قدرة الصورة، كوسيط خلّاق متجاوز لذاته، على تحمُّل وتكثيف كمّ هائل من التنويعات الميتافورية والبدائل العاطفية، يمنحها لياقة إبداعية تؤهّلها أن تأخذ أشكالًا مختلفة وألوانًا مدهشة غير مألوفة، أو على العكس مألوفة تمامًا لكن مداهِمة للعين بأنماط سردية وحركية، تورّطها في نوبة تأملية تغيّر المألوف وتعرّيه ليستحيل نموذجًا جديدًا بقواعد وأُسُس داخلية ابنة التجربة، كإعادة خلق، أو بلفظة أكثر دقة إعادة اكتشاف لنمط معتاد بلغة بصرية غير معتادة.
تفتح الإعادة هذه بطن الشخصية، وتبتلع المشاهد بموتيفات وتيمات ذات خصوصية، ربما لقطات طويلة متأملة، أو قطعات سريعة خاطفة، كلها تخدم الفكرة الإبداعية العمومية نفسها، بطرق ومنهجيات بصرية مختلفة.
لهذا، السينما البطيئة أو التأملية، وهو مسمّى سطحي، ترسي مبادئها السينمائية الخاصة، ليس لأنها تستهدف فئة معينة، بل لكونها تتعرض للمشاهد بمنهجية تثير لديه محفزات مختلفة، وتفضي إلى تجربة مشاهدة مختلفة تمامًا، لأن مشاهدي تلك الأفلام يتعاطون مع المفاهيم الأساسية والمصطلحات الإنشائية بطرق مجردة، ومتجاوزين التصورات الأولية للأشياء.
سينما جيلان والأزمات الوجودية
التصور السائد عن مصطلح الملل يختلف تمامًا عندما يختبَر داخل نماذج إبداعية، تشتبك مع الملل كسمة جمالية خارج الزمان والمكان، لا تعتدّ بالوقت أو تزان بالأفعال كوحدة قياس لمسافات الزمن، بل يتحول الملل إلى خاصية ودليل للكشف عن الصيغة الإبداعية للفيلم، ليرتفع عن كونه مجرد أداة وصفية يمكن ملاحقة واصطياد الأفلام التجارية بها، إلى موتيف أو تيمة لا يمكن تجاهلها في سينما التركي نوري بيلجي جيلان، كما في سينما تاركوفسكي وبيلا تار، ليصرّح جيلان في أحد مقابلاته مع مجلة The Hollywood Reporter، قائلًا:
“أصبحت الأفلام التي أثارت ضجري في البداية أهم أفلام حياتي… تأتي أهم القرارات في حياتنا بشكل عام بعد أكبر حالات الملل. الملل لديه القدرة على وضع الناس في الحالة العقلية السليمة ليكونوا قادرين على الشعور بأقسى الحقائق. كما قال الفيلسوف الألماني اليهودي والتر بنيامين: “إذا كان النوم هو ذروة الاسترخاء الجسدي، فالملل هو ذروة الاسترخاء العقلي. الملل هو طائر الأحلام الذي يفقس بيضة التجربة””.
يتعاطى جيلان مع التجربة الإنسانية في أوجها من خلال التقاطها في أكثر لحظاتها سكونًا، وتقوم أفلامه على تلك المفارقة بين ما هو خارجي ساكن ووديع وداخلي ملتهب ومعذَّب، فمواضيع جيلان دائمًا تتماسّ مع أزمات وجودية متجاوزة للزمن، يتتبّعها في أكثر أشكالها عادية، بل يؤطرها في أنماط وأطر جمالية تختبر تلك المشاعر بشكل استثنائي.
فالبيئة بصورة غير مألوفة وفي هيئتها الأكثر جمالًا ووداعة، تعكس مشاعر الاغتراب والوحدة والرتابة في صورة شمولية ومحاوطة للمُشاهد والبطل في آنٍ واحد، وأثر صدمات جيلان ممتدّ إلى ما هو أعمق.
فخفته المتناهية على السطح أشبه بكفّ حنون ممتد إلى الوجه بحرارة ودفء ليصفعه، تلك الأصابع الوديعة تنسلّ ببطء وتسهّل من عملية الاختراق، تمرير المشاعر وتفريغها إلى مستوى جذري وجوهري بالنسبة إلى المشاهد، فيصبح مخترَقًا في أكثر مستوياته الحميمية والخصوصية، يحمل عبئًا وجوديًّا ويلمس اغترابًا حقيقيًّا.
