تحتضن العاصمة المصرية القاهرة الثلاثاء 15 أغسطس/آب 2023 الاجتماع الأول لـ”لجنة الاتصال الوزارية العربية” الخاصة بمواصلة الحوار مع النظام السوري، وذلك بعد ثلاثة أشهر من تشكيلها، بمشاركة وزراء خارجية كل من سوريا والسعودية والأردن والعراق ومصر ولبنان، حسب ما أعلنته صحيفة “الوطن” الموالية للنظام السوري.
الصحيفة السورية أشارت إلى أن وزير خارجية نظام الأسد، فيصل المقداد، الذي وصل القاهرة مساء أمس الإثنين 14 أغسطس/آب أجرى لقاءً مع نظيره المصري سامح شكري بمقر وزارة الخارجية المصرية التي قالت في بيان لها: “مشاركة المقداد في اجتماع لجنة الاتصال الوزارية العربية المعنية بسورية، لعقد جلسة مباحثات بشأن التطورات السورية، تأتي على خلفية استئناف سورية لشغل مقعدها في جامعة الدول العربية”.
وفي مايو/أيار الماضي وضع وزراء خارجية دول عربية في العاصمة الأردنية عمّان، أسس مبادرة عربية من أجل حلحلة الأزمة في سوريا، تقوم على أساس تبادل خطوات التقارب بين النظام السوري والدول العربية، وذلك عبر إنهاء العزلة وتطبيع العلاقات مقابل “إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وتأمين العودة الآمنة والطوعية للاجئين، وحماية المدنيين، والسماح بوصول المساعدات من دون أي عوائق إلى كل المناطق”.
يأتي هذا الاجتماع وسط أجواء ضبابية في مسار تطبيع العلاقات العربية مع نظام الأسد، والحديث عن فتور في العلاقات بين الطرفين، جراء تقاعس النظام السوري عن الوفاء بالالتزامات التي قطعها على نفسه استجابة لمبادرة “خطوة بخطوة”، رغم ما تزعمه بعض وسائل الإعلام بأن هناك أجواءً إيجابية تسبق الاجتماع.
أجواء ضبابية
صحيفة “الوطن” المحسوبة على نظام الأسد نقلت عن مصدر دبلوماسي عربي قوله: “هناك أجواء إيجابية تسبق الاجتماع، حيث تريد البلدان العربية المشاركة، أن يكون تحركها جماعيًا وليس فرديًا بحيث تتمكن من إيصال رسائل إيجابية للغرب بضرورة الإسراع في معالجة الأزمة السورية ورفع العقوبات لما تسببه من تداعيات كارثية على الشعب السوري”.
وأضافت على لسانه “لا صحة لكل ما يشاع وينشر حول وجود عوائق تشوب العلاقات السورية – السعودية، حيث لا تزال السعودية مصممة على أن تكون عودة سورية إلى جامعة الدول العربية فعلية وليست شكلية، وأن يكون للعرب الدور الأكبر في مساندة سورية، مع التأكيد على أن دمشق سبق وأكدت أنها منفتحة على كل المبادرات لا سيما العربية منها، وهي ترحب بكل خطوة تدعم الجهد العربي في هذا الإطار”.
ويستند هذا المصدر في حديثه على ما أسماه “تحركات النظام” التي سبقت الاجتماع، في إشارة إلى شنه – بعد اجتماع عُقد في 23/7/2023 بعمّان، بهدف مكافحة تهريب المخدرات على الحدود بين الأردن وسوريا – حملة تمشيط على الحدود مع الأردن لمكافحة تجارة المخدرات.
تلك الأجواء تنسفها بشكل أو بآخر التصريحات التي أدلى بها رأس النظام، بشار الأسد، خلال المقابلة التي أجرتها معه قناة “سكاي نيوز عربية” في العاصمة دمشق، وبُثّت في 9 أغسطس/آب الحاليّ، وألمح فيها بشكل ضمني إلى عدم جدية تعاطيه مع المبادرة العربية لحل القضية السورية (الخطوة مقابل خطوة).
الأسد في المقابلة أكد أن علاقات بلاده مع الدول العربية لم تشهد أي تغير عقب عودة نظامه للجامعة العربية في مايو/أيار الماضي، في القمة التي استضافتها السعودية في مدينة جدة، وحين سئل عما يتوقعه من البلدان العربية بعد تلك الخطوة قال: “لا أستطيع أن أتوقع، أستطيع آن أمل”، في إشارة إلى أن واقعيًا ليس هناك جديد وكل ما يتمناه بشأن تطبيع كامل للعلاقات هي مجرد آمال فقط.
وأعاد رأس النظام السوري تأكيده على تلك الجزئية، مستبعدًا أي عودة للعلاقات في القريب العاجل، حين أضاف: “من غير المنطقي والواقعي أن نتوقع أن هذه العودة، وهذه العلاقات التي بدأت تظهر بشكل أقرب إلى الطبيعي ستؤدي إلى نتائج اقتصادية خلال أشهر، هذا كلام غير منطقي”، هذا بخلاف هجومه الشديد على تركيا وحماس وبعض القوى التي اتهمها بالتسبب فيما تشهده سوريا اليوم من فوضى.
