لم توقف الحركة الشعبية ـ شمال التي يقودها عبد العزيز الحلو، محاولات السيطرة على مناطق جنوب كردفان والنيل الأزرق، وذلك منذ يونيو/ حزيران الماضي، مستغلة انشغال الجيش بالحرب مع قوات الدعم السريع المستمرة من منتصف أبريل/ نيسان 2023.
حالف الحركة بعض النجاح في السيطرة على مناطق عديدة بولاية جنوب كردفان، فيما فشلت في بسط سيطرتها على عاصمة الولاية الإدارية كادقلي، وهو الفشل ذاته الذي لازمها في النيل الأزرق.
وتدور اشتباكات عنيفة بين الجيش والحركة منذ يوم الاثنين 14 أغسطس/ آب الحالي، في محيط كادقلي من الاتجاهات الشرقية والغربية والجنوبية، بالتزامن مع انقطاع خدمات الاتصالات الصوتية والإنترنت.
مسألة وقت
تحيط بمدينة كادقلي، التي تبعد عن العاصمة الخرطوم نحو 589 كيلومترًا، سلسلة من الجبال، ما يصعّب السيطرة عليها عسكريًّا إلا عبر حصار محكم مع ضمان عدم التدخل الحربي، لكن يمكن إخضاعها من خلال عملية نوعية تخترق مدخلها الوحيد، شريطة أن يجد من يريد السيطرة عليها مؤيدين له داخلها، ومن المؤكد أن الحركة تمتلك الكثير منهم.
توقّع مسؤول رفيع في حكومة ولاية جنوب كردفان، تحدث إلى موقع “بيم ريبورتس“، سقوط مدينة كادقلي في أي لحظة تحت يد مقاتلي الحركة الشعبية التي، حسبما قال، تحاصر المدينة.
المعضلة الأكبر التي ستواجه الحركة هي احتلال كادقلي بحكم تضاريسها الجغرافية التي تشكّل حماية لها، لكن إن نجحت في هزيمة الجيش داخل المدينة، فإن سيطرتها على بقية ولاية شمال دارفور تبقى مسألة وقت
وتحدّث والي جنوب كردفان محمد إبراهيم، خلال زيارته مركز إيواء يوم الثلاثاء 15 أغسطس/ آب الجاري، عن تمكُّن الجيش والأجهزة الأمنية من صدّ هجوم الحركة الشعبية، داعيًا قائدها عبد العزيز الحلو إلى تحكيم صوت العقل ومراعاة الآثار المدمِّرة للحرب، واللجوء إلى الوسائل السلمية لتسوية قضايا المنطقة على منبر التفاوض.
وأتت الاشتباكات التي وُصفت بأنها الأعنف من حيث كثافة النيران والرقعة الجغرافية، بعد أن بسطت الحركة سيطرتها على أغلب قواعد الجيش في محيط كادقلي، حيث دفع القتال سكان عدد من أحياء المدينة، خاصة حجر المك وتقو وتلو والكوز، إلى الفرار من منازلهم.
ونشرت الحركة الاحتجاجية السلمية تقريرًا يقول إن الاشتباكات التي دارت بين الجيش وقوات الحركة استمرت طوال صباح ونهار يوم الاثنين، بالتزامن مع قصف الجيش مواقع تمركز مقاتلي الحركة من داخل قاعدة الفرقة 14 وقاعدة سلاح المدرعات، لمنع تقدمهم إلى داخل المدينة.
ويشير إلى أن قوات الحركة تمركزت في جبال حجر المك، ما يؤكد مضيّها قدمًا في السيطرة على العاصمة الإدارية لولاية جنوب كردفان، التي تعرَف أيضًا بإقليم جبال النوبة.
تقع ولاية جنوب كردفان في حزام السافانا الغنية، وهي منطقة زراعية تنتج عدد من المحاصيل بما في ذلك الصمغ الحربي، إلى جانب إنتاجها الوفير من المواشي، إضافة إلى وجود بعض الصناعات الخفيفة فيها مثل الغزل والنسيج والصابون ودباغة الجلود.
وفي صباح الثلاثاء 15 أغسطس/ آب الجاري، شنّت الحركة الشعبية هجومًا واسعًا على منطقة دلامي من محورَين، قاد إلى مقتل جنديَّين من قوات الاحتياط التابعة للجيش، وأُجبر عدد من سكانها على الفرار من القتال الضاري، بينما فضّل بعضهم الاختباء في كهوف الجبال والوديان.
وتسيطر الحركة على بعض المناطق الواقعة بين الدلنج وكادقلي مغلقة الطريق البرّي الذي يربط المدينتَين منذ أواخر يوليو/ تموز الفائت، وتقول الحركة الاحتجاجية إن قطع الطريق يشكّل حصارًا على عدد كبير جدًّا من المدنيين، كما يهدد أمنهم الغذائي والصحي وقطع الخدمات عنهم، إلى جانب تأثيراته الاقتصادية على المزارعين.
ربما تنجح قوات الحركة في السيطرة على كثير من مناطق جنوب كردفان، غير أن المعضلة الأكبر التي تواجهها احتلال عاصمتها الإدارية بحكم تضاريسها الجغرافية التي تشكّل حماية لها، لكن إن نجحت في هزيمة الجيش داخل كادقلي فإن سيطرتها على بقية الولاية يبقى مسألة وقت.