تلك الصفة الملغزة التي تلفّ أبطال معظم أفلامه، كشكل من أشكال الانتفاء عن العالم، والاغتراب ذاته كمفهوم يحمل أكثر من معنى عند أكثر من فيلسوف ومدرسة، لكنه مفهوم مرتبط أكثر بالفكر المابعد حداثي، إلى جانب استخدامه الأشهر في النظرية الاجتماعية الماركسية الذي يقدمه في هيئة فقدان الأمل، في استعادة حالة الامتلاء والوفرة الأصلية.
إنه نوع من الانغلاق له مستويات وأبعاد مختلفة ومترسّخة، وبالنسبة إلى دريدا فالمفاهيم الأولية المجردة مثل الأصل والجوهر وغيرها تنتمي إلى الميتافيزيقا، مجرد خرافات تحكم عالمنا، ويرى دريدا أن الاغتراب ليس شيئًا مؤسّسًا في عالمنا، ويقول سايمون سكيمبتون في كتابه “الاغتراب بعد دريدا (Alienation After Derrida)”: “إذا كان الاغتراب مؤسسًا، ليس ثمة اغتراب على الإطلاق، لأن كل شيء مغترب بطبيعته الأولية”.
والحقيقة بالنسبة إلى دريدا أن كل شيء ليس مغتربًا بطبيعته، بل إنه قابل للتفكيك، لكن بالنسبة إلى نوري جيلان، فالاغتراب سمة مؤسسة للفرد والعالم، شيء ضروري وجوهري لبناء الشخصية والإيقاع، ربما لأننا نرى الأشخاص بشكل مبتور عن السياق، لهم ماضٍ لكن لا نعلمه، بل نتورط في الدراما الواقعية المغرقة في الحزن والكآبة.
إذًا، سينما جيلان سينما حالة معينة، تأخذ مئات الأشكال لكنها سمة رئيسية ومؤثر أساسي، ليس في عالم جيلان السينمائي فقط، إنما في العالم الواقعي، يمكن رصدها بسهولة إذا نظرنا حولنا بإيقاع أكثر هدوءًا مثل إيقاع جيلان، فهو يجسّد الخواء الروحي ونزعة الحزن والكآبة العالمية التي يمكن ردّها إلى أسباب كثيرة مقنعة ومختلفة، لذا أزماته متجاوزة، ورغم خصوصية البيئة إلا أن الحكي والمأزق الوجودي ممتدان إلى الجميع.
ما وراء الصنعة
انطلق جيلان من التصوير الفوتوغرافي كهواية، بدأ من الصور المتجمدة الثابتة ثم انتقل إلى ديناميكية السينما، لكنه لم يهجر التقنية الفوتوغرافية بشكل كامل، فأثرها ممتد على أفلامه السينمائية التي قرر التحول إليها بعد دراسته للهندسة، ليستهلَّ مشواره السينمائي بفيلم Koza عام 1995 بالأبيض والأسود.
يحاول جيلان التعرض لأزمات وجودية كونية، من خلال سرد يعتمد في متنه على ما يشبه متوالية من اللقطات الفوتوغرافية، والذي بدوره أصبح أول فيلم تركي قصير يشارك في مهرجان كان السينمائي، ليحقق بعدها بعامَين فيلمه الطويل الأول Kasaba، الجزء الأول من ثلاثيته المعروفة “ثلاثية الريف”.
حقّق جيلان هذا الفيلم بميزانية ضئيلة جدًّا، وأحضر والدَيه وأقاربه ليمثلوا في الفيلم، والحقيقة أن تلك الظروف الإنتاجية واللغة البصرية التي يدير بهما جيلان كاميراته، أظهرتا نوعًا من التأثر بالواقعية الإيطالية الجديدة، بداية من العمل مع ممثلين غير محترفين والتصوير الخارجي، إلى جانب نزعته إلى كل ما هو مصغّر، وميله إلى الواقعية بلقطات ثابتة وهادئة تذكّرنا بالإيراني عباس كيارستمي والياباني ياسوجيرو أوزو، وأيضًا تلمّح إلى الواقعية الإيطالية في المنحى شبه التوثيقي أو التسجيلي للدراما.
