شهدت معركة “سيف القدس” التي اندلعت في مايو/ أيار 2021 اشتعال كافة جبهات المواجهة مع الاحتلال على طول فلسطين التاريخية وخارجها، ولم تكن الساحة الرقمية استثناءً من هذا، حيث لعبت دورًا بارزًا في رفع رصيد الرواية الفلسطينية رقميًّا، والتأثير في الجماهير العالمية التي هرعت إلى الشوارع، ووصف هذا الدور المحوري بأنه “انتفاضة رقمية”.
في حينه حاول رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، حجب وسائل التواصل الاجتماعي خلال الهبّة، بعد أن نُظّمت احتجاجات داخل الأراضي المحتلة ضد العدوان الإسرائيلي على القدس وقطاع غزة، متذرّعًا أن سبب هذه الاحتجاجات دعوات مشبوهة بُثّت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكن المدعي العام الإسرائيلي ومسؤولين أمنيين رفضوا اقتراحاته.
ساحة صراع جديدة
لم يقوَ رواد الدبلوماسية الرقمية الإسرائيلية على إنكار هزيمتهم في هذه الجولة من حرب الرواية، إذ قال الخبير الاستراتيجي روني ريمون: “لقد هزمتنا الرواية الفلسطينية واحتلت ساحات مواقع التواصل الاجتماعي”.
كما طالبَ بمليار دولار سنويًّا بشكل عاجل لدعم الدبلوماسية الرقمية الإسرائيلية في مجابهة الرواية الفلسطينية، واصفًا التقاعس عن ذلك بفتح الباب على مصراعيه لـ”تمدد الغول الفلسطيني عبر المنصات الرقمية”.
تفرض هذه الوزارة مساقات إجبارية على طلبة الجامعات، مثل مساق “سفراء في الشبكة” الذي يدرَّس في جامعة حيفا، لتمكين الطلبة من تسويق دولة الاحتلال عبر الشبكات الاجتماعية
يصنَّف الاحتلال في المركز التاسع عالميًّا في تصنيف معهد “أكا” التركي للدبلوماسية الرقمية عام 2017، متفوقًا على العديد من الدول المتقدمة، ومن المؤشرات اللافتة لاهتمام “إسرائيل” بالدبلوماسية الرقمية أن وزارة خارجية الاحتلال الإسرائيلي نظمت أول مؤتمر دولي يُعنى بالدبلوماسية الرقمية في مارس/ آذار 2016، وشارك فيه خبراء ودبلوماسيون من 25 دولة، فيما نظمت المؤتمر الدولي الثاني لها في ديسمبر/ كانون الأول 2017 بحضور 30 دولة.
نظمت أيضًا مؤتمرًا هو الأول من نوعه للدبلوماسية الرقمية باللغة العربية في أغسطس/ آب 2017، إذ اجتمع كادر الدبلوماسية الناطق بالعربية في قسم الدبلوماسية الرقمية في خارجية “إسرائيل”، لبحث الإنجازات والإخفاقات ودراسة الخطط المستقبلية لاختراق الجمهور العربي.
يقدم للمنخرطين فيه 2000 دولار مقابل كل 5 ساعات في الأسبوع، يقضونها في كتابة تعليقات عبر شبكات التواصل الاجتماعي تعزز من رواية “إسرائيل” وتبيّض صورتها
لدى “إسرائيل” وزارة صغيرة وغير معروفة للكثيرين تعرَف بـ”وزارة الشؤون الاستراتيجية والإعلام”، تكرّس من خلالها الحكومة الأموال والأفراد والخبرات لتنظيم حملات دعائية (هسبراه) حول العالم، وتشغل شبكة من الفاعلين والمنظمات لخدمة مصالحها.
