يجرنا حديثنا المتصل عن تاريخ اتصال المسلمين بالغرب [1] إلى التوقف عند العلاقات السياسية والدبلوماسية التي مثلتها السفارات المتبادلة بين الطرفين.
لقد كانت السفارات تاريخيًا أكثر من مجرد وفد يرسله الخليفة، بل كان يحرص صاحب السلطان على أن يرسل الهدايا والطرائف التي تختص بها بلاده، وأحسن ما توصلت إليه صناعاتهم من أدوات وآلات، كما كان يحرص صاحب السلطان إذا استقبل سفيرًا أن يكون مجلسه في النهاية من الفخامة والأبهة والزينة ليقع في قلب السفراء مدى عظمته، فيحقق بالرهبة والهيبة ما يحتاجه في ميدان الحرب والتفاوض.
وفي كثير من السفارات الواردة إلينا في كتب التاريخ كانت تجري بين الوفد وبين البلاط مساجلات دينية وعلمية وأدبية كذلك، فلهذا اقتضت السفارات وجود معرفة بهذه الأمم ولهذا كان السفراء ممن لهم باع في العلوم والفنون والآداب، ومن ثَمَّ وفرت السفارات والعلاقات السياسية مساحة واسعة للمعرفة بالغرب لدى المسلمين، ولئن كان كثير من أنباء هذه السفارات لم يصلنا – سواء لأنه لم يكتب لينشر على الناس، أو كتب وفُقِد – فإنه يكفينا في هذا المقام – الذي نرصد فيه معرفة المسلمين بالغرب – أن نعرف أنها أضافت في حينها معلومات وافرة عن الغربيين ونظمهم وأحوالهم في بلاطهم وكثير من عاداتهم.
وأول ما جاء في هذا الباب وفود النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد صلح الحديبية، فكان منها إرساله دحية الكلبي إلى هرقل ملك الروم، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب مصر، وكان ذلك عام (7هـ)، وحين عرف النبي – صلى الله عليه وسلم – أن الروم “لا يقرؤون كتابًا إلا مختومًا، فاتخذ النبي r خاتمًا من فضة، ونقشه: محمد رسول الله” [2].
ومما يلفت النظر في رسائل النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى هرقل والمقوقس ما ذكره فيها من أنه “عبد الله ورسوله”، ووضعه لآية {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ…} [آل عمران: 64] بينما خلت من ذلك رسائله إلى كسرى وملوك العرب المشركين، وهذا يشير إلى ما تحتمه السفارات من المعرفة المسبقة. وليس أدلّ على ذلك من قوله – صلى الله عليه وسلم – في رسالته لهرقل “فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين” [3]؛ وقد توقف الشُرَّاح عند هذه الكلمة طويلاً واختلفوا هل أراد بها: الفلاحين وعموم أهل الروم، أم هو يقصد أتباع آريوس الذي نادى بالتوحيد ورفض بنوة المسيح، خصوصًا وأن هذه الكلمة لم ترد في رسائله إلى غيره من الملوك، وقد رجَّح هذا بعض العلماء [4]، واستدلوا بأن الأريسيين كانوا أغلبية في مصر باختفاء هذه الكلمة من رسالة النبي إلى المقوقس [5].
وفي عصر الخلافة الراشدة وخلال الفتوحات جرت كثير من السفارات بين المعسكرات، وكانت مهماتها تنحصر في الغالب في الاتفاق على إنهاء القتال، وجرت في هذه السفارات نقاشات وأسئلة متبادلة انصبت على اختلاف الدين وعلى أحكام القتال، واطلع كل فريق على ما لدى الآخر من رسوم وأحوال، ومن أشهر هذه السفارات سفارة عبادة بن الصامت إلى المقوقس في فتوح مصر [6]، والهداية التي روي أن أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وهي زوجة عمر بن الخطاب أرسلتها إلى إمبراطورة الروم فأرسلت إليها الإمبراطورة هدية فاخرة فلم يسمح عمر لها إلا بأخذ المثل وردَّ الهدية إلى بيت المال [7]، ولكن هذا دليل على تكرر المراسلات بين عمر وأباطرة الروم وإن كنا لا نعرف عنها شيئًا [8].
وفي عصر الأمويين زادت وتيرة السفارات مع الفتوح أو مع الاضطرار، فلقد اضطر معاوية في عصر الفتنة أن يصالح ملك الروم على مالٍ ورهائن متبادلة بينهما [9]، وفي أوقات أخرى سجلت كتب الأدب رسائل متبادلة بين معاوية وملك الروم، يسأل فيها ملك الروم مسائل دينية كأحب الكلام إلى الله وما المكان الذي لن تشرق الشمس عليه إلا مرة واحدة وما القبر الذي تحرك بصاحبه [10]، ونحن وإن كنا نشك في أن هذه الروايات موضوعة [11] إلا أنها دليل على وجود رسائل وسفارات متبادلة بين الدولتين، كذلك اضطر عبد الملك بن مروان أن يهادن الروم ليتفرغ لحروب العراق والحجاز قبل أن يستقر له الملك، ثم عادت السفارات في ظل الفتوحات لتكون أقرب إلى بعثات التفاوض حول اتفاقية التسليم أو شروط إنهاء القتال، أو سفارات لتبادل الأسرى، ونرى في بعض هذه السفارات ما يشير إلى معرفة قوية بأحوال الخصوم، وقد سجل المؤرخون مديحًا عظيمًا لإمبراطور الروم في حق عمر بن عبد العزيز وزهده [12].