خطوة بخطوة.. اختراقات بالجملة
المتابع لسلوكيات النظام السوري خلال الأشهر الثلاث الماضية منذ الإعلان عن المبادرة العربية “خطوة مقابل خطوة” المعنية بتقديم الدول العربية خطوات نحو التقارب مع النظام السوري في مقابل خطوات يجب على النظام أن يقدمها هو الآخر بشأن عدة قضايا محورية أبرزها: “تهريب المخدرات وحبوب الكبتاغون وضرورة عودة اللاجئين ودفع مسار الحل السياسي الخاص بسوريا إلى الأمام، يجد أن النظام لم يقدم أي خطوة متقدمة في هذا الشأن.
وعكس أداء النظام بشأن تلك الملفات إصرارًا واضحًا على المضي قدمًا في المسار القديم، ضاربًا بعرض الحائط كل المبادرات والخطوات التي قدمتها العواصم العربية لإنهاء عزلة النظام وعودته مرة أخرى للجامعة العربية، وهي الخطوة التي قلل الأسد من شأنها خلال حواره مع القناة الإماراتية حين قال: “العلاقة مع الدول العربية ستبقى شكلية، والجامعة العربية لم تتحول إلى مؤسسة بالمعنى الحقيقي”.
القضية الأولى: تهريب المخدرات
حسبما يقول مدير “الطريق الثالث للاستشارات الإستراتيجية” في الأردن، عمر الرداد، فإن عمليات تهريب حبوب الكبتاغون من سوريا إلى الأردن ومنها إلى دول الخليج لا تزال مستمرة حتى اليوم، وأن النظام السوري يناور بهذا الملف للتهرب من المسؤولية.
وكانت السعودية قد أحبطت في 25 أبريل/نيسان المنصرم كميات كبيرة من الحبوب المخدرة المخبأة داخل شحنة من فاكهة الرمان، ورغم أنها لم تعلن عن مصدر تلك الشحنة، فإن الكثير من التقارير كشفت أن دول الخليج أصبحت أكبر أسواق المواد المخدرة السورية في الشرق الأوسط، وأنها تأتي بالضرورة من لبنان والأردن القادمة إليهما من الأراضي السورية.
الواقع يقول إن نظام الأسد من الصعب التخلي عن فكرة تجارة المخدرات التي ظلت طيلة السنوات الماضية أحد أبرز الركائز التي استند إليها لتمويل الإنفاق العسكري ضد المعارضة والتغلب على العقوبات الدولية المفروضة عليه، وتشير التقارير إلى أن النظام السوري أنتج خلال عام 2021 كميات من الكبتاغون تبلغ قيمتها 30 مليار دولار، تم تهريبها بواسطة الفرقة الرابعة المدرعة التي يقودها ماهر الأسد بالتنسيق مع “حزب الله”.
ومن هنا فإن إلقاء ورقة مهمة كهذه من أيدي النظام السوري مسألة صعبة تحتاج إلى مصدر اقتصادي أقوى لتعويضه، وهو غير متاح الآن، رغم خطوات التقارب مع الدول العربية التي يعلم الأسد جيدًا أنه لن يحصل منها إلا على القليل بما لا يتناسب مطلقًا مع المصدر الأساسي للاقتصاد السوري، وعليه سيظل هذا الملف أحد الملفات الشائكة التي تعرقل أي تطبيع محتمل بشكل كامل.
القضية الثانية: التسوية السياسية
رغم الموافقة الأولية الضمنية على ما جاء في المبادرة العربية المعلن عنها في مايو/أيار الماضي بشأن التسوية السياسية وإطلاق سراح المعتقلين وفتح آفاق التشاركية بين شتى أطياف العمل السياسي في سوريا، فإن الموقف الرسمي المعلن من النظام يتعارض شكلًا ومضمونًا مع تلك الموافقة.
الأسد في حديثه لـ”سكاي نيوز” قال: “المعارضة التي يعترف بها هي المعارضة المصنّعة محليًا لا المصنعة خارجيًا”، في إشارة منه إلى عدم اعترافه بالمعارضة السورية الحاليّة، وعليه ضرب بالمبادرة عرض الحائط، خاصة أن المباحثات التي قادتها الدول العربية شارك فيها بعدة مسارات بعض الأطراف المنسوبة للمعارضة في الخارج.
الأمر كذلك بشأن إطلاق سراح المعتقلين وعودة اللاجئين، حيث لم يقدم النظام أي بادرة بشأن تلك المسألة، متشبثًا بموقفه المتعنت إزاء المعارضين له في الداخل، متهمًا دول الجوار باحتضانهم وصناعتهم، ومن ثم فهم بعيدون تمامًا عن أفق الحل السياسي بحسب رأيه، وهو ما ينسف المبادرة العربية من أساسها.
