياتهم، وكان يجب عليهم قتلهم جميعًا”.
وفي صباح اليوم الذي بدأت فيه العملية، هرع عبر القاهرة ليشهد ما سيحصل؛ حيث نوّه قائلًا “أردتُ فقط أن أرى الحقيقة”.
تصاعد الدخان الأسود من الإطارات المحترقة، وكانت الدماء في كل مكان؛ حيث أُريقت على الأرض ولطخت السيارات. وبحلول صباح اليوم التالي، تم إحصاء أكثر من 152 جثة في المشرحة.
لقد دمرت الأفكار المختلفة حول ما حدث في ذلك اليوم بعض علاقاته؛ حيث قال: “ما زلت على قطيعة مع بعض الأصدقاء”.
وبعد حادثة رابعة، قال: “كل شيء تغير في مصر”. وعلى الرغم من ذلك، لم يرغب لفترة طويلة، في “الشعور أو الاعتقاد بأن الحيز المدني آخذ في التقلص”؛ حيث واصل عمله في مجال حقوق الإنسان. وفي سنة 2015، وُجهت إليه تهمة تشغيل محطته الإذاعية على الإنترنت بشكل غير قانوني، وتعرّض مكتبهُ للتفتيش وفُرضت عليه غرامة مالية واحتجز في مركز الشرطة المحلي.
وفي السنة التالية، أثناء عمله كمراقب للانتخابات في أوغندا، تلقى بلاغًا من أحد معارفه في القاهرة: كان اسمه مدرجًا في قائمة المدافعين عن حقوق الإنسان المُقرر توجيه تهم إليهم بتهمة تلقي تمويل أجنبي غير قانوني، فعاد إلى المنزل لمدة 24 ساعة، وأعطى والدته توكيلًا رسميًا بشأن جميع أصوله، وهرب إلى أستونيا، حيث كانت لديه إقامة هناك.
في سنة 2021؛ بعد سنوات من العمل في مشاريع تجارية مختلفة، بدأ العمل كمقدم تلفزيوني لقناة الشرق، وهي قناة تلفزيونية مقرها إسطنبول يملكها المعارض المصري أيمن نور، الذي يعيش في المنفى كذلك. في الواقع، كان لا يعرف ما إذا كان سيتمكن من العودة إلى المنزل.
أمل سليم 54 سنة، وسارة علي 34 سنة: عائلة الفقيد
في 14 آب/أغسطس، غادر زوج أمل سليم، محمد علي، الذي كان يشغل منصب مدير مستشفى وأحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، منزله متوجهًا إلى ميدان رابعة؛ حيث أخبرها أنه ينبغي عليه ضمان الإخلاء الآمن للنساء والأطفال، وتوسلت إليه للبقاء في المنزل.
وتتذكر سليم قائلة: “لقد قال إذا كان مقدرًا عليَّ أن أموت، سأموت ثم ودعني وطلب مني أن أغفر له”.
وخوفًا من تقارير إطلاق النار، كان تتصل به بين الفينة و الأخرى للتأكد من أنه لا يزال على قيد الحياة، فيما كانت سارة علي، كبرى أولادها، في الخارج في القاهرة: تطمئن على والدها بشكل متكرر عبر الهاتف، وكانا يتحدثان معًا عندما انقطع الاتصال.
وعندما اتصلت، رد رجل آخر، وقال لها إن قناصًا أصاب محمد بالرصاص في رأسه، حيث قالت: “لقد مات بينما كنتُ على الهاتف معه”.
اتصلت سارو بشقيقها عمر، وهو صحفي كان يوثق الفوضى في رابعة، وطلبت منه العثور على جثة والدهما. لكن لم يكن هناك ما يشير إليه في أي من العيادات المؤقتة. يائسة؛ نشرت سارة صورته على فيسبوك وطلبت معلومات.
في اليوم التالي، اتصل بها رجل من رقم غير معروف ليخبرها أن جثة والدها ألقيت في شارع جانبي، فاتبعت هي وعمر توجيهاته.
قال عمر لوالدته عندما عادا إلى المنزل: “حملت والدي، ووضعته في القبر ودمه على ملابسي”.
بعد معاناته من حالة اكتئاب عميقة، طمأن عمر والدته بأنه سيساعد في إدارة شؤون المنزل وتربية شقيقتيه الصغيرتين؛ حيث كانلا يزال يدرس ليصبح مهندسًا، ثم قبل ثماني سنوات، بينما كان عمر في مطعم مع أصدقائه، اعتقلته قوات الأمن. فاعتقدت الأسرة في البداية أنه مجرد خطأ في الهوية. مع مرور الوقت، أصبحوا يعتقدون أنه كان يُعاقب بسبب معتقدات والده السياسية.
وفي نهاية المطاف، أدين بإفشاء أسرار عسكرية وحُكم عليه بالسجن 25 سنة دون أي فرصة للاستئناف.
أصيبت سليم فيما بعد بانهيار عصبي، فكانت قد فقدت زوجها بالفعل،” وفجأة اختفى ابني أيضًا. لقد دمرونا جميعًا “.
