يعاني أكثر من 900 ألف نازح في مخيمات الشمال السوري من شحّ المياه في ظل ارتفاع درجات الحرارة وانعدام البنية التحتية وصعوبة إيجاد حلول دائمة تتمثل بحفر الآبار الجوفية، وبناء الخزّانات الكبيرة، وتمديد شبكات مياه منظمة تصل المخيمات أو المنازل المؤقتة.
انعكس غياب الحلول على الأهالي، إذ أدّى انقطاع المياه الدائم على المخيمات إلى تفشي أوبئة وأمراض عديدة، خاصة في مخيمات إدلب شمال غرب سوريا، والتي سجّلت انتشارًا كبيرًا لعدد من الأمراض الجلدية، بحسب بيان سابق لـ”فريق منسقو استجابة سوريا” العامل في منطقة إدلب.
الصهاريج أفضل الموجود
محمد الفيصل نازح في مخيم الكرامة في منطقة أطمة بريف إدلب، يقول لـ”نون بوست” إنه يضطر شهريًّا إلى شراء 6 صهاريج مياه على حسابه الشخصي، لافتًا أن سعر الصهريج الواحد يبلغ 60 ليرة تركية بسعة 7 براميل، مؤكدًا أن كل صهريج يكفي عائلته المؤلفة من 8 أفراد لـ 4 أو 5 أيام كحدٍّ أقصى مع التقنين.
ويضيف الفيصل أن المنظمات تدعم مشروع تزويد المياه للعائلات في المخيمات بين حين وآخر، وبكمّيات لا تكفي العائلة الواحدة، لذلك تضطر العائلة لشراء الصهاريج حتى في فترات وجود الداعمين لهذه القضية.
لا يختلف الحال عند السيدة أسماء سيد مصطفى التي تسكن مخيم الرحمة في محيط قرية عقربات شمالي إدلب، إذ تؤكد أن معاش ابنها العامل في ورشة خياطة يذهب نصفه ثمن مياه شرب لهم في فصل الصيف.
أدّى شحّ المياه إلى وقوع أكثر من 98 حريقًا منذ بداية العام الحالي، في مخيمات شمال غرب سوريا، والتي يقطنها أكثر من مليون ونصف مدني
تُكمل السيدة أسماء حديثها معنا وهي قاطبة حاجبَيها: “الناس هنا فقراء جدًّا ولا يستطيعون شراء صهاريج تكفيهم طيلة الشهر، فالعائلة تحتاج إلى ما يزيد عن 300 ليرة تركية ثمن مياه، والكثيرون من الشبان هنا لا يجدون فرصة عمل، وإن وجدوا فمعاشهم الأسبوعي أو الشهري لا يكفيهم ثمن الخبز والطعام”.
ويؤكد ممّن حاورهم “نون بوست”، أن أسباب انقطاع المياه تعود إلى أسباب كثيرة، أبرزها وأكثرها أهمية هي بُعد المخيمات عن مراكز المدن والبلدات وتمركزها في مناطق جبلية وعرة، بالإضافة إلى عشوائية الخيام وغياب تنظيمها، ما يجعل من الصعب تمديد شبكات مياه منظمة داخل تجمعات النازحين، ما يدفع الأهالي لشراء صهاريج المياه بسعر يزيد عن سعرها الطبيعي، بسبب بُعد المسافة وصعوبة الوصول.
811 مخيمًا يعاني من انعدام المياه
يقول مدير “فريق منسقو استجابة سوريا”، الدكتور محمد حلاج، لـ”نون بوست”، إن ارتفاع درجات الحرارة بشكل مستمر سنويًّا زاد من معاناة النازحين، الذين يعيشون أساسًا أوضاعًا إنسانية سيّئة في المخيمات، ويتركز سببها الأساسي في الضعف الكبير لعمليات الاستجابة.
وأكد حلاج على أن أكثر من 811 مخيمًا يعاني من انعدام المياه اللازمة في منطقة إدلب فقط، إضافة إلى انخفاض مخصصات المياه في باقي المخيمات نتيجة تخفيض الدعم وارتفاع معدل استهلاك المياه، نتيجة ارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير، والتي من المتوقع أن تزداد خلال الأيام القادمة.
