لا يقتصر حديثنا عن احتلال فلسطين عما جرى إبّان النكبة الفلسطينية عام 1948، من تهجير السكان واحتلال الأرض وارتكاب جرائم حرب وإقامة دولة مصطنعة على الأراضي المحتلة في النكبة، بل إن حديث الاحتلال يمتد بشكلٍ أعمق إلى السمّ المستمر في الأراضي الفلسطينية المتبقية: الاستيطان، وفي أراضي الداخل المحتل ضد عمليات تهجير الفلسطينيين هناك.
الاستيطان في الأراضي الفلسطينية بمفهومه الأعمّ هو بناء وحدات سكنية لمستوطنين، جلبتهم حكومات الاحتلال المتعاقبة من مختلف دول العالم، لكن تفاصيله تحكي قصص التهجير وهدم البيوت ومصادرة الأراضي، وعزل الفلسطينيين ومنع اتصال جغرافي متصل بينهم، وربط المستوطنات المنتشرة في الضفة المحتلة بـ”إسرائيل”، أي قضاء سلطات الاحتلال على أي فرص لإقامة وحدة جغرافية فلسطينية.
لم تظهر المخططات الاستيطانية أمام أزمة مستوطنين يريد الاحتلال حلّها ببناء وحدات سكانية، بل في حقيقة الأمر يكون المستوطنون آخر خطوات بناء المستوطنات، وكثير من الوحدات السكانية الفارغة في مستوطنات الضفة الغربية شاهدة على هذا المخطط.
إن المخططات الاستيطانية هي استراتيجية صهيونية إسرائيلية عميقة، تجتمع فيها مؤسسات دولة “إسرائيل” الحكومية وغير الحكومية، ليحفر كل في مجال عمله أساسًا من أساسات المستوطنات، في شقّ الطرق والبنية التحتية وصناديق التمويل والتشجير والتهجير والبناء ومؤسسات الهجرة، وأجهزة الأمن والعصابات الاستيطانية وشرعنة الاستيطان.
هذه الاستراتيجية الممتدة بين مؤسسات الاحتلال وجيشه وما يتزامن معها من إرهاب مستوطنيه، أفضت في نهاية عام 2022 إلى وصول عدد المستوطنين في الضفة الغربية بما فيها شرقي القدس إلى 726 ألفًا و427 مستوطنًا، موزعين على 176 مستوطنة و186 بؤرة استيطانية (نواة مستوطنة)، وفق التقرير السنوي لهيئة مقاومة الجدار والاستيطان.
ومع قدوم حكومة بنيامين نتنياهو الأخيرة التي توصف بالأكثر يمينية بين حكومات الاحتلال، تصاعدت المخاوف بشكلٍ أكبر من توسع الاستيطان، وتنفيذ مخططات الضمّ، خاصة أن حكومة نتنياهو تضم في حقائبها الوزارية كبار دعاة الاستيطان بشكل علني في دولة الاحتلال، إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي، وبتسلئيل سموتريش وزير مالية الاحتلال.
في ضوء ذلك، يفتح “نون بوست” ملف “وكلاء الاستيطان” في الضفة الغربية، الذي يسلَّط فيه الضوء على أجسام الاحتلال الرسمية وغير الرسمية، المعلنة صراحة عن تنفيذها أعمال استيطانية أو تلك المختبئة خلف مفاهيم تطوير البنية التحتية والحفاظ على البيئة وشرعنة القوانين، ويجيب عن سؤال: كيف يقرر الاحتلال محو الوجود الفلسطيني وإحلال المستوطنة على أنقاضه؟
قبل النكبة.. الخطوات الأولى
لم تأتِ “إسرائيل” بفكرة الاستيطان بعد النكبة الفلسطينية، بل كانت إقامة المستعمرات اليهودية هي الخطوات الأولى للاستيطان ومصادرة الأراضي، ويمكن القول إن بداية الاستيطان اليهودي في فلسطين يعود إلى سنة 1859، حين اشترى اللورد البريطاني موزس مونتفيوري مساحة من الأرض خارج أسوار القدس، وبدأ البناء فيها لتكون حيًّا لليهود، وسُمّي باسمه ثم تمكن من بناء 7 أحياء أخرى حتى سنة 1892.
“ابتدع” المستوطنون اليهود طريقة “السور والبرج” في بناء مستوطناتهم، التي كانت عبارة عن مستوطنة صغيرة محاطة بسور وفيها برج للمراقبة الأمنية
واجهت فلسطين 5 موجات متتالية من الهجرات اليهودية، في أعقاب الأحداث العالمية التي حدثت منذ أواخر القرن الـ 19 وحتى الحرب العالمية الثانية في المناطق التي تواجد فيها اليهود، وفي تلك الفترة شهدت فلسطين طرازًا خاصًّا من المستوطنات الزراعية هو “الكيبوتس”، الذي يقوم على العمل التعاوني الاشتراكي حيث لا ملكية خاصة للأرض أو للمعدّات أو للمنازل أو للمنشآت، وبلغ عددها حتى نهاية عام 1914 نحو 12 كيبوتسًا تواجدت جميعها في السهل الساحلي الفلسطيني.
