قبل أيام، زار المرزوقي في رمزية عالية، بدا أنها صارت للتأبين، بلدة سيدي بوزيد، حيث ابتدأ كل هذا قبل أربع سنوات، في محاولة أخيرة، لاستكمال الثورة أو الدورة (Revolution).
في مشهد مفعم بالرمزيات، أحرقت البطالة والفقر واليأس بين الشباب والتفاوت الطبقي والمدني نفسها في جسد محمد البوعزيزي، لما لم تستطع أن ترد صفعة الاستبداد السياسي والظلم الاقتصادي والعسكر بيد الشرطية، ناشرًا النار في هشيم جففته سنوات عجاف على امتداد الوطن العربي، معلنًا بدء الربيع، أو حلمه على الأقل.
وبين زيارة المرزوقي وحرق البوعزيزي، يبدو المشهد سورياليًا بائسًا، حين يصل النظام السابق نفسه، مرة أخرى في البلد الأخير، وبعد أربع سنوات من الدم والدمع والدمار، إلى الحكم.
لكن هل هذه هي الصورة الكاملة؟
لم يكن البوعزيزي يتصور حين أحرق نفسه أن يرى خلافة حداثية، تحكم باسم الخلافة وتثبت نفسها بمؤسسات الحداثة ونظمها الاقتصادية، كما لم يتصور يومًا أن هذا الحريق سينتج سلفية ديمقراطية، لا تبيح فقط المشاركة بالحكم، بل والتصوير لأجل الحملات الانتخابية! لكن لعله لم ينتبه كذلك إلى أن عربته كانت منارة نستنير بها فعلاً، لا على طريقة حزب النور، لتصبر الشعوب وتبحث، ثم تكتشف، بالدم مجددًا والدمع، أن حقيقة الممانع أنه إرهابي والثائر انقلابي، وأن الدولة الإسلامية ليست دولة ولا إسلامية؛ متجاوزة العلاقة بين الدال والمدلول لغويًا، وناقلة إياها إلى المسافة بين المبنى والمعنى، حيث الأخير له كلمة الفصل لدى الشعوب.
عندما استشهد البوعزيزي كانت الحدود السياسية إحدى المقدسات، فلم يشهد بعد أربعة سنوات كيف يمكن أن تتمدد دولة وهمية تسمى داعش، أو أن تقسم دولة مثل سوريا إلى دولتين أو أكثر، التي لو اجتمع لاجئوها حول العالم لصنعوا إمبراطورية القرن التي لا تغيب عنها الشمس!
ليس هذا المقدس الوحيد الذي تحطم ولازال يتحطم، بدءًا من تماثيل حافظ الأسد في سوريا، التي لم يكن السوريون أنفسهم يتخيلون أن يصلوها، وانتهاءً بالقذافي نفسه، محطمين صنم السلطة بأقدس رموزها تحطيمًا غير قابل للتراجع، ولعله بعد الموجة الثورية الأولى يحطم صنم الشعب الذي يحتاج أكثر من مجرد النزول إلى الشوارع وإسقاط الأنظمة، لبناء الدول، عند شعوب لازالت تحبو في طريقها نحو ما تؤمن به.
هذه هي الثورة، أن تحطم لتبني، وأن تنتهك لتحترم، وهكذا هو التاريخ، ولعل زهرة الربيع التي لم يصلها الخريف بعد، ولن يصلها لأنها في النفوس والأرواح لا في الميادين والانتخابات وساحات المعارك، هي “أن نتجرأ أن نقول، وأن لا نصدق كل ما يقال”.
لا يكفي حزب الله، مثلاً، ومثله النظام السوري، أن يطلقا بضعة صواريخ على الكيان الصهيوني، في وقت تعيث به سكاكينهما في رقاب الشعوب، كما لا يكفي إيران وأمريكا أن تعلن الأولى باسم الإسلامية عداوة الثانية التي تتبنى الديمقراطية، لنصدق أي منهما، ما دام كلاهما يتقاسمان حكم الأراضي العربية، التي إن تحررت من استعمارها الداخلي، فعليًا أو رمزيًا، فإن معركتها للتحرر من الإمبراطوريات الحديثة العظمى يحتاج منها جهدًا أكبر، كما يحتاج منها جرأة أن تقول إنها أخطأت، وأين أخطأت، فهل كنا لنناقش الخلافة أو الحدود أو الجزية لولا كوارث داعش؟ أو هل كنا لنقول إن أيديولوجياتنا مليئة بالأساطير السياسية والفكرية؟ أو هل كان مجرد الانتقاد أو التفكير به في المجال العام متاحًا وممكنًا بل وحتى متخيلاً؟
علمنا البوعزيزي الثورة، لكنه لم يخبرنا شيئًا عن السياسة التي يمثل انتخاب الرئيس أولى خطواتها، في حين تعد الدولة نظامًا متكاملاً معقدًا، علمنا شيئًا منها: منظر الرئيس المنتخب في السجن، والرئيس المخلوع البريء، وانتخاب النظام القديم، وفي مراحل متقدمة في الفترة الأخيرة، اكتشفنا أن السياسة لعبة أكثر تعقيدًا ولا أخلاقية، فعندما تقصف إيران والسعودية وأمريكا في مكان واحد، وحين ينهار سعر النفط، الذي لو كان بهذا السعر أيام البوعزيزي ربما ما أحرق نفسه، وحين يشهد العالم حالة حراك سياسي بين الأعداء والحلفاء والنقضاء، فعلينا أن نعلم أن انتخاباتنا ليست إلا الجولة الأولى من تغيير نظام عالمي، كلما زاد أطرافه؛ ازدادت تعقيداته وازدادت خساراته وازدادت مفاجآته.
كثير علينا، نحن الشباب الذين أعطينا زهرة شبابنا ليزهر الربيع، بين شهداء ومعتقلين ويائسين ومطاردين، أن نرى كل هذه النكسات خلال هذه المدة القصيرة، وربما لم نكن قد ثرنا من أجل هذه اللحظات التاريخية، لكن علينا أن نعلم أن الأمر الثابت في هذه اللحظة التاريخية هو تغيرها، فهي ليست سوى “لحظة” في “تاريخ” ممتد طويل معقد، ليست مشاكله مجرد عقد أو قرن وحسب، بل تراكم لقيم سياسية وفكرية واجتماعية بدأت بين الصحابة، ولم نجد إجاباتها حتى الآن، لكنها لم تتكرر كما يقول ماركس، بل كانت بسنن الله، التي إن فهمناها انتصرنا، والذي سألته الملائكة عنا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟}، ليقول لهم ولنا، إنه {لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}، فإن لم تكن هذه اللحظة التاريخية التي هرمنا لأجلها، فإن “الجيل اللي شايب وهو شباب”، بحسب حمزة نمرة، يسير في طريق اللحظة التاريخية التي يريد، ولكن {خلق الإنسان عجولا}.