تفرض هذه الوزارة مساقات إجبارية على طلبة الجامعات، مثل مساق “سفراء في الشبكة” الذي يدرَّس في جامعة حيفا، ومساق “نادي السفراء” الذي يدرَّس في جامعة تل أبيب، وكلاهما يسعيان لتمكين الطلبة من تسويق دولة الاحتلال عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
كما يوفر اتحاد النقابات الطلابية الإسرائيلي برنامجًا مدعومًا من وزارة الشؤون الاستراتيجية، بهدف محاربة نزع الشرعية عن “إسرائيل”، حيث يقدم للمنخرطين فيه 2000 دولار مقابل كل 5 ساعات في الأسبوع، يقضونها في كتابة تعليقات عبر شبكات التواصل الاجتماعي تعزز من رواية “إسرائيل” وتبيّض صورتها.
البداية الرقمية.. كيف وصل الاحتلال إلى هنا؟
بدأ الاحتلال نشاطه الرقمي عام 2011، كان ذلك بالتزامن مع انطلاق الثورات العربية التي رأى فيها الاحتلال فرصة لاختراق الرأي العام العربي، خاصة بعد إدراكها دور الإعلام الرقمي وإمكاناته في إحداث تغييرات سياسية واجتماعية وإسقاط الأنظمة القمعية.
ورغم أن حكومات الاحتلال المتعاقبة استطاعت نسج علاقات رسمية ودبلوماسية مع عدد من الحكّام العرب، سواء كان ذلك بشكل علني أو بالخفاء، فإنها فشلت في كسب الشعوب العربية التي ظلّت -حتى وقت قريب- تنظر إلى “إسرائيل” على أنها دولة محتلة ومعادية للعرب.
كان الهدف من هذا البرنامج شرح وجهات النظر الإسرائيلية حول الأحداث للجمهورَين الإسرائيلي والغربي، وتبرير الأعمال العسكرية والوحشية ضد الفلسطينيين
إن التفات “إسرائيل” إلى أهمية الدبلوماسية والإعلام الرقمي في التواصل مع الشعوب الخارجية، يأتي بعد أن عانى الاحتلال لسنوات طويلة من صعوبة تحسين صورته عربيًّا ودوليًّا، وتعرضه لكثير من الانتقادات على خلفية تبنّي “إسرائيل” للقوة الصلبة عسكريًّا واقتصاديًّا في مواجهة الفلسطينيين والعرب.
وبعد تعرضها للانتقادات الأكاديمية والأمنية من الداخل الإسرائيلي على سياساتها في المنطقة، سارعت دولة الاحتلال إلى تبنّي برنامج “الهاسباره” الذي يعني “الشرح والتفسير”، وتمَّ التعامل معه كمرادف للعلاقات العامة والدبلوماسية العامة.
كان الهدف من هذا البرنامج شرح وجهات النظر الإسرائيلية حول الأحداث للجمهورَين الإسرائيلي والغربي، وتبرير الأعمال العسكرية والوحشية ضد الفلسطينيين.
لكن “الهاسباره” لم يتمكن من مجاراة الدبلوماسية الرقمية، لاقتصاره على شرح وجهات النظر الإسرائيلية بطريقة أُحادية الجانب، فيما تعتمد الدبلوماسية الرقمية على الحوار الثنائي وإشراك الجماهير في مناقشة مختلف القضايا، ومن هنا كان البحث عن البديل لتجميل صورة “إسرائيل” وكسب التأييد الغربي والعربي على حد سواء.
بدأ الأمر يتحقق مع سطوع نجم الدبلوماسية الرقمية غربيًّا، إذ تبنت وزارة الخارجية الإسرائيلية هذه الدبلوماسية سريعًا، وأنشأت قناة الدبلوماسية الرقمية في الوزارة، كما وظفت العديد من الكفاءات الشبابية التي تولت مسؤولية متابعة عشرات الصفحات الإسرائيلية المتخصصة على مواقع التواصل الاجتماعي بلغات عديدة، من بينها العربية والفارسية والكردية.
