10 سنوات لن تجعل من القاتل ضحية ولا من الضحية قاتلًا، فالقاتل معروف، وبمرور الوقت تزداد جرائمه وتتسع لتشمل الوطن كله، بأرضه وسمائه وشعبه، حاضره ومستقبله، والضحايا من شهداء ومعتقلين وذويهم يلعنونه كل يوم وكل ساعة وفي كل صلاة.
دماء الشهداء في جوف الأرض، وأنين المعتقلين الخافت في أقبية السجون خلف الف سور وعلى بُعد مئات الكيلومترات في قلب الصحاري، سيبقى صداه يدوي في ضمائرنا ويخترق حجب السماء، ليصل إلى السميع العليم سبحانه.. ولكن.
بعيدًا عن تلك المواقع المحسومة للقاتل والضحية، نبقى نحن جزءًا من الحكاية الممتدة منذ 10 سنوات، نحن أبطالها وأعمارنا هي نسيج روايتها وتجاربنا هي خيوط حبكتها، نحن الشعب والصف والشباب والرجال والشيوخ والنساء والأطفال والقوى السياسية والأحزاب، والجماعات والفاعلين والمؤثرين والمفعول بهم والتابعين.
نحن المجتمع لا النظام، الإنسان لا التنظيم، أين كنا وأين أصبحنا وإلى أين نسير؟ هذا هو السؤال الذي لا بدَّ أن نواجه أنفسنا به بعد 10 سنوات من أبشع مجزرة شهدها تاريخ مصر الحديث، وكنت شخصيًّا شاهدة عيان عليها.
مواقع محسومة رغم تغيرها
هي مواقع القوى الدولية والإقليمية، سواء منهم من أيّد انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013 أو عارضه، من غضَّ الطرف عن المجزرة أو من بكاها ورثى ضحاياها على الشاشات، من عانق القاتل أمام الكاميرات ومن أبى أن يصافح يده الملطخة بالدماء.
فبعد 10 سنوات أغلق الجميع ملف الربيع العربي، الذي كانت مجزرة رابعة في 14 أغسطس/ آب 2013 جزءًا من تداعيات الانقلابات المضادة على نتائجه.
الجميع نفضَ يديه من إرث الثورات وأحلام الحرية، سواء منهم من سعى لوأده منذ البداية ومن دعمه ودعم الضحايا المطاردين واستضافهم بعد المجزرة، الجميع يعيد ترتيب أوراقه من وقت لآخر بطرق مختلفة، لكن المعيار واحد: المصلحة، تلك التي قد تكون مصلحة نظام حكم أميري أو ملكي أو رئاسي، أو مصلحة دولة وحكومة.
وفي كل الحالات، المبررات الأخلاقية موجودة لإراحة الضمائر، علينا أن نعي جميعًا هذا ونحن نتعامل مع الدول والحكومات، مهما كانت دوافعهم الأخلاقية لدعم قضية الحرية والاستقرار والعدالة وتداول السلطة ومعاقبة القتلة في مصر، ستبقى مصالحهم الشخصية أو المرتبطة بدولهم وشعوبهم هي الحاكمة لقراراتهم.
مواقع مهزوزة رغم افتراض العكس
وهي مواقع القوى والأحزاب المصرية المؤيدة لثورة يناير، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين التي دفعت الثمن الأكبر خلال الـ 10 سنوات الماضية من أبنائها وقادتها، بين القتل والسجن والتشريد، الجماعة التي تصدّت لحمل مسؤولية إدارة بلد بحجم مصر، في ظل دولة عميقة داخليًّا، ودولة احتلال على حدودها مدعومة أمميًّا، ومجتمع حديث عهد بالحرية بعد قرون من الاستبداد وموارد منهوبة واقتصاد منهار.
فقدّمَت أول رئيس مدني منتخَب ليتولى حكم مصر، وتصدرت بكل وعي وبكامل إرادتها لإدارة المعركة مع إرث الماضي وقواه الخشنة والناعمة داخليًّا وخارجيًّا، فأين جماعة الإخوان الآن منذ المجزرة التي قُتل فيها أبناؤها وقادتها وأنصارها برصاص قوات الانقلاب ودباباته وطائراته؟
رغم التوقعات والتحذيرات من المجزرة المحتملة، بل سبقها مجازر تمهيدية خلال الاعتصام، مثل مجزرة الحرس الجمهوري التي أطلقت فيها قوات الانقلاب الرصاص على المصلين وهم سجود خلال صلاة الفجر، ومجزرة النصب التذكاري التي تلت مسرحية “التفويض” بسويعات، في رسائل واضحة أن الانقلابيين لن يراعوا في مصري معارض إلًّا ولا ذمة.
