تعد الأرض أهم مورد في العملية الاستيطانية، وهي نقاط الصراع الأساسية بين الفلسطينيين كشعب تحت الاحتلال، و”إسرائيل” ككيان احتلال، فتدأب تل أبيب على السيطرة على الأرض واستيطانها في المناطق خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وعلى تهويد البلدات العربية المتبقية هناك.
وتهويد الوجود العربي في الداخل المحتل يقع على سلم أولويات وزارات حكومة الاحتلال، إذ تخصص مواردها وإستراتيجياتها لتوفير احتياجات البلدات اليهودية القائمة من تطوير وتوسيع وإقامة بلدات يهودية جديدة على حساب البلدات العربية، من خلال طرح مشاريع تنموية وبيئية، ظاهرها تطوير وباطنها استيطان.
في هذا التقرير من ملف “وكلاء الاستيطان”، يسلط “نون بوست” الضوء على وزارة الزراعة وتطوير القرى الإسرائيلية، وكيف تعمل على بسط الرؤية الصهيونية، وتنفيذ مخططات الاستيطان في الضفة الغربية وهدم القرى والمدن العربية في الداخل المحتل، من خلال لجان التطوير الوزارية التابعة لها.
لواء الاستيطان في الضفة
ففي الضفة الغربية، وعند إقامة بؤرة استيطانية، وهي النواة الأولى للمستوطنات، تقدم وزارة الزراعة وتطوير القرى بالتكامل مع الوزارات الاحتلالية الأخرى وقسم الاستيطان في المنظمة الصهيونية العالمية والمجالس الإقليمية في الضفة الغربية الدعم لهذه البؤر، وتمنحها أفضليات لمشاريع اقتصادية بضمنها منشآت زراعية ودعم مزارعين جدد ورعي القطعان، كما تخصص حصص المياه لهم.
في عام 1971، أنشئ لواء الاستيطان في إطار منظمة الصهيونية العالمية، وتحت رعاية دائرة الاستيطان في الوكالة اليهودية، وبما أن دائرة الاستيطان هي المسؤولة عن المستوطنات في الداخل المحتل، كلفت المنظمة لواء الاستيطان – هيئة غير حكومية -، بمهمة تطوير المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وغزة وغور الأردن ومرتفعات الجولان.
وليقوم لواء الاستيطان بعمله، تخصص وزارة مالية الاحتلال مبلغ 36 مليون شيكل عبر ميزانية وزارة الزراعة وتطوير القرى لصالح اللواء، وذلك ضمن اتفاقية إطار خاصة، تغطي مصاريف النفقات العامة من أجل الحفاظ على الاستمرارية في أنشطة اللواء، وتشمل المصاريف الرواتب والنفقات ذات الصلة والإيجار والنفقات القانونية ومصاريف التحصيل ومصاريف إدارة الممتلكات والعقارات والمحاسبة ونفقات الميزانية العمومية.
كما حصل لواء الاستيطان على مخصصات أخرى لم يعلن عن أسبابها، حيث صرحت النائب في الكنيست عن حزب العمل ستاف شافير عام 2014 أن الحكومة الإسرائيلية خصصت مبلغ 133 مليون شيكل للواء الاستيطان، كما تظهر قائمة جميع مصاريف لواء الاستيطان للأعوام 2017-2018 أن اللواء مول مشاريع وأنشطة بمبلغ 200.8 مليون شيكل في الضفة الغربية.
“تطوير لا تهويد”
أما في الداخل المحتل، انبثقت عن وزارة الزراعة وتطوير القرى الإسرائيلية لجان وزارية تبحث في كيفية “تطوير” المناطق في الداخل المحتل، وتصبح قرارات اللجان سارية المفعول على صعيد الحكومة بأسرها إذا لم يطعن فيها أي وزير بعد مضي أسبوعين من توزيعها على الوزراء.
وأهم هذه اللجان في مجال الاستيطان هي اللجنة الوزارية لتطوير النقب والجليل، ففي خريف 1975، صادقت حكومة الاحتلال على مشروع “تهويد الجليل” واعتمدوا “تطوير الجليل” كتسمية رسمية للمشروع الذي أعلن في النشرة الشهرية لوزارة الزراعة في نوفمبر/تشرين الثاني 1975، وقد استند هذا المشروع إلى إستراتيجية تهدف إلى “خلق حاجز في قلب مناطق واسعة ومكتظة يسكنها غير اليهود”، وهي الإستراتيجية نفسها التي اتبعت في عمليات الاستيطان اليهودي التي شهدتها الضفة الغربية منذ مطلع السبعينيات.