فلما استقرت حدود الدولة الإسلامية بعد زمن توقف الفتوحات في أواخر العصر الأموي، واستقرت على معارك استنزاف وتوغلات غير حاسمة في العصر العباسي، استمرت السفارات في أداء مهمتها لعقد الاتفاقيات وإنهاء القتال، وإن لم تخلُ من مكرمات ملكية مثل ما جرى بين نقفور إمبراطور الروم وهارون الرشيد؛ إذ ما إن انتهت الحروب بينهما بنصر الرشيد حتى أرسل نقفور يرجو رد أسيرة كان قد خطبها لابنه، فأرسلها الرشيد في الزينة والطيب ومعها أنواع من التحف، فردَّ نقفور بهدية نفيسة: أموال وثياب وطيور وحيوانات [13].
إلا أن الملفت للنظر منذ هذا الزمن هو زيادة مساحة الشؤون السياسية والعلمية في السفارات حينئذ، فقد نجم شأن المسلمين وصاروا كعبة العلوم والمعارف، وقد اشتهر عدد من هذه السفارات منها: سفارة هارون الرشيد وهديته “الساعة العجيبة” إلى شارلمان ملك الفرنجة إلا أن التحقيق العلمي لا يستطيع الجزم بصحتها [14]، ومنها ما رُوِيَ عن سفارة سلام الترجمان من الخليفة العباسي الواثق بالله إلى ملك أرمينية ومنه إلى ملك الخزر لتسهيل مهمة سلام الترجمان لارتياد ما يُظن أنه سد يأجوج ومأجوج [15]، وفي حالة أخرى أرسل الواثق ليستطلع ما يُظن أنه الرقيم حيث كهف أهل الكهف [16]، ومنها سفارة ابن فضلان إلى بلاد الصقالبة والتي جاءت بطلب من ملك الصقالبة للخليفة العباسي المقتدر بالله أن يرسل إليه من يعرفه شرائع الإسلام، فزار ابن فضلان بلاد الترك والصقالبة والروس والخزر، وسجل كل ذلك في رسالته المشهورة [17]، ومنها سفارة القاضي أبي بكر الباقلاني عن عضد الدولة البويهي إلى ملك الروم، وقد جرى فيها سجال طويل في مسائل الدين بين الإسلام والنصرانية ومعجزات الأنبياء والقول في عيسى ابن مريم عليه السلام وغيرها [18]، ومنها ما كان بين الملك الكامل الأيوبي وفريدريك الأكبر الألماني ملك صقلية من رسائل متبادلة يسأل فيها الملك الألماني العالِم الذي أحب علوم العرب وشغف بها فيجمع لها الكامل أهل العلم فيجيبون عنها [19].
——————————————–
[1] راجع ما كتبناه في:
موجز تاريخ الصدام بين الإسلام والغرب (الجزء الأول، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع)
ما نبت على ضفاف الحروب من معارف متبادلة.
[2] البخاري (5537).
[3] البخاري (7)، مسلم (1773).
[4] الندوي: السيرة النبوية ص304 وما بعدها، واستدل على ذلك بأن له سابقة في هذا التفسير جاءت عند: الطحاوي: شرح مشكل الآثار 5/229، النووي: شرح صحيح مسلم 12/109.
[5] فاضل سليمان: أقباط مسلمون قبل محمد – صلى الله عليه وسلم – ص120، 121.
[6] ابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها ص75.
[7] الطبري: تاريخ الطبري 2/601.
[8] وردت روايات يسأل فيها إمبراطور الروم عُمَرًا عن الحكمة أو يقول: املأ لي من كل شيء في هذه القارورة، وأمورا أخرى، وقد أوردها الطبري بغير إسناد، ولكن لغتها وأسلوبها يغلب عليها تفلسف المتأخرين مما يجعلنا نجزم باختلاقها ووضعها على عمر.
[9] البلاذري: فتوح البلدان 1/190.
[10] ابن قتيبة: عيون الأخبار 1/297، وعند الطبري 2/601 نسبت هذه القصة إلى رسائل بين عمر وملك الروم.
[11] هذه الرواية مثلا يظهر فيها غرض إثبات جهل معاوية والعلم الذي اختصه الله بآل البيت، إذ إن من أنقذه بالإجابات هو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فهذه الرواية وأمثالها كثير مبثوثة في المصادر التاريخية والأدبية التي كتبت في القرن الثالث الهجري، وقد تعرضت لهذا الموضوع في كتابي: رحلة الخلافة العباسية 1/77 وما بعدها.
[12] المسعودي: مروج الذهب 2/170، 171. (ط الشركة العالمية للكتاب)، ابن عبد الحكم: سيرة عمر بن عبد العزيز ص148، 149.
[13] الطبري: تاريخ الطبري 4/677.
[14] د. عبد العزيز الدوري: العصر العباسي الأول ص116 وما بعدها، د. فاروق عمر فوزي: الخلافة العباسية 1/348 وما بعدها.
[15] ابن خرداذبه: المسالك والممالك ص161، 162، الإدريسي: نزهة المشتاق 2/943 وما بعدها.
[16] ابن خرداذبه: المسالك والممالك ص25.
[17] ابن فضلان: رسالة ابن فضلان ص75 وما بعدها.
[18] النباهي: تاريخ قضاة الأندلس ص37 وما بعدها. وقد نقل المؤرخون أجزاء منها حسب مناهجهم في التفصيل أو الإيجاز، ثم جمعها ورتبها الأستاذ محمد عبد العزيز الخضيري في كتاب أسماه «المناظرة العجيبة»، وصدر عن دار الوطن.
[19] المقريزي: السلوك 1/354، ماكس مايرهوف: العلوم والطب، ضمن “تراث الإسلام” (بإشراف توماس أرنولد) ص492، زيجريد هونكه: شمس العرب تسطع على الغرب ص431 وما بعدها.