رغم كل ذلك، استمر الاعتصام على وتيرته دون أي مساحات للمناورة وتجنُّب المجزرة، وإطالة أمد المعركة السياسية بعد أن ثبت أن صراع القوى في صالح الانقلاب الذي يسيطر على الجيش والشرطة وأسلحتهما.
وماذا بعد المجزرة؟ استشهد من استشهد على مبادئه، واُعتقل من اُعتقل كذلك، وقُمع الشعب كله، ثم كان الخروج الكبير إلى المهجر، فكان الأمل في الخارج لدعم الداخل وإعادة ترتيب الصفوف، واستثمار الدعم المقدَّم من بعض الدول المعارضة للانقلاب، والتعاطف مع ضحايا المجزرة في بعض الشعوب والمنظمات الحقوقية، ليستمر الأمل في دحر الانقلاب واستعادة حلم الحرية والاصطفاف مجددًا مع شركاء الثورة والحلم.
لكن لا الشركاء صدقوا ضمائرهم وأنكروا الجريمة والمجزرة (إلا قليلًا منهم)، ولا الإخوان قادوا المعركة ضد الانقلاب، بل أشعلوا معارك داخلية حول إدارة التنظيم وإعادة هيكلته وتموضعه ومنهجية تعامله مع أعضائه في الداخل والخارج.
ولن أكون متجنية إن قلت إن بعض أعضاء الجماعة من القيادات الوسطى، التي وجدت فراغًا في مستوى القيادة العليا بسبب اعتقال غالبية رموزها، قد قفزوا على المرحلة وأصبح ينطبق عليهم مصطلح “أثرياء الحرب”.
نقلوا المعركة من مواجهة الانقلاب أو الاختلاف على إدارة التنظيم في الخارج إلى معركة مكاسب ومصالح شخصية، فوجدت الدول والأنظمة الداعمة للربيع العربي نفسها أمام قيادة مهلهلة ومتشرذمة لا ترتقي لمستوى الحلفاء، بل مجموعة منظمة من اللاجئين تجمعهم -من المفترض- خلفية فكرية واحدة.
فتوالت الانشقاقات، وأصبحت الجماعة التي كان منوطًا بها إنقاذ إرث الثورة وإطلاق سراح المعتقلين ومحاسبة القتلة على دماء الشهداء، بحاجة إلى من ينقذها من صراعاتها الداخلية.
أما باقي الأحزاب والقوى السياسية المعارضة فقد بقيت كالريشة في مهبّ الريح، تقترب من الإخوان أو النظام أو المنظمات الدولية والقوى الإقليمية، أو تبتعد بحسب الظروف ومتطلبات البقاء قانونيًّا وماليًّا.
وغالبية رموزها، شبابًا وشيوخًا، أصبحت هويتهم وعملهم وإنجازهم الذي يعيشون عليه في الخارج، ويستضافون بسببه في المؤتمرات والقنوات في المناسبات الخاصة؛ اشتراكهم في ثورة يناير أو مشاركتهم في حكومة الرئيس الراحل محمد مرسي، أو تجربتهم مع الانقلاب سواء مع أو ضد.
ومن ثم، بينما نعيد تموضعنا، علينا أنا نعيد محاسبة من تصدّوا ولا يزالون منذ 10 سنوات بل منذ ثورة 25 يناير، لإدارة معركة الحرية التي حلمنا بها وقدمنا لها، فالكيانات ليست كالأفراد، الفرد يقدم تضحيات والكيان يستثمر التضحيات لتحقيق إنجازات، فماذا أنجزوا على مدار 10 سنوات؟
الضحايا
ملح الأرض، الحالمون العاشقون الراحلون مع الحلم حيثما ارتحل، حتى وإن كان للقبر أو القيد أو المنفى هم معه، الذين آمنوا وصدَّقوا وصدَقوا ما عاهدوا عليه، لأجلكم أكتب، لأجل كل الوجع والصدمة والتيه الذي يعترينا جميعًا أكتب.