لا يغيب عن هذه الدبلوماسية تبنّي خطاب دعائي مضادّ للرواية الفلسطينية، يعمل على شيطنة الشعب الفلسطيني ومقاومته، واعتبارهما سببًا رئيسيًّا في خراب المنطقة وحروبها
ويعتمد الخطاب الإعلامي الإسرائيلي باللغة العربية في القنوات الاتصالية التفاعلية على عدة استراتيجيات، منها استخدام اللغة الاستعلائية وإظهار التفوق الإسرائيلي الحضاري والعلمي والتكنولوجي على شعوب المنطقة، والتركيز على الروابط الثقافية والتاريخية بين الإسرائيليين والعرب.
ويتميز الخطاب الإسرائيلي بأنسنة دولة الاحتلال والجنود الإسرائيليين، مثل نشر صور لجنود إسرائيليين وهم يساعدون مسنًّا على المرور في الطريق، أو تقديم التهاني للعرب في المناسبات الوطنية والدينية.
في المقابل، لا يغيب عن هذه الدبلوماسية تبنّي خطاب دعائي مضادّ للرواية الفلسطينية، يعمل على شيطنة الشعب الفلسطيني ومقاومته، واعتبارهما سببًا رئيسيًّا في خراب المنطقة وحروبها.
ما الذي حدث؟ من هم المحاربون الرقميون؟
وظف الاحتلال 16 مؤثرًا إسرائيليًّا يصفهم بـ”المحاربين الرقميين”، ولديهم متابعون بعدد إجمالي يصل إلى 32 مليونًا ليروجوا لـ”إسرائيل” في الفضاء الرقمي، بعدما اهتزت صورتها إبّان النجاح الهائل للرواية الرقمية الفلسطينية في أحداث مايو/ أيار 2021.
أحد شروط قبول هؤلاء المؤثرين أن يكون لديهم بين 10 آلاف و500 ألف متابع، وألا يتعاملوا مع القضايا السياسية أو الأمنية خلال نشاطهم عبر الشبكات الاجتماعية، إنما إنتاج محتوى في مجالات الكوميديا والسياحة والرياضة والطعام والموسيقى في كيان الاحتلال.
اللافت أن الصندوق القومي اليهودي في الولايات المتحدة هو من جند هؤلاء، فيما اُستخدِم اسم “أحلام” في الترويج لاسم الفريق المؤثر غبر منصات التواصل الاجتماعي، في حين يعمل هؤلاء من عدة حسابات وصفحات بعضها وهمي وآخر رسمي.
وفق تقرير لموقع “زمن إسرائيل“، فإن شهر يونيو/ حزيران 2022 شهد جولة لفريق “أحلام” بتمويل من الصندوق القومي اليهودي، مبيّنًا أن أعضاءه يديرون حسابات يتابعها 32 مليون شخص، وجولتهم هذه سنوية تقريبًا لتشجيع السياحة إلى الشمال المحتل داخل الخط الأخضر.
تأمل “إسرائيل” أن يساعد المحاربون الرقميون والعدد الهائل من متابعيهم في نقل الرسالة التي فشلت الهيئات الرسمية الإسرائيلية في نقلها
في الغالب، يتحدث فريق “أحلام” عن مواضيع “خفيفة” مثل “التعايش اليهودي العربي”، والطهي والطعام في الشمال، والمكياج، وقصص حول نساء يحملن أسلحة، وفي أوقات التصعيد يضاعفون جهودهم، وتكون رسائلهم موحدة وعادة ما تكرر جملة فحواها أن “لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها”.
إلى جانب ذلك، يستعرض التقرير العبري نموذجًا لسلوك أعضاء هذا الفريق، فعلى سبيل المثال هاجمت الإسرائيلية شيراز شكرون عارضة الأزياء الأمريكية-الفلسطينية بيلا حديد، حول قتل جيش الاحتلال أطفالًا فلسطينيين في عدوان “بزوغ الفجر” العام الماضي ضد قطاع غزة.