ما هي الحركة الشعبية؟
تأسّست الحركة الشعبية ـ شمال قبل انفصال جنوب السودان بفترة قصيرة، على يد عبد العزيز الحلو ومالك عقار وياسر عرمان، قبل أن تنشق إلى حركتَين عام 2017 إثر خلافات داخلية، وقّع الأول اتفاق سلام مع حكومة الانتقال ولاحقًا انشق إلى فصيلَين، أحدهما بقيادة عقار الذي يشغل حاليًّا منصب نائب رئيس مجلس، والآخر برئاسة عرمان.
وقبل أن يضرب الانشقاق الحركة، خاضت قتالًا في جنوب كردفان والنيل الأزرق ابتداءً من يونيو/ حزيران 2011، استطاعت عبره السيطرة على مناطق واسعة من جنوب كردفان، أقامت فيها حكمًا مدنيًّا تحت حماية قواتها التي تطلق عليها اسم الجيش الشعبي.
تمضي أوضاع السودان، في أكثر السيناريوهات تفاؤلًا، إلى أن يصبح جزرًا معزولة، كل منطقة فيه تخضع لمن يفرض سيطرته عليها.
تعثّر التفاوض الذي أجرته حكومة الانتقال مع فصيل الحركة الذي يتزعّمه عبد العزيز الحلو، بسبب اشتراطاته التي تضمّنت حق تقرير المصير للشعوب حال جرى خرق القانون الأعلى، الذي يقول إنه مبادئ فوق دستورية تتمثل في العلمانية والديمقراطية والاعتراف بالتنوع واحترام حقوق الإنسان وحظر الانقلابات العسكرية.
وطالبت الحركة، خلال التفاوض، بإجراء تغييرات في نظام الحكم ومؤسسة القضاء وإلغاء التشريعات القائمة على أساس ديني، بما في ذلك قانون الزكاة، إضافة إلى تحويل العطلة الرسمية من الجمعة إلى الأربعاء، وتغيير المنهج الدراسي والاعتراف بالملكية العُرفية للأراضي.
وبذلت حكومة الانتقال مساعي جدية لتوقيع اتفاق سلام مع الحركة، من بينها زيارة رئيس الوزراء المستقيل عبد الله حمدوك لمعقل الحركة الرئيسي في كاودا، وتوقيع رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان إعلان مبادئ مع قائدها عبد العزيز الحلو، تضمن فصل الدين عن الدولة، لكن هذه المساعي لم تجد نجاحًا كبيرًا.
هل يصبح السودان جزرًا معزولة؟
يبدو من سير المعارك العسكرية أن الحركة مصمّمة على فرض سيطرتها على جنوب كردفان، ضاربة بعرض الحائط نصائح رئيس جنوب السودان سلفا كير ميارديت الخاصة بعدم الاشتباك مع الجيش عرض الحائط.
يتوقع أن تقيم الحركة حكمًا مدنيًّا حال أخضعت جنوب كردفان إليها، أي أسوأ من الذي تفرضه في مناطق سيطرتها التي تسمّيها بـ”المناطق المحررة”، دون استبعاد إعلان الانفصال عن السودان وجعله أمام الأمر الواقع.
ولا يرجّح أن تتراجع الحركة عن تنفيذ هجمات على النيل الأزرق في الأشهر المقبلة، رغم الخسائر التي تكبّدتها في الإقليم جراء محاولات السيطرة على بعض أراضيه، وستكون الهجمات الجديدة مدفوعة بنشوة الانتصار الذي تسجّله في جنوب كردفان.
ومع جدية تحركات الحركة الشعبية العسكرية، بدأت تظهر مآلات حرب جنرالات الجيش والدعم السريع سريعًا، إذ من الواضح أن الطرفَين لم يفكّرا في هشاشة أوضاع السودان واحتمالات تفرّقه إلى دويلات من المؤكد أنها ستكون متناحرة في ظل التداخل القَبَلي.
تمضي أوضاع السودان، في أكثر السيناريوهات تفاؤلًا، إلى أن يصبح جزرًا معزولة، كل منطقة فيه تخضع لمن يفرض سيطرته عليها، وهذا أمر لا يشمل الجيش أو قوات الدعم السريع أو الحركة الشعبية فقط، إنما يمتد إلى المسلحين القَبَليين الذين شرعوا في إقامة حواجز لجباية الضرائب من السكان في بعض المناطق.
بعد سنه جنوب كردفان ياخدها الحلو وبعد سنتين النيل الازرق ياخدها عقار ونقعد كل فترة نقسم جزوا https://t.co/BxXGoR5fZh
— وداللواء (@zanaser58) August 16, 2023
ولا شكّ أن هذه الأوضاع ستغري حركات إقليم دارفور المسلحة لاتّباع سياسة ما يعرَف بـ”المناطق المحررة”، إذ بمقدور كل تنظيم مسلح الاستيلاء على مناطق وإعلانها خاضعة له، في ظل تضاؤل أدوار المجتمع المدني وازدياد حدة الاستقطاب الأهلي.