يسعى كل من الجيش وقوات الدعم السريع اللذين يتقاتلان بضراوة منذ 15 أبريل/نيسان هذا العام، إلى السيطرة على الفضاء العام في السودان دون أي قيود، بما في ذلك محاولات السيطرة على قطاع الإغاثة في الوقت الذي تزداد فيه معاناة ملايين السودانيين، ما يُشكل مخاطر كارثية على مستقبل السلم الاجتماعي.
تسبب نزاع الجيش والدعم السريع الذي امتد في بقاع شاسعة من السودان، في أسوأ أزمة إنسانية في تاريخ البلاد وهي على أعتاب أن تصل إلى مرحلة الكارثة، إذ تقول الأمم المتحدة إن 20.3 مليون شخص يمثلون 42% من سكان السودان يعانون من الجوع الشديد، منهم أكثر من 6.2 مليون فرد على بعد خطوة من المجاعة.
وبينما خططت الأمم المتحدة لتقديم مساعدات إنسانية إلى 18.1 مليون شخص من أصل 24.7 مليون فرد بحاجة للمساعدة، فإنها لم تستطع الوصول إلا إلى 3 ملايين شخص فقط، وفقًا لمديرة قسم العمليات والمناصرة في مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إديم وسورنو.
يوضح حديث إديم حجم الفجوة الهائلة في إغاثة السودانيين الذين بات كثير منهم يتناولون طعامًا ذا جودة تغذوية منخفضة، بعد أن فقد الملايين وظائفهم وأعمالهم وممتلكاتهم جراء الحرب، في وقت ترتفع فيه أسعار السلع الغذائية في الأسواق.
“أشعر بالخوف عندما أرى عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي في السودان. لكن مع كل عمل إنساني يتم إنجازه، أستعيد ثقتي في القدرة على تحقيق سودان خالي تمامًا من الجوع. “
يواصل عمار الشيخ، عامل إنساني في برنامج الأغذية العالمي، دعم الأشخاص الأكثر احتياجًا في #السودان. pic.twitter.com/WrHnK1JqAb
— UN OCHA Sudan (@UNOCHA_Sudan) August 14, 2023
تأمين الإمداد الحربي تحت الغطاء الإنساني
بدلًا من أن يعمل الجيش والدعم السريع على إنهاء النزاع بأقل الخسائر الممكنة عبر حل الخلافات سلميًا، يسعيان إلى فرض الهيمنة على قطاع الإغاثة والتضييق على المتطوعين الذين يقدمون المساعدات إلى الفارين من الحرب في مراكز الإيواء المؤقتة، ضاربين بمعاناة ملايين السودانيين عرض الحائط.
في 13 أغسطس/آب الحاليَ، قرر قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي”، إنشاء وكالة للإغاثة والعمليات الإنسانية، تعمل على توفير وتسهيل وصول الإغاثة وتيسير وتنسيق العمليات الإنسانية في المناطق التي يُسيطر عليها الدعم السريع.
لم يكتف حميدتي بمنح الوكالة مهام توفير الإغاثة في العاصمة الخرطوم ودارفور وكردفان فقط، بل منحها صلاحيات مطلقة تتمثل في إصدار تصاريح لعمل المنظمات المحلية والدولية الراغبة في العمل بالمناطق الواقعة تحت سيطرة قواته، إضافة إلى تقديم الخدمات لجرحى وأسرى الحرب وتعزيز حقوق الإنسانية وتحسين أنظمة الحماية الاجتماعية.
بداية، لا يمكن الوثوق في نوايا قوات الدعم السريع، فهي لا تتوانى عن ارتكاب أعنف المجازر في سبيل تحقيق غاية قائدها المتمثلة في السيطرة على السودان، إذ تُلاحقها اتهامات بارتكاب انتهاكات فظيعة تشمل القتل والإخفاء القسري والعنف الجنسي المتصل بالنزاع واحتلال منازل المدنيين والمنشآت المدنية.
يقول الصحفي فائز الشيخ إن إنشاء قوات الدعم السريع وكالة للعمل الإنساني يعني عمليًا إشرافها على عمل المنظمات الوطنية والدولية، فيما يفترض أن تتدفق الإغاثة عبر الموانئ البحرية التي تخضع لسيطرة الجيش وعبر نقاط حدودية مع دول الجوار، وبالتالي وضع العمل الإنساني تحت دائرة الصراع المباشر.
يضيف أيضًا أنه من الضروري إنشاء مراكز إيواء خارج دوائر العنف وتحويل ثقافة توزيع الإعانات إلى ثقافة إنتاجية بدعم الزراعة والمشاريع الصغيرة والطاقة المتجددة والصحة والتعليم والأنشطة التجارية، ما يساهم في إمكانية بروز تجمعات سكانية تجعل الأرياف جاذبة ومتحررة من التبعات السلبية لسيطرة الدولة المركزية.