وفي ردّها قالت شيراز: “أنتِ نموذج مشغول للغاية، لذا ليس لديك وقت للاطّلاع على المشكلة بعمق، فهذا ليس خطأك”، وأضافت هاشتاغ “أوقفوا الأخبار المزيفة”، وهاشتاغ “إسرائيل تتعرض للهجوم”، وهو ما يعكس دور هؤلاء في مطاردة النجوم المتضامنين مع القضية الفلسطينية.
إسرائيليًّا، صُنّف فريق “أحلام” على أنه أفضل سلاح يمتلكه الكيان المحتل في الحرب الدعائية، التي هي ساحة المعركة الوحيدة التي لا تزال “إسرائيل” تخسر فيها، وتأمل “إسرائيل” أن يساعد المحاربون الرقميون والعدد الهائل من متابعيهم في نقل الرسالة التي فشلت الهيئات الرسمية الإسرائيلية في نقلها، كما يتحدث مراقبون إسرائيليون.
يكشف هذا المشروع الدعائي الإسرائيلي الجديد عن التحدي الذي يواجهه الاحتلال الإسرائيلي في العالم الافتراضي، ما يجعله يستعين بمؤثرين عبر مواقع التواصل الاجتماعي لمواجهة الرواية الفلسطينية
وحصل فريق “أحلام” على تدريبات من قسم الاستراتيجيات والشراكات الرقمية في وزارة الخارجية الإسرائيلية، وإلى جانب ذلك يزود هذا القسم الفريقَ بالمعلومات ويجيب عن أسئلتهم حول ما يحتاجونه في صناعة المحتوى، لكنه لا يتدخل في كيفية إنشائه أو ما يجب تحميله.
تحرُّك جديد
في أبريل/ نيسان 2023، أعلن وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي إيلي كوهين العمل على إطلاق مشروع يروج للاحتلال الإسرائيلي، يحمل اسم “السفراء الرقميون”، وهو مشروع بمثابة مرحلة ثانية من مشروع “المحاربون الرقميون”، حيث يستهدف هذا المشروع تحسين صورة الاحتلال.
سيعمل هذا المشروع الجديد، الذي سيشرف عليه كوهين، على توظيف 6 إسرائيليين على شبكات التواصل الاجتماعي لتعزيز مواقف دولة الاحتلال، بهدف محاربة المنظمات التي تقاطعها حول العالم.
كما سيكون المرشح الأول لهذا الموقع الجديد الكاتب الصحفي يوسف حداد، وهو فلسطيني من الـ 48 انخرط في العمل مع جيش الاحتلال وقاتل في لواء غولاني، ويتبنّى مواقف الاحتلال باستماتة ودون تحفظ، وقد بدأت وزارة الخارجية تجري اتصالاتها معه باتجاه انخراطه في المشروع.
من الدوافع التي وجّهت الخارجية الإسرائيلية لهذا المشروع ما تكتسبه شبكات التواصل الاجتماعي من زخم كبير في التسويق للمواقف السياسية والدبلوماسية، مع قدرتها على الوصول إلى جمهور من ملايين المشاهدين حول العالم، لا سيما مع امتلاك وزارة خارجية الاحتلال 100 سفارة حول العالم.
كذلك، يكشف هذا المشروع الدعائي الإسرائيلي الجديد عن التحدي الذي يواجهه الاحتلال الإسرائيلي في العالم الافتراضي، ما يجعله يستعين بمؤثرين عبر مواقع التواصل الاجتماعي لمواجهة الرواية الفلسطينية.
من أجل ذلك، نظّم الصندوق القومي اليهودي ووزارة الخارجية حملة دعائية من مجموعة من نشطاء شبكات التواصل الإسرائيلي ممّن أجروا جولات سياحية، في محاولة لاستعادة زخم تأييد الاحتلال، من خلال استخدام شعبيتهم على منصة تيك توك تحديدًا، وتتركز مهمتهم في الرد على المنشورات المعادية لـ”إسرائيل” وتخفيض العداء ضدها.