والجدير بالذكر أن جيلان تأثر بشدة في طفولته الريفية بقرية يانس، وبشكل ما تتبدّى أفلامه الأولى كحمّى استعادية للماضي، لذا ثلاثية الريف أقرب إلى مقتطفات بصرية من سيرة المخرج، حياته الشخصية، أنماط ذاتية متدفّقة تتعاطى مع العالم بشكل يحمل خصوصية لمخرجه.
فالرجوع إلى مكان النشوء في أصله نوع من الحنين إلى الماضي، حيث التكوين والطفولة وبراءة الأشياء، هو ما يتناوله في فيلمه الطويل الأول Koza في أطوار مختلفة داخل مناخ طبيعي في جذوره الأولى.
ينتمي جيلان إلى ما يمكن إدراجه تحت خانة الدراما الزهيدة (Slight Drama)، وهنا كلمة زهيدة تعني قليلة التكلُّف لترضي هوس جيلان بما يسميه البعض خدعة السينما (The Lie of Cinema) أو العالم البديل المتخيَّل.
يحاول جيلان أن يخلق عالمًا واقعيًّا وأن يمنحه تفردًا شاعريًّا، بحيث تكون المسافة بين الواقع والدراما شديدة الضيق، فإسقاط الدراما على الواقع بالنسبة إلى جيلان شيء ضروري، ما يبرّر استخدامه للقطات الطويلة والبطيئة واستثماره في عامل الملل ليعكس أزمات العالم الحقيقي.
لكنه على الناحية الأخرى يناقض بعض الضروريات في أنماطه السينمائية، فيمنح المشاهد نهايات مفتوحة وغير مرضية، متجاهلًا أن الفكر الحديث والعقلية المشهدية المعاصرة في مناخها المديني، مشبعة بالضرورة كأساس أولي، غير أنه يسمح لقصصه بالامتداد خارج الصورة والفيلم والمنتج الإبداعي، يمنحها البراح المثالي للاستمرارية على أجساد وأراضٍ وعقول أخرى، ما يمنحها قيمة مضاعفة.
ما يثير أكثر في شخصيات جيلان، أنها لا تفتقد إلى ماضيها بطريقة تؤثر على قراراتها الخالية، إنها ابنة اللحظة، صحيح أن الماضي كوّن الشخصية بشكلها الحالي، لكن أهداف الشخصية تكون قريبة المدى، سواء في مستواها الاجتماعي أو الاقتصادي أو حتى النفسي، لكنها في الوقت نفسه تسعى إلى خلاص بعيد المدى، غير مرئي.
حيث كأن تلك الأفعال قليلة الحيلة ستحقق مستقبلًا هادئًا وأكثر سعادة ومرونة، أن يركب يوسف البحر أو يجد وظيفة عادية تضمن وجوده في مدينة ضخمة ومتقلبة مثل إسطنبول في فيلم “بعيد”، أن يجد المفوض ناجي جثة الضحية في “حدث ذات مرة في الأناضول” حتى يذهب للنوم والراحة، أن يتدخل إيدين ويشعر بالقيمة في صغائر الأمور كشخص مثقف في “سبات الشتاء”.
والحقيقة أن شخصية إيدين في “سبات الشتاء” شخصية شديدة التعقيد والطبقات، ولا يمكن اختزالها في مجرد أفعال قصيرة المدى، فهي تمرُّ بأزمة وجود قارسة تحتاج إلى تحليل دقيق، لكنها أيضًا حتى على المستوى الظاهري لا تستدعي لحظات من الماضي بشكل يجعل الحنين جزءًا من الدراما.
نحن نعرف تاريخ الشخصية ونحاول فهمها داخل المساحة الزمنية المتاحة أمام أعيننا، بيد أن شخصية من أجمل شخصيات جيلان تقع خارج هذا التصنيف، شخصية الدكتور جمال بتفردها وهدوئها وانجرافها مع الحدث، لأن الأمر برمّته لا يقع داخل حيز استدعاء الماضي، لكن يمسّ فكرة الصدمات التراكمية ومحاولة فهم العالم ومعرفة المغزى من الحياة.
ما وراء الصورة
طوّر جيلان أسلوب حكي خاصًّا، يقارنه بعض النقّاد بأستاذ اللقطة وعبقري الزمن تاركوفسكي، يرونه كامتداد للأسلوبية والنمط البصري نفسهما، مع تغيرات خاصة لها علاقة بكيفية حكي القصة، ومتعلقة أكثر باستخدام الأدوات.