في الصيف الماضي، بدأت سارة تعاني من الهلوسة والارتباك وعدم القدرة على الكلام، وأُدخلت إلى مستشفى للأمراض النفسية وشُخّصت بالإصابة باضطراب ما بعد الصدمة.
لا تزال حزينة على والدها، في بعض الأحيان؛ يتسلل الاستياء إلى قلبها. في الشأن ذاته؛ قالت سارة إنه “كان العضو الوحيد في الأسرة الذي ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، ومع ذلك فقد دفعوا جميعًا الثمن.
وأضافت قائلة: “لا يوجد مبرر لما حدث له؟ لكن لماذا أدفع ثمن ذلك؟ لماذا يقضي أخي كل هذه السنوات في السجن؟”.
لينا عطا الله، 40 سنة: صحفية
تتسلل ذكريات رابعة إلى لينا عطا الله حتى عندما لا تتوقعها، فتشعر بضغط مفاجئ في بطنها، أو وميض في عقلها وهي تحاول النوم.
كانت في الثلاثين من عمرها، وهي صحفية كانت قد أنشأت لتوها المؤسسة الإخبارية المستقلة “مدى مصر”. كانت في تغطية اعتصام ميدان رابعة ذلك الصيف؛ حيث استيقظتْ في وقت مبكر من يوم 14 آب/أغسطس واندفعتْ إلى مكان الحادث مع زميل لها.
لم يكن لديهما سترات واقية أو معدات أمان، ومع تقدم قوات الأمن في الميدان، تمت محاصرتهما في حشد بالقرب من مستشفى ميداني؛ حيث تتذكر عطا الله الجثث، رجل يحمل كومة من بطاقات الهوية الخاصة بالموتى، وأشخاص يحاولون إنقاذ بعضهم البعض.
ومع تساقط وابل الرصاص، وجدا مخرجًا، ولم يكن هناك وقت للتفكير، فأمسكا بأيدي بعضهما وركضا؛ حيث قالت عن ذلك: “كلماتي لا تكفي لوصف حدة تلك المشاهد”.
في الأشهر التي تلت ذلك، شغلت عطا الله نفسها بالعمل “حتى لا تشعر باليأس”، فلقد فهمتْ لاحقًا أن رابعة كانت بداية شيء مروع للغاية.
تم سجن بعض أقرب أصدقائها، بما في ذلك نشطاء وصحفيين. ومن بينهم علاء عبد الفتاح، الذي قضى معظم العقد الماضي خلف القضبان بتهم تقول جماعات حقوقية إنها ملفقة، في حين فر أصدقاء آخرون من البلاد أو ماتوا منتحرين.
في سنة 2017؛ حجبت الحكومة موقع “مدى مصر”، لكنه لا يزال يعمل والقراء في مصر يجدون طرقًا لإبطال الحظر.
مو (محمد)، 58 سنة: رجل أعمال
لا يزال مو يتذكر بالضبط كيف مات الرجال أمامه؛ فأولًا: شاب يختبئ خلف شجرة، والذي أطلق شهيقًا وانهار؛ حيث يتذكر قائلاً: “عندما فحصته كانت هناك رصاصة في قلبه، ولقد قُتل برصاص قناص”.
وبعد ذلك أُصيب أيضًا مساعد سائق سيارة الإسعاف برصاصة وهو يرتدي زيه الطبي فانقسم رأسه إلى نصفين، بينما كان زميله يصرخ ويبكي.
في وقت لاحق، كان هناك رجل أُطلق عليه النار بينما حاول الناجون الهروب، وأذرعهم ملفوفة على أكتاف بعضهم البعض. قال عن ذلك الرجل: “كان علينا أن نتركه”.
وصل محمد – وهو رجل أعمال بارز – إلى الاعتصام في ذلك اليوم حوالي الساعة 6:30 صباحًا؛ حيث قال “إنه لا ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، لكنه كان هناك للاحتجاج على ما رآه استيلاءً عسكريًا ظالمًا”، وتم اعتقاله وإجباره على تسليم بطاقته الشخصية قبل مغادرة الميدان.
ونظرًا لحالة الصدمة والخوف من أن تأتي السلطات لاعتقاله، هرب إلى الولايات المتحدة بعد ثلاثة أيام، ولم يعد إلى بيته منذ ذلك الحين، كما تحدث إلينا باسم مستعار، خوفًا على حياة أقربائه ومعارفه في مصر.
في السنوات التي تلت ذلك، تعرضت أعماله التجارية في مصر للهجوم والحرق على الأرض، كما تعرضت عائلته لمضايقات من قبل الحكومة حتى وافق على التخلي عن أصوله المتبقية.
وبعد أن كان من النخبة في مصر، وجد مو نفسه في المنفى ليبدأ من الصفر تقريبًا؛ حيث قال عن ذلك: “لقد تخليت عن كل شيء”.
ويرى أن مجزرة رابعة “بداية محو لكل ما يتعلق بسنة 2011″، عندما كان توحد المصريون يحدوهم أمل في مجتمع أكثر حرية.
وقال إن رابعة كانت فرصة للجيش لاستعراض عضلاته ولإرسال رسالة واضحة مفادها: “لن يتمتع أحد بحرية التفكير أو الاحتجاج بعد الآن”.