ترجمة وتحرير نون بوست
أدى التقرير المنشور مؤخرًا من قِبَل المجلس الشيوخ الأمريكي، والذي يصف أساليب الاستخبارات الأمريكية في التحقيق أثناء إدارة بوش، إلى ذهول الكثيرين في الشارع الأمريكي، لا سيما وأن بعضًا من تلك الأساليب التي ظن الكثيرون أنها لا تُستَخدَم إلا في حالات خاصة، ظهر أنها كانت أساليبًا اعتيادية.
يشكّل ذلك خطرًا على الأرضية الأخلاقية التي يدعي الغرب أنه ينطلق منها، على الأقل أمام الرأي العام في بلاده، بيد أن هذه المخاوف ليس لها أساس في المنطقة العربية لسبب بسيط، هو أن أحدًا هنا لم يصدق أبدًا أن الغرب يمتلك هذا المنطلق الأخلاقي من الأساس، كي يُصدَم في استنتاجات التقرير الأخير.
تعتبر الولايات المتحدة كبلد ذات صلة وثيقة بإسرائيل (العدو التقليدي) والديكتاتوريات العربية في الثقافة العربية، وهو ما يعني أنها مرتبطة بالأساس بالهيمنة الغربية والحرب وتعزيز النظام القائم في المنطقة، لا بالسلام أو إعادة الإعمار كما كانت في أوربا — جدير بالذكر أنها حتى في أوربا لم تعد بتلك الصورة البراقة.
ما هو السبب في تلك الصورة السلبية للولايات المتحدة في أذهان العرب؟
لنأخذ مصر كمثال، فجيشها الأكبر في العالم العربي، وهو قلب نظامها القمعي القائم اليوم الذي ارتكب أكبر مذبحة في تاريخها الحديث عام 2013، هو واحد من أكبر متلقي المعونة الأمريكية، ويلعب دورًا أساسيًا في السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة.
مثال آخر؟ لننظر للعراق، ثاني أهم بلد عربي حتى وقت ليس ببعيد. فبعد الغزو الأمريكي عام 2003، أشرفت الولايات المتحدة بشكل واضح على تفكيك أركان الدولة العراقية، وساهمت في تعزيز النظام السياسي الطائفي المتجذر فيها الآن بدعمها لحكومة المالكي لسنوات رُغم طائفيتها تجاه العرب السنة، وهو ما أدى إلى ظهور الميليشيات الشيعية من ناحية وداعش من ناحية أخرى. رُغم ذلك، يستمر الدعم الأمريكي لهذا النظام.
واشنطن والديكتاتوريات العربية: تاريخ طويل
في منتصف القرن الماضي، حين كانت القومية العربية في أوجها، كانت الولايات المتحدة هي الراعي الأساسي للنظم المحافظة في المنطقة، وهي نظم اعتبرتها الأنظمة الثورية رجعية ومتواطئة مع الاستعمار. بطبيعة الحال، كانت تلك الأنظمة الثورية ذات شعبية قوية في الشارع العربي آنذاك، ورُغم أنها لم تكن ديمقراطية هي الأخرى، إلا أن الكثيرين لم ينظروا لها باعتبارها أنظمة مستبدة نظرًا لوقوفها في وجه الاستعمار.
حين انهارت القومية العربية إبان هزيمة 1967، وبدأت الأنظمة الثورية في تغيير وجهتها، دأبت الولايات المتحدة على رعاية هذا التحول، وتوثيق العلاقات بين تلك الأنظمة والنظم المحافظة، والحالة المصرية في السبعينيات تدلل بوضوح على ذلك. أدى ذلك إلى تعزيز الصلة بين واشنطن والنظم المستبدة المحافظة بشكل أكبر، وأصبحت القاعدة أن النظم التي تفقد شعبيتها، أو ثوريتها، تتجه إلى واشنطن للدعم.
اتجه كل أولئك إلى واشنطن، حتى وإن كان سجل حقوق الإنسان الخاص بهم شديد السوء، بل إن الولايات المتحدة نفسها أحيانًا ما كانت على صلة بعمليات التعذيب التي تجري هناك — كما عرفنا مؤخرًا، وكما اكتشف بعض الشباب بأم عينه أثناء ثورات الربيع العربي. “هدية من الولايات المتحدة إلى مصر”، كما قال أحد المتظاهرين ذات في القاهرة وهو يحمل عبوة غاز مسيل كُتب عليها “صنع في الولايات المتحدة.”