ولفت إلى أن شحّ المياه أدّى إلى وقوع أكثر من 98 حريقًا منذ بداية العام الحالي، محمّلًا المنظمات مسؤولية ما يحدث لعدم النظر في حال النازحين في مخيمات شمال غرب سوريا، والتي يقطنها أكثر من مليون ونصف مدني، خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة.
وطالب حلاج جميع المنظمات والجهات المعنية بضرورة زيادة الفعاليات الإنسانية، وتأمين العديد من المستلزمات الأساسية للنازحين لمواجهة ارتفاع درجة الحرارة في المنطقة، وأبرزها زيادة كميات المياه والعمل على تبريد المخيمات، وتأمين معدات إطفاء الحرائق لمواجهة أي حالة طارئة ضمن المخيمات.
الأسباب والحلول
خلال إعداد هذا التقرير تواصلنا مع المهندس مازن السلامة، المسؤول في مديرية شؤون المخيمات التابعة لحكومة الإنقاذ في إدلب، وأكد على أن المشكلة تكمن في قلة الآبار العامة التي تخدم سكان المخيمات، حيث تحتاج إلى تكاليف تشغيلية كبيرة وتجهيزات ضخمة، وبسبب قلة الموارد والدعم لتلك الآبار يوجد عشرات الآبار المتوقفة عن العمل.
ولفت في حواره مع “نون بوست” إلى أن كمية المياه المخصصة لكل فرد ضمن المخيمات حسب معايير الأمم المتحدة، تتراوح بين 28 إلى 35 ليترًا لكل فرد يوميًّا، وهذه الكمية لا تكفي لسدّ احتياج الفرد الأساسي، خاصة في فصل الصيف.
وذكر أنهم في شعبة الموارد المائية في مديرية شؤون المخيمات، التابعة لوزارة التنمية والشؤون الإنسانية، ناشدوا عدة مرات جميع الجهات الداعمة عند اشتداد الحر لمضاعفة كميات المياه المقدمة للمخيمات، حيث استجاب العديد من المنظمات وضاعفت تلك الكميات، لكن الحل الجذري لتلك المشاكل هو تأمين التكاليف التشغيلية والآبار الكافية لتغذية مئات الآلاف من العوائل التي تقطن المخيمات، وهو غائب إلى اليوم، وفقًا للسلامة.
بلغت الخسائر في قطاع المياه في سوريا 121 مليون دولار، وفقًا لـ”بيانات صادرة عن البنك الدولي”، ما أجبر نحو ثلثَي سكان سوريا أن يحصلوا على المياه من مصادر تتراوح درجة خطورتها بين المتوسطة والعالية.
كما انخفض معدل توفر المياه في سوريا من 75 ليترًا لكل شخص يوميًّا إلى 25 ليترًا، ما شكّل كارثة على العديد من الحالات عند النازحين في ظل تردي الوضع الاقتصادي في سوريا، وارتفاع الأسعار والسلع وتوقف الأعمال وانخفاض الدخل.
الحل الوحيد يكمن في تسليط المنظمات الإنسانية مشاريعها على البنية التحتية بالدرجة الأولى، وتركيب مجموعات طاقة شمسية لاستدامة مشاريع استخراج المياه من الآبار الجوفية إذا نُفّذت
من جانب آخر، أفاد مدير مؤسسة المياه في حكومة الإنقاذ، جمال ديبان، لـ”نون بوست” أن مهام المؤسسة يقتصر اليوم على تخديم المدن والبلدات في الشمال السوري، وأنه إلى اليوم لم يدخل عمل المؤسسة في المخيمات.
كما رأى ديبان أن المشكلة يمكن أن تكمن في غياب الآبار الجوفية التي من شأنها تخديم هذه المخيمات، بالإضافة إلى ضعف التخديم من قبل المنظمات وعدم إخلاصهم في العمل، مؤكدًا أن المياه الجوفية في الشمال السوري جيدة.
وبحسب ديبان، فإن الحل الوحيد يكمن في تسليط المنظمات الإنسانية مشاريعها على البنية التحتية بالدرجة الأولى، وتركيب مجموعات طاقة شمسية لاستدامة مشاريع استخراج المياه من الآبار الجوفية إذا نُفّذت.