ما ذكرته أعلاه، هو مجرد محاولة لإدراك الواقع على حقيقته، لا النقمة عليه أو تشويهه أو تفريغ شحنات من الغضب، الوعي هو أول طريق النجاة، الوعي بقوتنا وضعفنا، بأخطائنا وإنجازاتنا، بآلامنا وأحلامنا، بخيباتنا ومحاولاتنا، لأهالي الشهداء، وللمعتقلين وذويهم، وللمطاردين في المنافي، وللغرباء داخل الوطن، بل للغرباء داخل نفوسهم.. أكتب اليوم: أما آن للقلوب أن تقرّ؟
للشهداء: ولي فيهم أصدقاء وأحباب أعرفهم عن قرب، لم يقضوا لأن قيادة جماعة أو اعتصام أغوتهم وغررت بهم وخدعتهم بالجنة الموعودة على الأرض أو في السماء، بل قدموا الروح في سبيل ما آمنوا به، بكامل وعيهم وإرادتهم الحرة المستقلة، ويقيني أنه لو عاد الزمان لعادوا واصطفوا أمام الرصاص دون خوف في سبيل الحق، حقنا جميعًا في الحرية والكرامة الإنسانية، في الإيمان وتحقيق هذا الإيمان.
لم يمت أي منهم مبكرًا عن أجله المكتوب، لكنهم فازوا بالشهادة، عاشوا أعزاء وقضوا شهداء، فلا فزع ولا ندم، إنما ألم الفراق وقرَ في قلوب ذويهم ومحبيهم، تعاظم وتأصّل وتجذّر في ملامحهم، وسكن ركنًا في قلوبهم وترفّع عن أن يهدَر في دموعهم، فمضوا يحملونه ويكملون الطريق بانتظار لقاء موعود.
أهالي الشهداء رغم الألم اطمأنوا على ذويهم ويكملون حياتهم برفقة الألم، لكنهم يكملونها، ولقد رأيت منهم نماذج رائعة رغم المعاناة، الأبناء أكملوا دراستهم في كبرى الجامعات، وتزوجوا وأنجبوا وجعلوا من أنفسهم امتدادًا لأحبابهم الراحلين وخلفًا لهم في مشوارهم.
للمعتقلين وأهاليهم: إنهم الشهداء الأحياء، الأكثر ألمًا ومعاناة على مدار 10 سنوات، المعتقلون في قبور للأحياء دُفنت أعمارهم ومشاعرهم قبل أجسادهم، يتم قتلهم ببطء وسط الكراهية والتعذيب والتجويع والإهمال الطبي، والتغييب عن عالم الإحياء والتعذيب النفسي والعقلي، بل التضييق على ذويهم في الخارج ماديًّا ومعنويًّا، وإهانتهم وقمعهم أثناء الزيارة.
كل هذا في كفة واستهداف تدمير أسرهم في كفة أخرى، غياب الأب لسنوات، لا هو موجود فيقوم بدوره ولا غير موجود فتحسم الأسرة أمرها وتنطلق في الحياة، حتى إذا أتيحت له الفرصة وخرج لم يجد العالم الذي تركه، فلا يعود هو كما كان ولا هم كما كانوا، وقليل من ينجو من تلك المنهجية المدمرة.
أما أهاليهم فهم المعلقون بين السماء والأرض، لا عانقوا أحبابهم ولا غادروهم، لا يتقدمون بصحبتهم ولا ينطلقون من دونهم، تذوب الأمّ كمدًا على ولدها الشاب المعتقل منذ 10 سنوات، وقد تزوج إخوته الأصغر منه وأكملوا دراستهم وتوظفوا فما فرحت بهم.
فإذا ما وضعت جنبها على الفراش كرهت فراشها، لأن ولدها السجين لا يحظى بمثله، وإذا ما أعدّت طعامًا دخل جوفها كالسمّ لأن ولدها جائع في زنزانته، يموت المعتقل وأهله كل يوم ببطء وتتوقف حياتهم.
أما المعتقلات من النساء فلك أن تطلق لخيالك العنان عن حالهن، المؤلم في كل هذا أن الجميع كذلك وعلى مدار 10 سنوات، من أحزاب ومنظمات وحكومات ودول، لم يفلح في تحريك هذا الملف قيد أنملة، فقط حالات فردية تعدّ على أصابع اليد الواحدة لمعتقلين من التيار المدني، رحّبت بهم دول غربية ودعمتهم منظمات حقوقية دولية.
والوحيدة التي قد تحسب على الإسلاميين السيدة علا نجلة الشيخ القرضاوي، وذلك نظرًا إلى حملها الجنسية القطرية، ورغم ذلك بقيت سنوات في السجن يمارَس عليها أسوأ أساليب التدمير النفسي والبدني، ولا يزال زوجها معتقلًا حتى الآن.