يخلق جيلان ما يشبه اللقطات الفوتوغرافية، تؤطر الطبيعة شخصياته كأنها تلدها، وتخفيها كأنها تبتلعها، يمسك أوتار الإيقاع بإحكام، يفلته برقّة مثل عقب سيجارة ويلتقطه مرة أخرى كما يلتقط سيجارة من علبة سجائر، وبينهما ينفث الدخان، سماته الجمالية تبرز للعين من اللحظة الأولى، اللقطات الطويلة الواسعة والمركزة، التكوينات الثابتة والتكبير (Zoom) البطيء في اتجاه الوجوه، الإيقاع الهادئ والتقاط أكبر قدر من التفاصيل.
ورغم ديناميكية التوليف وانسياب اللقطات، إلا أن كل لقطة تمثل عالمًا بذاته من البيانات والمعلومات والتفاصيل، أشبه بمرئية شديدة الجمال، بطيئة وليست متباطئة، والحقيقة أن لغة جيلان البصرية تشير دائمًا إلى الجوّاني، تتحرك من الخارج إلى الداخل، وتصور اليومي بنسق متمهّل أصلي، وتحمل القليل من الحركة العلنية، كما تقول الناقدة أسومان سونر، أستاذة قسم العلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة إسطنبول:
“يقدم مزيجًا مميزًا بين واقعية الأسلوب التوثيقي والمرئيات ذات الجمالية العالية، بتصويره تفاصيل دقيقة في الحياة اليومية، تحتوي أفلامه على القليل من الحركة الصريحة… ليخلق رحلات حقيقية أو متخيلة عن العودة إلى الوطن أو هجرانه”.
مع المشاهدات، سيلاحظ المشاهد التقنية التي يعمل بها جيلان في أفلامه الكثير من اللقطات الطويلة المعروضة مثل لوحات فنية (الحقيقة أن هذا النوع من السينما، فضلًا عن أنه يذكرني بتاركوفسكي، لكنه بالطبع يذكّرني بالأستاذ التايواني تساي مينغ ليانغ)، حيث القليل من الحركة والحد الأدنى من الممارسات.
فالفعل الذي يعرّف السيناريو الكلاسيكي ويدفعه إلى الأمام يظهر على استيحاء في أفلام جيلان، بيد أننا منخرطون بشكل مختلف، نلاحظ حركة الشخصيات أو حديثها داخل الإطار، تلك اللقطات مصمَّمة للإشارة إلى أشياء مهجورة، علاقة الشخصية بالبيئة، وعلاقة المشاهد بكلاهما.
التركيز في اللقطات لعدة دقائق يمنح المتفرج صورة ذهنية وتخيلًا عن المناخ العام للحكاية، بل يعكس العاطفة المكنونة للشخصيات وللمكان أيضًا، في أفلام جيلان الطبيعة شخصية مستقلة، والمنزل شخصية مستقلة، إنه يحرك الشخصية داخل الطبيعة.
المهيمن الأكبر على أفلامه، والجدير بالذكر في فيلموغرافيا جيلان المحمّلة بالأسى، أن شخصياته العدمية السلبية المغرقة في السبات لا تشعر بالأسى، أي أنها تفتقد للتراجيديا أو المأساة، وهذا طبيعي حتى إذا استثنينا فيلم “حدث ذات مرة في الأناضول”، فهو لا يخرج عن هذه الدائرة إلا في شخصية الدكتور جمال.
فالجميع لا يمكنه خلق تلك اللحظة من التنوير والمكاشفة، لحظة التطهير، ربما لأن وعي الشخصية بذاتها كشيء معذّب، يفقده القدرة على ابتذال الميلودراما أو تحقيق التعري الدرامي بوعي من الشخصية وبإرادتها الحرة، ربما يتضح هذا أكثر إذا دققنا النظر في اللغة البصرية، هناك دائمًا مسافة بين الموجودات، مسافة بين الكاميرا والبطل، مسافة بين الشخصيات وبعضها -مجازية أو مادية-.
كما أن جيلان مشهور بتصويره لأبطاله من الخلف، حتى إذا توحّدت عين الكاميرا مع عين المشاهد، سيصعب التكهُّن بمشاعر وردود أفعال شخصيات تعطيك ظهرها، والمسافة بين الكاميرا وما يلتقط هي نفسها المسافة بين خيالنا وما يمكن تكهُّنه.