وأوصى مؤتمر عُقد في عاصمة توغو لومي، ضم قيادات من إقليم دارفور غرب السودان، بإعادة عمل مطار ولاية غرب دارفور التي خضعت بصورة شبه كاملة لسيطرة الدعم السريع، بعد قتال عرقي ضارٍ بين مليشيات القبائل العربية وقبيلة المساليت، أجبر مئات الآلاف على مغادرة منازلهم واللجوء لدولة تشاد.
إن سعي الدعم السريع للسيطرة على الإغاثة لا يأتي في سياق تحسين صورتها أمام الرأي المحلي والدولي فقط، وإنما – وهذا الراجح – تريد التحكم فيها وتوجيهها إلى المجتمعات التي تؤيدها، إضافة إلى تأمين الإمداد العسكري من حلفائها مثل الإمارات تحت غطاء العمل الإنساني.
قيود مستمرة فيما تزداد المعاناة
يضايق الجيش المتطوعين الذين يقدمون المساعدات إلى مراكز الإيواء في المدن، فيما ترفض الحكومة – الخاضعة لسيطرة الجيش المطلقة – منح تأشيرات دخول لموظفي المنظمات الدولية.
ولم تستجب السلطات، حتى الآن، إلى نداء مشترك من 46 منظمة دولية أطلقوه في 23 يوليو/تموز، يتعلق بحل مشاكل طلبات التأشيرات المعلقة التي تزيد على 110 طلبات، إلى جانب تسهيل وصول المساعدات الإنسانية وإخطارات السفر والموافقات.
كما أبدت منظمة أطباء بلا حدود في 7 أغسطس/آب، خشيتها من اضطرارها إلى سحب دعمها من المستشفى التركي في العاصمة الخرطوم، نظرًا لقرب انتهاء ميقات تأشيرات فريقها العامل في المستشفى ورفض السلطات منح فريق الطوارئ الذي يضم جراحين وممرضين ومتخصصين آخرين تأشيرات.
وتقول إن السلطات تمنح موظفيها تأشيرة دخول لمدة شهرين فقط مع إمكانية التجديد لشهر إضافي، إذا كان الشخص قادرًا على الذهاب إلى مدينة بورتسودان شرق السودان، إذ أعطت فريقها الذي يعمل في المستشفى التركي سبع تأشيرات فقط منذ أبريل/نيسان 2023، بينما تتلكأ في منح تأشيرات لموظفيها في المشاريع الأخرى.
وبالتزامن مع الممانعة في إصدار تأشيرات دخول المنظمات الإنسانية، تمارس السلطات تضييقًا ممنهجًا على المراكز التي تأوي الفارين من القتال بشتي السبل، رغم أنها لا تقدم لهم أي نوع من المساعدة، كما أمر جهاز المخابرات العامة ومفوضية العون الإنساني، في أحدث تضييق، النازحين من مناطق الحرب إلى مراكز الإيواء في مدينة سنجة بولاية سنار وسط السودان، بإخلاء بعضها، دون التواني عن استخدام القوة في تنفيذ هذا القرار، بحسب تقرير نشرته صحيفة الجريدة.
ويقول التقرير: “بسبب هذه المضايقات تركت أعداد كبيرة من القادمين مدينة سنجة والذهاب إلى الولايات المجاورة الأخرى، بحثًا عن الأمل والأمان أو العودة إلى بيوتهم ومواجهة الموت”.
وتوجد في المدن الآمنة مئات المراكز التي تأوي قرابة 3 ملايين نازح، كثير منهم لا يجد أسرة للنوم عليها حيث يفترشون الأرض دون أغطية، كما أنهم يعتمدون على المتطوعين في الوجبات اليومية، علاوة على أن المراكز نفسها تعاني من مشاكل تتعلق بالصرف الصحي، ما يثير مخاوف من حدوث أوبئة.
تمضي الأوضاع نحو التدهور
لا شك أن نظرة ملايين السودانيين الذين يعيشون أوضاعًا حرجة إلى سعي طرفي الحرب التحكم في آليات توزيع الإغاثة على قلتها، ستزيد من حالة الانقسام الحاد التي تعيشها البلاد، ما يجعلهم مهيأون للانخراط في العنف سواء بالانضمام لأحد أطراف النزاع أم تكوين مليشيات خاصة.
والتفسير الأكثر ترجيحًا لسعي الجيش والدعم السريع الهيمنة على قطاع الإغاثة، هو استخدامها كسلاح حرب تُعطى لمن يُساندهم وتُمنع عمن يرون أنهم ضدهم، وبالتالي استغلالها لإحداث مزيد من الاستقطاب الأهلي، ما يضيف إلى القتال تعقيدًا جديدًا السودان في غنى عنه.
وبحلول اليوم، دخلت حرب الجنرالات شهرها الخامس، ومع اشتداد العنف والاستقطاب القبلي بات التمنى الآن عدم تدهور الأوضاع التي تكاد تُلامس الهاوية خاصة أن الضغوط المحلية والدولية الرامية إلى إنهاء النزاع سلميًا لا تزال متعثرة.