هذا ليس عيبًا على المعتقلين من أبناء التيار المدني ولا تقليلًا من معاناتهم، بل عيبًا على المجتمع الدولي الذي يكيل بمكيالَين، وعيبًا على التنظيمات الإسلامية التي لا تجيد إدارة العلاقات وأوراق الضغط لصالح معتقليها، فلم يبقَ لهم سوى الله وذويهم الذين يحملون همّهم إلى اليوم.
الناجون
جميعنا ناجون، وليس فقط المطاردون الذين نجوا من الموت برصاص الانقلاب أو الاعتقال في سجونه، أو العيش في ظل استبداده.
من قضى فقد نجا حيث المستقر الأخير، ومن بقي فقد نجا من الموت ولا يزال لديه فرصة للتغيير، نعم، أعلم أن الكلمة ثقيلة وأصبحت مبتذلة “التغيير”، لكنها الحقيقة شئنا أم أبينا، والتغيير يحدث سواء أردنا ذلك أو لم نرده.
فمن قرر الاستسلام واللامبالاة بعد الوجع والخذلان الذي لاقاه فقد قرر أن يتغير، ومن قرر أن يستمر في المحاولة فقد قرر أن يغير، ومن بقيَ معتقلًا يقاوم الموت والجنون ويقتات الصبر بانتظار فرج قريب أو بعيد، فهو بالفعل يغير من واقعه المميت.
ومن خلفه في أهله وولده واستكمل طريقه صابرًا محتسبًا داعمًا رغم قسوة الحياة وثقل الأعباء، فهو يغيّر الواقع الذي يسعى الانقلاب لفرضه عليه، ومن قرر أن يتمرد على كل ما سبق من حياته فيلجأ للإلحاد أو الشذوذ أو الجنون أو حتى تأييد النظام فقد تغير كذلك، التغيير سنّة كونية نمضي فيها لا إراديًّا.
ولكي تقرّ القلوب بعد 10 سنوات من التيه، علينا أن نعي واقعنا أولًا، ثم ندرك أن بقاءنا مرتبط ببقاء الحلم الذي بدأنا الطريق من أجله قبل 10 سنوات، بل 12 عامًا منذ ثورة 25 يناير، حتى أولئك الذين فوّضوا الانقلاب وأيّدوه في بدايته من أهلنا وأصدقائنا، من شعبنا وأحبابنا، لن تقرّ قلوبهم حتى يتخففوا من حمل الذنب في نفوسهم.
ذلك الغبار على الوجوه وضيق ذات اليد وغلاء الأسعار وانتشار الجريمة، بما في ذلك الجريمة الاجتماعية داخل العائلة الواحدة والقمع والانحدار الذي يعيشه المجتمع المصري، لن ينقضي بالعودة للوراء واسترجاع عصر استبداد أقل وطأة كعصر مبارك وأبنائه، لن ينقضي حتى نقرّ بذنبنا بحقّ هؤلاء الأبرياء الذين قُتلوا في مجزرة رابعة والنهضة وما سبقها وما تلاها، حتى نعتذر لأقاربنا وأصدقائنا الذين اتهمناهم زورًا وبهتانًا بالعمالة وجهاد النكاح، وفوضنا القاتل ليقتلهم.
لن ينقضي حتى تعود لحمة المجتمع وندعم أهالي المعتقلين والشهداء ونخفف عنهم ما استطعنا، لن ينقضي إلا بالتوبة إلى الله وتأييد الحق وإنكار الظلم ولو بقلبك.
أما نحن، الذين خرجنا مطاردين، فعلينا أن نجد الطريق لاستكمال الحلم مع إدراك الواقع، لا أن نكون مجرد تابعين أو غارقين في بكائيات دور الضحية، كل صباح يشرق علينا هو فرصة جديدة للحياة، الحياة لنا ولوطننا وحلمنا، ولمن يحتاج دعمنا من المعتقلين المكبّلين عن السعي.
خلال 10 سنوات رأيتُ كيف اتجه عدد كبير من أبناء ثورة يناير، من كافة التيارات، لدراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية في كبرى الجامعات الدولية، لمحاولة فهم ما مررنا به لعلنا نصحّح في المستقبل أخطاءنا.
ورأيت من اتجه لمشاريع اقتصادية لعله يوفر فرص عمل لآخرين، ورأيت من كان ركنًا يلتفّ الناس حوله على المستوى الاجتماعي، فيدعم هذا ويسند ذاك، ويوثق روابط المجتمع في الغربة فيكون وأهله للمطاردين أهلًا دون الأهل ووطنًا دون الوطن، وهناك الكثير ممّا يمكن فعله لتقرّ القلوب ونبقى أحياء.. حتى نعود.