قبل 100 عام تقريبًا، كان يمكن لـ 15 أوقية أو أونصة من الذهب (والتي تقدَّر بـ 300 دولار وقتها) شراء مركبة عائلية متوسطة، واليوم الـ 15 أونصة من الذهب نفسها ما زالت تستطيع شراء المركبة نفسها، في حين أن 300 دولار لا يمكنها اليوم شراء حتى إطارات للمركبة.
بمعنى آخر، يمكن للذهب والمعادن النفيسة الحفاظ على قيمتهما في جميع الظروف، بينما النقد الورقي يخسر قيمته بمرور الزمن بفعل التضخّم، من هنا تحتفظ الدول والبنوك المركزية بنسبة جيدة من المعادن النفيسة وعلى رأسها الذهب، من أجل تجنّب تآكُل موجوداتها من الاحتياطات النقدية الاستراتيجية.
ظل الذهب على مرّ العصور يتمتع بأهمية وبريق استثنائي للبشرية، حتى على صعيد النظام النقدي والمالي العالمي، فقد كان المعيار الذهبي هو النظام السائد حتى نهاية القرن الـ 19، حيث كان ثراء الدول وتقدمها الاقتصادي ورفاهية مواطنيها تُقاس بكمية حيازتها من المعادن النفيسة.
لذلك، وحتى وقت مبكر من القرن الماضي، كانت المعادن النفيسة هي الداعم الرئيسي والوحيد للعملات الوطنية المختلفة، بمعنى أن كمية النقود الورقية المطبوعة توازي وتساوي كمية الذهب الموجودة في خزائن الدولة، من هنا كانت الدول الاستعمارية تنهب ثروات مستعمراتها من المعادن النفيسة، وتبيعها في المقابل ما تصنّعه من منتجات.
عصر الدولار الأمريكي بدأ مع بداية القرن الماضي، وتعزز أكثر خلال وبعد الحرب العالمية الثانية، حيث استحوذت الولايات المتحدة الأمريكية على ذهب أوروبا مقابل تزويدها بالسلع والعتاد الحربي، الأمر الذي ساعد كثيرًا الدولار الأمريكي أن يأخذ مكانة مهمة تنافس وتزاحم الذهب على عرشه.
وأصبحت دول العالم من خلال بنوكها المركزية تحتفظ بالدولار الأمريكي كاحتياطي نقدي، الأمر الذي زاد من أهمية الدولار خصوصًا بعد مؤتمر بريتون وودز الشهير، الذي عُقد في الولايات المتحدة نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1944، والذي تمَّ من خلاله اعتماد الدولار كعملة احتياطية عالمية، وهو حقيقةً الزمن الذي بدأت معه الأزمات الاقتصادية والمالية تضرب العالم كل عقد من الزمن أو أقل.
ازدياد أهمية الذهب والمعادن النفيسة خلال السنوات الأخيرة
تلاحقت الأزمات الاقتصادية والمالية خلال 100 عام منذ الكساد العظيم وبشكل دوري ومتكرر، الأمر الذي زاد الاقتصاديين قناعة بقصور النظام المالي والنقدي السائد والمعتمد على الدولار الأمريكي، وترسّخت هذه القناعة أكثر بعد الأزمة المالية عام 2008.
لذلك بدأت كبرى الصناديق الاستثمارية بزيادة حيازتها للذهب والفضة كملاذات آمنة، للتحوّط في حالات الدخول في أزمات جديدة، والتي تؤدي عادةً إلى انهيار أسعار الأسهم والسندات وغيرها من الاستثمارات ذات المخاطر المرتفعة.
نذكر في العهد القريب جدًّا، خلال جائحة كوفيد-19، كيف حلّقت أسعار الذهب وتجاوزت 2000 دولار للأونصة لأول مرة، خصوصًا في الأشهر الأولى للجائحة، نتيجة حمّى شراء المعدن الأصفر التي اجتاحت العالم حينها.
على صعيد الدول، فقد ضاعف الكثير منها من معدلات شراء المعادن النفيسة خلال السنوات الأخيرة، خصوصًا مع توقعات بتغيُّر النظام النقدي العالمي من ناحية، ومن ناحية أخرى بسبب التخوّف من أزمة اقتصادية قادمة، حيث بلغت مشتريات البنوك المركزية هذا العام أرقامًا قياسية، فحسب مجلس الذهب العالمي تمّ شراء 228 طنًّا من الذهب خلال الربع الأول من العام الحالي.