الرابطة الأمريكية الإسرائيلية
الصورة السيئة لواشنطن ليست فقط نابعة من دعمها للأنظمة المستبدة في العالم العربي، فأحد أسبابها الرئيسية هي الدعم الأمريكي المتواصل لعقود للدولة الإسرائيلية، وجرائمها ضد الفلسطينيين، والبلدان العربية الأخرى، على مدار تاريخها.
الكل يؤمن هنا بأن إسرائيل ما هي إلا ذراع للولايات المتحدة في المنطقة، والغضب الذي تصبه مختلف مظاهرات التضامن مع الفلسطينيين على واشنطن كلما تعرّضوا لهجوم إسرائيلي تدلل على ذلك بوضوح، بل إن البعض يعتقد أن إسرائيل لا تملك من أمرها شيئًا، وأن التحكم عن بعد يتم كله عبر الأطلنطي.
بالطبع هناك مسافة تتسع وتضيق باستمرار بين إسرائيل والولايات المتحدة، ولكن آراء العامة غالبًا ما تجنح نحو التبسيط المُفرِط، بيد أن التسبيط لا يكون أبدًا من فراغ.
الولايات المتحدة كمُعتَدي على العالم العربي
بعد نهاية الحرب الباردة، ازدادت وتيرة العمليات العسكرية في المنطقة، من حرب الخليج إلى العراق وإلى الحملة على داعش حاليًا، وهو ما رسّخ صورة جديدة عن الولايات المتحدة، لا باعتبارها فقط داعمًا للاستبداد والاستيطان الإسرائيلي من الخارج، ولكن كمعتدي على المنطقة بشكل مباشر، ومُحتل للأراضي العربية.
حرب العراق تحديدًا ساهمت في ترسيخ تلك الصورة في أذهان العرب، إذ غزت الولايات المتحدة لأول مرة بوضوح بلدًا عربيًا وأسقطت نظامه وفككته ليصبح ما هو عليه اليوم.
بالنظر لغزو أفغانستان الذي سبق العراق بعامين، والتهديدات المستمرة من واشنطن تجاه إيران وسوريا في أحيان كثيرة، انتشر بين العرب شعور مفاده أن الدبابة الأمريكية يمكن أن تكون هنا في أي وقت شاءت، ولأي أسباب قررت اختلاقها — وإن كانت كذبًا كما عرفنا لاحقًا، أو كما كنا نعرف بالفعل في الحقيقة.
لم تكن ضربات الطائرات دون طيار في اليمن، والأرواح المدنية التي زُهقت بسببها، سوى تعزيزًا لتلك الصورة: الولايات المتحدة قوة تجلب الدمار والدم، وتسبب الفوضى أينما وطأت أقدامها.
***
لكل الأسباب المذكورة آنفًا، تبدو الفكرة القائلة بأن تقرير مجلس الشيوخ الصادر مؤخرًا سيهز أرضية الولايات المتحدة الأخلاقية لدى العرب، ويعزز من دعوات الجهاديين، محض سراب، أو ربما أكاذيب موجهة للمستمع الأمريكي ليس إلا، ولكن الحقيقة أن الجهاديين لا يحتاجون هذا التقرير ليجدوا أرضًا خصبة بين شباب المنطقة، خاصة بعد تعثر الربيع العربي وتخبط السياسة الأمريكية منذ اندلاعه.
كل من يعيش تحت نفوذ الولايات المتحدة هنا، بأي شكل، يعاني من القهر أو التعذيب أو القمع، من الفلسطينيين في مخيمات اللاجئين، إلى المصريين تحت الحكم العسكري، إلى العراقيين تحت العنف الطائفي، وغيرهم. كل هذه أنواع مختلفة من التعذيب لم ترد بالتقرير، وهي السبب الأساسي في انعدام أي أرضية أخلاقية لواشنطن هنا من الأساس، ومنذ عقود.
المصدر: Open Democracy
هدا المقال مرخص تحت رخصة المشاع الإبداعي بشرط نسب المصنف وعدم الاستخدام التجاري.