القضية الثالثة: النفوذ الإيراني
أحد الأهداف الرئيسية التي ساقها البعض لتبرير التطبيع مع نظام الأسد رغم جرائمه وانتهاكاته بحق الشعب السوري، الموثقة بالصوت والصورة وبالتقارير الإقليمية والدولية، هو التصدي للنفوذ الإيراني داخل الأراضي السورية، ومحاولة احتواء دمشق قبل أن تنخرط بشكل أعمق من ذلك في أحضان الإيرانيين.
لكن الواقع يسير عكس اتجاه البوصلة العربية في تلك المسألة، فبينما كان العرب يصفون ما حدث من تطبيع مع الأسد على أنه انتصار عربي وهزيمة لطهران، يرى الإيرانيون أن ما حدث من تطبيع مع دمشق بعد كل تلك السنوات من القطيعة هو انتصار لها كذلك.
الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، في 3 مايو/أيار الماضي، وفي عز احتفالات العواصم العربية المطبعة مع الأسد بانتصارها السياسي الكبير، زار دمشق، وهي الزيارة الأولى من نوعها منذ 2010، وأمام مقام “السيدة زينب” في ريف دمشق (جنوب) خاطب رئيسي الجماهير المحتشدة التي رفعت أعلام سوريا وإيران معًا قائلًا: “أقول لكم رجال ونساء المقاومة إن سوريا صمدت 12 عامًا وانتصرت، واليوم سنحتفل بالانتصار معًا بجانب مرقد السيدة زينب (عليها السلام)، وبأن سوريا ستُبنى بأيديكم، وكل الدمار سيتحوَّل إلى مبانٍ خالدة، وكما كنا بجانبكم في الأوقات الصعبة، سنكون بجانبكم في إعادة الإعمار”.
وخلال الزيارة وقع رئيسي العديد من اتفاقيات التعاون مع النظام السوري، في إشارة واضحة لا تحتاج إلى تفسير، بأن النفوذ الإيراني مستمر وأنه يسير في طريق المزيد من التعمق والتوغل، هذا بخلاف استعراض القوة الإيرانية والإعلان بشكل أو بآخر بأن طهران انتصرت على المحور المناهض للنظام السوري، وذلك ردًا على الانتصار العربي المزعوم بشأن استهداف تقليص هذا النفوذ من خلال التطبيع مع النظام الأسدي.
العقبة ذاتها مع النفوذ الروسي المتغلغل داخل الأراضي السورية التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى ساحة المعركة الأهم لدى موسكو في حرب نفوذها الشرق أوسطي، وبالتالي من الصعب التخلي عنها بعدما أصبحت قاعدتهم الأهم في البحر المتوسط، رغم التحفظات العربية المحتملة على هذا الوجود بعد تطبيع العلاقات مع نظام الأسد وفرض الحل السياسي لإنهاء الأزمة برمتها.
عقبات تعيق المسار
حتى لو استجاب نظام الأسد لبنود المبادرة العربية والتزم بها حرفيًا فإن دمجه في الحضن العربي لن يكون بالسهولة المتوقعة، فهناك العديد من العقبات التي تجعل عملية الدمج غاية في الصعوبة، أبرزها الموقف الغربي الصارم إزاء نظام الأسد وعدم استساغة تعويمه إقليميًا ودوليًا بتلك السهولة.
علاوة على ذلك فإن العقوبات الأمريكية المفروضة على النظام وأبرزها قانون قيصر الذي يقيد التعاملات التجارية والاقتصادية لأي كيان أو فرد تابع للنظام السوري ويضعه تحت مقصلة العقوبات والاستهداف، ستدفع العواصم العربية للتفكير أكثر من مرة قبل تعويم النظام اقتصاديًا والتعامل معه كما كان الوضع قبل 2011.
ومن هنا يميل الخبراء والمحللون إلى أن الاجتماع الأول للجنة الوزارية العربية لن يختلف عن المواقف السابقة، وأنه لن يتجاوز حاجز الوعود الدبلوماسية والكلمات المعسولة، حسبما ذهب الكاتب والناشط السياسي السوري، حسن النيفي، الذي استند في هذا الرأي إلى عدد من المعطيات التي “تشير إلى نوع من الانكفاء العربي في الخطوات اتجاه النظام السوري”، منها أن الأسد “لم يعط وعودًا قطعية بأنه سيتخذ خطوات لحل القضية السورية أو الحد من تجارة الكبتاغون”، وأنه في كلمته بقمة جدة “لم ينم حديثه عن أي شعور بحسن النية”، متوقعًا أن وزير خارجية النظام “سيعيد تكرار الحديث المتعلق بمئات الخطوات، فيما سيجدد المطالبة بالأموال والمزيد من الابتزاز”.
بات من الواضح وبعد 3 أشهر من التجربة أن نظام الأسد يريد التطبيع دون تقديم أي تنازلات، وقد أثبتت التجربة السياسية على مدار عدة سنوات أن تعويم الأسد سياسيًا مسألة مرهونة بأولويات النظام القائمة في الأساس على عدة ثوابت أبرزها العلاقات الحميمية مع طهران وموسكو والارتكاز على تجارة المخدرات كمورد اقتصادي محوري، وهي المرتكزات التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتنازل عنها النظام بسهولة، حتى لو كان الثمن البقاء على حالة العداء مع الجيران العرب.