طبيعة السرد هي التتابع والتدفق المستمرَين لأحداث في سلسلة من الأفعال والإجراءات، أي يجب نظمه بطريقة متصلة ومتشابكة حتى يتسنّى تكوين ما يسمّى بالإيقاع والنمط الزمني اللذين ينتقيان ويرتّبان داخله الصور، لنخلق الزمان والمكان المتصلَين، لينتج في النهاية ذلك الشعور المريب والمدهش بالسلاسة والاستمرارية والخداع المحبب للعين والعقل.
يحاول كتاب “The Cinema of Nuri Bilge Ceylan the Global Vision of A Turkish Filmmaker” للمؤلفين بولنت ديكين وكريغ آي هاموند وغرايم غيلوتش، تأويل نظرة علي ريزا تاسكال لجيلان:
“يتخذ تسكال نقطة انطلاقه من مفهوم دولوز عن “الصورة – الزمن”، ويقترح أن فيلم جيلان هو مثال نموذجي عن تحول التجسيد السينمائي من التركيز على الفعل والسرد الخطي (الصورة الحركة، سمة هوليوود على سبيل المثال) إلى الانشغال بمفاهيم المدة والتأمل والفكر والذاكرة”.
“بالنظر إلى السكون الظاهر للأشكال والأشياء والكاميرا نفسها في معظم أجزاء الفيلم، قد يبدو خط تسكال مقنعًا، ويتبدى في ساعة الجيب الفضية التي يبحث عنها محمود، والتي تمثل ملمحًا ثانويًّا في تصاويره الفوتوغرافية الراكدة لمصنع السيراميك، يقترح جيلان عن قصد “صورة زمنية” حرفية تصور الوقت نفسه في حالة توقف تام”.
يرتّب جيلان لقطاته بعناية للوصول إلى تأثيرات معينة مرتبطة بالزمن والمكان، فتكثيف الزمن داخل اللقطات واختزال المشاعر داخل الأمكنة لتنعكس على المشاهد، أشياء لها علاقة بالتوليف والإيقاع، بيد أن الشيء الأعمق والأكثر إثارة في أفلام جيلان هو قدرته على بناء ذروات شعرية.
فالبطء في أوجه -بالنسبة إلى جيلان- هو قمة شعرية مستقلة، لأنه يمنح الوقت الكافي للتركيز والتأمل في عالم أسرع من قدرتنا على الانتباه، تأسيس الميزانسين المشهدي هو إبداع أسلوبي على مستوى أعلى من الصورة الفوتوغرافية والشعر المكتوب، الوصول إلى تأثير بلغه تاركوفسكي وأقرانه شيء ليس بالسهل، بل التفرد عنهم بمنهجية إبداعية مختلفة.
فالتناقض بين السكون والحركة في فيلم “بعيد” مثلًا هو تناقض أشبه بالتناقض الشعري الذي يبرز المعنى، السير والحركة في الشوارع الثلجية في سبات شتوي لا يضيف إلى الشوارع أو المدينة أي شيء، بل يضيف إلى الشخصية، ويكملها بطريقة غير مألوفة، طريقة سينمائية.
فالمفاهيم والخواص مثل تأثير السببية تتجسّد في أنماط مكانية هائلة وبنى مادية، إنها الفرادة والانسيابية في استغلال الزمن، والحقيقة -كما أشار بازوليني أكثر من مرة- أن السينما يمكن أن تلتقط واقعًا غير مقلَّد مرتبطًا بالأحلام والذكرى واللاوعي، إلى جانب المحاكاة الواقعية المحددة بالشكل والقواعد، وهذا بالضبط ما يفعله جيلان.
إنه يلتقط واقعًا غير مقلد لأنه محمّل بأحاسيس من التشوه والارتباك والتفكيك، ومفعم بالتناقض والاغتراب والسلبية، وكل ما يمكن أن يضيفه النمط البصري السينمائي إلى الصورة الفوتوغرافية داخل سياق قصصي محكي، وفي النهاية يمكن أن نقول إن أبطال جيلان يمشون الهوينا على ارتفاعات شاهقة، لا يخشون السقوط لأنهم بالفعل في قعر العالم.