لم تتوقف مشكلة تردي الوضع الاقتصادي للسكان في تأمين مياه الشرب فقط، بل ترافقت المشكلة وفقًا لعشرات العوائل الذين استطلعنا رأيهم أثناء إنجاز هذا التقرير، مع انتشار أمراض وأوبئة عديدة، سببها غياب المياه بالشكل المطلوب وتلوثها الناتج في معظمه عن الصهاريج.
يحدثنا الطبيب عبد الكريم الياسين، مدير مشفى الإخاء الواقع في بلدة أطمة شمالي إدلب، عن أن عشرات الحالات تصل إلى قسم الإسعاف في المشفى سببها الجرب والإسهالات والتهاب السحايا والحصبة وحبة السنة (الليشمانيا) والكوليرا، والتي يعود سببها غالبًا إلى عدم وجود مصادر مياه آمنة وصحية، وعدم قدرة النازحين على الوصول إلى كميات كافية من المياه.
واسترسل قائلًا: “المياه التي يحصل عليها النازحون هي أساسًا مجهولة المصدر، فجميع أصحاب الصهاريج باعة متجولون، ولا يتبعون لأي رقابة”.
وأوضح الياسين أثناء حديثه لـ”نون بوست” أن الأولوية اليوم من المنظمات الإنسانية هي معالجة قلة المياه وغيابها عن العوائل الفقيرة بالشكل المطلوب، بالإضافة إلى تحسُّن مرافق المياه والصرف الصحي في التجمعات السكنية، خاصة المخيمات العشوائية.
الغذاء هو أساس الدعم
تشير دراسة استقصائية لـ”مركز عمران للدراسات” أن جُّل المساعدات المقدمة من المنظمات الدولية تعتمد بشكل أساسي على تقديم وجبات الطعام للمقيمين في المخيمات، كمساهمة منها للتخفيف من النفقات المتعلقة بالغذاء، إذ تنشط العديد من المنظمات لتقديم المساعدات في هذه المخيمات، من خلال توزيع السلال الغذائية والمواد الصحية ومواد التنظيف، لتأمين المتطلبات المعيشية الضرورية.
ووفقًا لغالبية سكان المخيمات، فإن المساعدات التي يتلقونها تعدّ أكبر قيمة ممّا يمكن أن يوفروه لعائلاتهم، إن هم حاولوا العودة إلى مناطقهم دون تأمين وظيفة أو سبيل للعيش، لذا يتشبّث الكثير منهم بالبقاء في هذه المخيمات.
إلا أن الواقع الحالي وفقًا للعديد من سكان هذه المخيمات، يشير إلى وجود حالات فساد لدى بعض إدارات هذه المخيمات في توزيع المساعدات للسكان بشكل عادل أو سرقتها في بعض الأحيان، ما يؤثر بشكل كبير على مدى قدرتهم على مواجهة النفقات المعيشية نتيجة غياب جهة رقابية رسمية للإشراف على هذه الإدارات، بحسب الدراسة.
تؤكد الدراسة أيضًا أن هناك نسبة 25% من سكان المخيمات يعتمدون على السحب من مدخراتهم الشخصية، والتي تفسّر معاناة السكان المقيمين في هذه المخيمات من الطبقات الاجتماعية الفقيرة التي ليس لديها القدرة على استئجار المنازل والعيش في المدن، بعد أن فقدَ الكثير أصولهم المادية ومدخراتهم نتيجة نزوحهم من مناطقهم، واستهلاك معظم هذه المدخرات مع استطالة أمد النزوح.
خلاصة الكلام، إن تسليط الضوء على قضية المياه في هذا الوقت الراهن أصبح من أكثر المواضيع أهمية، لا سيما أن الصراع في سوريا اقترب من نهايته، إذ توقفت آخر موجة نزوح في مارس/ آذار 2020.
كما شهدت السنوات الثلاثة الماضية تحول الكثير من المخيمات في منطقة إدلب إلى قرى صغيرة ومدن، وبات النازحون يعيشون حياة مستقرة في ظل غياب الحلول النهائية تجاههم، وباتت تلك المخيمات تعجّ بالحياة وتستلزم من ساكنيها السعي نحو تأمين الرزق لمواصلة حياتهم وتأمين متطلبات أسرهم.