مستوطنات يعملن في أحد الحقول في “كيبوتس”
مع وقوع فلسطين تحت الانتداب البريطاني عام 1917، وإعلان بلفور الذي ينص على السعي لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، بدأ الوجود اليهودي يترسخ في فلسطين مع تسهيل بريطانيا للهجرة اليهودية، لا سيما من أوروبا.
في تلك الفترة أُسّست “الهاغاناه”، و”الهستدروت” أي الاتحاد العام للعمال اليهود في أرض “إسرائيل”، والصندوق التأسيسي لـ”إسرائيل” (كيرن هايسود)، والجامعة العبرية في القدس.
وصل نحو 120 ألف يهودي إلى فلسطين بين عامَي 1940 و1948، ومع انتهاء فترة الانتداب البريطاني كان عدد اليهود نحو 625 ألفًا، أي ما يقارب ثلث السكان في البلاد
وبينما انطلقت الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، واستمرت 3 سنوات ضد الانتداب البريطاني والهجرة اليهودية، “ابتدع” المستوطنون اليهود طريقة “السور والبرج”، أو ما يسمّى باللغة العبرية “حوماه فِمِجدال” في بناء مستوطناتهم، التي كانت عبارة عن مستوطنة صغيرة محاطة بسور وفيها برج للمراقبة الأمنية، وفي عام 1936 نفسه تمَّ إنشاء ما لا يقل عن 10 مستوطنات من هذا النوع، ما كان إيذانًا بتحول الاستيطان من تجمعات لليهود إلى مشروع سياسي وأمني.
مستعمرة “تل عمل” بالقرب من قرية تلّ الشوك المهجّرة، أول مستعمرة تتخذ نموذج “السور والبرج”
في سنوات الحرب العالمية الثانية، وصل إلى فلسطين نحو 55 ألف مهاجر بطرق غير شرعية، حيث كان الأسطول البريطاني مكلَّفًا بإرشاد سفن المهاجرين اليهود وإمدادهم بالماء والتموين والوقود وقيادتها إلى السواحل الفلسطينية، وبين عامَي 1940 و1948 وصل نحو 120 ألف يهودي إلى فلسطين، ومع انتهاء فترة الانتداب البريطاني كان عدد اليهود نحو 625 ألفًا، أي ما يقارب ثلث السكان في البلاد.
بعد النكبة: من المستعمرات إلى المستوطنات
قبيل يوم واحد من قيام دولة “إسرائيل”، أي في 14 مايو/ أيار 1948، كانت في فلسطين نحو 285 مستعمرة انتشرت، في معظمها، على امتداد حدود التقسيم التي اقترحتها الأمم المتحدة لاقتراح دولتَين واحدة يهودية وأخرى فلسطينية، من المطلة في الشمال عند الحدود اللبنانية إلى عين جدي في الجنوب عند أطراف البحر الميت.
مستعمرات “السور والبرج” وعلاقتها بمخطط تقسيم فلسطين عام 1947
وفي العقد الأول للاحتلال، عملت حكومات حزب العمل بموجب “خطة ألون”، التي توصي ببناء مستوطنات في مناطق ذات أهمية أمنية، والتي فيها كثافة سكانية فلسطينية منخفضة، مثل غور الأردن وأجزاء من جبال الخليل والقدس وضواحيها.
ومع وصول حزب التكتل (الليكود) إلى الحكم عام 1977، وهو حزب بنيامين نتنياهو، بدأت الحكومة ببناء مستوطنات في جميع أنحاء الضفة الغربية، خاصة في المناطق التي يتركز فيها الفلسطينيون على قمم الجبال وفي المناطق الواقعة غربي خط رام الله-نابلس، باستراتيجية مدفوعة بأهداف أمنية وأيديولوجية.
تزامن ذلك كله مع منع الاحتلال الفلسطينيين من بناء المنازل أو المباني العامة في التجمعات الفلسطينية خارج مراكز المدن، وبالتالي رفض إصدار تراخيص البناء ورفض ربط التجمّعات بمرافق أساسية مثل شبكة المياه والكهرباء، والامتناع عن شقّ شوارع تؤدّي إليها، وعندما يجد الفلسطينيون أنه لا خيار لديهم سوى البناء دون ترخيص تصدر الإدارة المدنية للاحتلال أوامر الهدم.
في مقابل ذلك، يحمي الاحتلال بجيشه المستوطنات والبؤر الاستيطانية ويشق لها الشوارع، حيث مدَّ لبعضها شبكات الكهرباء والماء، ويقدّم لها الدعم عبر عدة قنوات، منها وزارات الحكومة وقسم الاستيطان في المنظمة الصهيونية العالمية والمجالس الإقليمية في الضفة الغربية.
كما يمنح أفضليات لمشاريع اقتصادية ضمنها منشآت زراعية، ويدعم مزارعين جددًا ورعي القطعان، ويخصّص لهم حصص المياه ويمنحهم حماية قانونية ضد الالتماسات التي تطالب بإخلائهم، ليجتمع “وكلاء الاستيطان” في صورة واحدة.