هناك سبب آخر مهم يجعل الناس، سواء المستثمرين أو حتى الناس العاديين، حريصين على اقتناء الذهب والفضة، هو من أجل التحوّط من حالات التضخم المستمر، والذي تتآكل معه القيمة الحقيقية للعملات التقليدية كما ذُكر في المقدمة، حتى أن التضخّم في العامَين الماضيَين بلغ مستويات قياسية تخطّت 10% في بعض الدول الصناعية المتقدمة.
ادخار أم استثمار؟
الاحتفاظ بالمعادن النفيسة عمومًا يعتبر ادخارًا أقرب منه للاستثمار، ذلك أن الذهب لا يدرّ أرباحًا سنوية كما هو الحال في أنواع أخرى من الاستثمارات، خصوصًا الأسهم والسندات، مع ذلك يعتبره بعض الخبراء مربحًا بسبب استمرار ارتفاع أسعار المعادن النفيسة على المدى الزمني المتوسط والطويل.
تضاعفت أسعار المعدن الأصفر منذ بداية الألفية الحالية من 250 دولارًا إلى أكثر من 2000 دولار للأونصة، لذلك هو استثمار جيد لمن يبحثون عن استثمار آمن وطويل الأجل، وبكل الأحوال ينصح بالاحتفاظ بما لا يقلّ عن 15% من المحفظة الاستثمارية على شكل ذهب وفضة.
شراء الذهب وتخزينه
للاستثمار أو ادخار الذهب والفضة يوجد شكلان رئيسيان:
– الأول السبائك وتأتي بأوزان مختلفة، تبدأ من ربع أونصة واحدة ولغاية 400 أونصة.
– وهناك ما يسمّى بالنقود الذهبية، وهي معروفة للجميع إذ إن شكلها كالنقود المعدنية، وأوزانها تبدأ من 2 غرام لغاية 40 غرامًا، و تصنّعها دول قليلة مثل بريطانيا وأمريكا وأستراليا وكندا وسويسرا.
بالنسبة إلى الشراء هناك طرق عديدة:
– الشراء من تجّار الذهب والصاغة المحليين، ويكون على شكل نقود ذهبية، وهي معروفة جيدًا في بلادنا العربية ويطلق عليها في الغالب الدنانير الذهبية العثمانية.
– كذلك يمكن الشراء من خلال مواقع الإنترنت الموثوقة والمعروفة على مستوى العالم.
أمّا بالنسبة إلى التخزين، فهو يشكّل معضلة كبيرة لدى البعض بسبب الأمان والحاجة للتأمين على المقتنيات الذهبية، إذ يحتفظ البعض بالذهب في خزنة منزلية، بينما يفضّل البعض الآخر الاحتفاظ بالمعادن النفيسة في خزنة أو بنك محلي، وبالنسبة إلى اقتناء كميات كبيرة من الذهب، فيمكن تخزينها لدى شركات موثوقة تقوم هي بدورها بتخزينها لدى أحد البنوك المركزية وتؤمّن عليها أيضًا.
هل من فرق بين الذهب والفضة؟
لا يوجد فرق من حيث الأهمية بين الذهب والفضة، فكلاهما حافظ على بريقه على مرّ العصور، إنما هناك فروقات فنية، فمثلًا من ناحية التخزين تكلّف الفضة تخزينًا أعلى من الذهب، بسبب رخص قيمتها مقارنة بالذهب، بمعنى أن الوزن الذي نستطيع شراءه من الفضة بقيمة 1000 دولار أكبر بكثير من وزن الذهب بالقيمة نفسها.
هناك فارق مهم آخر من حيث الأسعار، فبعض الخبراء يرون أن الفضة مقيّمة حاليًّا بأقل من قيمتها العادلة، ويستدلون على ذلك من خلال مقارنتها بالذهب، فقبل 10 سنوات كانت قيمة أونصة الذهب مساوية لحوالي 50 أونصة فضة، لكن بأسعار اليوم فإن أونصة الذهب تساوي أكثر من 80 أونصة فضة.
لذلك يرى المستثمرون والمتعاملون في المعادن النفيسة أن هناك فرصة أن تشهد أسعار الفضة ارتفاعات كبيرة، ولذلك نجد أن كبرى الصناديق الاستثمارية مثل Black Rock، والتي تدير أكبر صندوق استثماري في العالم، رفعت في الآونة الأخيرة استثماراتها من الفضة بناءً على هذا الاعتقاد.