وعقب أحداث يوم الأرض، وخلال عام 1979، قررت حكومة الاحتلال، برئاسة مناحيم بيغن، وبتنسيق مع المنظمة الصهيونية العالمية خلال جلسة أقاموها بعنوان “تهويد الجليل”، إقامة عدد كبير من المستوطنات، عبر تنفيذ خطة غير تقليدية كان الغرض منها إنشاء 30 “منطرة” خلال 8 أشهر، في مناطق متعددة في الجليل شمال فلسطين المحتلة، وذلك بهدف الاستيلاء على أراضٍ وتخصيصها للاستيطان اليهودي في المرحلة الأولى، وإقامة عشرات المناطر الأخرى بالتدريج، لتمكن إحلال نصف مليون مستوطن يهودي في مطلع أعوام الـ2000 في الجليل.
ومع قدوم حكومة بنيامين نتنياهو الأخيرة، التي يقوم برنامجها الأساسي على توسيع الاستيطان، قررت الحكومة تشكيل لجنة وزارية جديدة خاصة بهدف تهويد النقب والجليل، ويكون من وزراء هذه اللجنة وزير مالية الاحتلال بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي القومي إيتمار بن غفير، كبار دعاة الاستيطان.
يقود هذا المخطط وزير “شؤون الشتات اليهودي”، عميخاي شيكلي، الذي قدم خطة استيطانية تدور بنودها حول أن الفلسطينيين في النقب سيسيطرون في غضون 25 عامًا على النقب بالكامل حسب زعمه، وذلك نظرًا لأن النمو السكاني كبير وسرعان ما سيصل في هذه المنطقة ما بين نصف مليون إلى 700 ألف فلسطيني، وهو ما يراه شيكلي “خسارة إسرائيل للنقب أمام العرب البدو”.
وضمت خطة التطوير التي قدمها شيكلي “مسارًا خاصًا لمنع تعدد الزوجات في النقب لمنع تكاثر العرب وتعزيز وحدات الشرطة”، وتقضي الخطة بتجميع بدو النقب في أربعة تجمعات سكنية أساسية هي: رهط وحورة وشمال عراد وبير هداج، وإخلاء التجمعات السكنية المختلفة لبدو النقب في مختلف المناطق خاصة منطقة أم الحيران.
كما تدعم خطة وزير “شؤون الشتات اليهودي” وحدة “يوآف” الشرطية التابعة لما تسمى “سلطة تطوير النقب” المسؤولة عن تنفيذ عمليات هدم المنازل في البلدات العربية بالنقب بميزانية قدرها 18 مليون شيكل.
التشجير كأداة استيطان
تمتد رؤية وزارة الزراعة وتطوير القرى الإسرائيلية من هدم المنازل وتهجير الفلسطينيين كوسيلة استيطانية إلى إحلال الشجر مكان البشر، ثم اعتبار المناطق العربية محميات طبيعية يمنع المساس بها والبناء عليها، وهو ما صرح به رئيس مجلس إدارة الصندوق القومي اليهودي أفراهام دوفديفاني، عام 2022، بأن الصندوق “سيواصل الزراعة في النقب بأكمله، وهذا جزء من الرؤية الصهيونية”.
يؤكد مركز “عدالة” في الداخل المحتل لا قانونية التشجير، وأن عملية التشجير تتم دون أي صلاحية أو سلطة قانونية، بل حتى إنه يتجاوز الإجراءات التي تنص عليها قوانين الأراضي، كما أن محاولة السلطات الادعاء أن عمليات التحريش هي بمثابة “أشجار زراعية”، ليست إلا ذريعة هدفها استغلال إطار قانوني يتيح الالتفاف على قانون التخطيط والبناء، لتتمَ المصادقة على التشجير بالخفاء دون خرائط تفصيلية أو تصاريح.
وإضافة إلى ذلك، فإن أعمال التحريش تشمل أحيانًا أراض لا تزال قيد إجراءات التسوية، وعليه فإن عمليات التشجير لا تتسبب فقط في الضرر المباشر من حيث قلع المحاصيل وهدم المباني والتضييق على السكان وعلى إمكانات الاعتراف بالقرى أو توسيعها، بل إنها أيضًا قد تحمل تداعيات قد تؤثر على الوضعية القانونية للأرض وحقوق ملكيتها أو استعمالها.
تشكل وزارة الزراعة وتطوير القرى الإسرائيلية ومن خلال لجانها الوزارية، ودعمها المالي للواء الاستيطان في الضفة الغربية، جهازًا أساسيًا من أجهزة الاستيطان وتهجير الفلسطينيين وهدم منازلهم، ووكيلًا استيطانيًا في حماية البؤر الاستيطانية عبر رفدها بمشاريع زراعية وتوفير المياه لها، ليتمركز المستوطنون في مكانهم حتى تتحول البؤرة إلى مستوطنة.