“أنا لست محررًا، المحررون لا وجود لهم، فالشعوب وحدها هي من تحرر نفسها” تشي جيفارا.
ربما لأن المحررين يرحلون، يقومون ببث الهواء في عالم اختنق آلاف المرات من عدم وجود الأكسجين، ومازال في محاولة أن يعيش، يفعلون كما يفعل الأطباء أو الشباب الثوار، يصعقونه بصعقة كهربائية تُنعش القلب ليعود للحياة أو بالثورة، يرحلون ليتركوه إما يعود للحياة من جديد، أو يغرق في عَبْثِه أكثر.
في التاسع من الشهر الماضي كانت الذكري الخامسة والعشرون لانهيار الجدار الفاصل في مدينة برلين بألمانيا، الذي أُطلق عليه لمدة تزيد عن الثلاثين عامًا “الجدار الحامي من الفاشية”، وفي روايات أخري “جدار الموت”.
قُسِمَت ألمانيا إلى أربع مناطق عسكرية مُحتلة تحت سيطرة الأمريكيين والإنجليز والفرنسيين والاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية ما بين يوليو وأغسطس عام 1945.
في الثالث والعشرين من شهر مايو عام 1949 أُعلن الجزء الغربي أنه “الاتحاد الجمهوري الألماني”، في السابع من أكتوبر من نفس العام تم إعلان الجزء الشرقي الواقع تحت سيطرة الاتحاد السوفيتي بأنه “جمهورية ألمانيا الديموقراطية”، تحت مفهوم غير رسمي أن ألمانيا تم تقسيمها إلى ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية.
نتيجة لذلك وقع الجزء الغربي لبرلين (العاصمة الاقتصادية والثقافية والسياسية لألمانيا) تحت سيطرة المقاطعة السوفييتية، لتقع العاصمة بين عالم يؤمن بالفكر الانفتاحي للاقتصاد والسوق الحرة في الغرب، وبين عالم شيوعي يؤمن بهيمنة الحكومة على الاقتصاد في الشرق.
بدأ عدد المهاجرين يتزايد من “ألمانيا الشرقية” إلى “ألمانيا الغربية”؛ مسببًا انهيار بطئ لاقتصاد جمهورية ألمانيا الديموقراطية.
في منتصف ليل الثالث عشر من أغسطس عام 1961 تم إغلاق الحدود بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية بدون سابق إنذار، وبعدها بيومين تم وضع اللَبنات الأولى للجدار الأسمنتي.
في البداية لم يكن الجدار يُمثل عائقًا للألمان، لأنه لم يكن إلا جدار على ارتفاع جندي مسلح يقف بجواره وسلك شائك، ولكن بحلول شهر نوفمبر أصبح ثلاثة أمتار ونصف من الأسمنت والسلك الشائك فوقهم، العائق المهول الذي يحد ويُحرم العبور بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية.
بحلول شهر يونيو 1962 تم بناء جدار آخر ليصبح عبارة عن جدار خارجي وداخلي بينهم قطاع، سُمي بعد ذلك بـ “قطاع الموت”.
هذه هي بعض قصص الضحايا الذين حاولوا العبور من ألمانيا الشرقية إلى الغربية إما لاستنشاق ما يسمونه بهواء الحرية في ألمانيا الغربية، أو هربًا من القمع، أو هربًا من الظروق الاقتصادية والعمل في ألمانيا الغربية، أو هربًا للحياة كما قال البعض.
“الفتي الذي مات أمام أعين الجميع”
“بيتر فيختر” الذي يبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا، قرر العبور من ألمانيا الشرقية عبر الجدار الفاصل لأنه لم يرد أي شيء إلا أن يستنشق هواء ألمانيا الغربية!
“بيتر” لم يتصور أن الحراس المسلحين سيطلقون عليه النار أبدًا إذا تمت رؤيته من أحدهم؛ لذا حاول أن يتحين اللحظة المناسبة ليعبر ولكن تم قتله بواسطة رصاص أحد الحراس الذي رآه يقفز بين الجدارين؛ ليقع “بيتر” مدججًا بجراحه في “قطاع الموت”، تركه الحراس ينزف لمدة ثلاث ساعات حتى الموت وذلك تحت أنظار الجنود المسلحين على كل من الجانبين الشرقي والغربي، إلى أن حمله أحدهم خارج القطاع؛ ليصبح ” بيتر” أول ضحية للجدار الفاصل وليُسمي بعدها القطاع بين الجدارين بـ “قطاع الموت” رسميًا.
بعدها بسبع سنوات أُقيم لـ “بيتر” تمثال يُجسد واقعة العبور للموت كما سماها البعض والتي تخيلها “بيتر” العبور للحياة، ومازل التمثال موجود حتى الآن.
“الجنازات الوحيدة”
لم يُفرق سور برلين بين ألمانيا الشرقية والغربية فقط، بل فرّق بين العديد من العائلات؛ ولذلك كانت محاولات العبور بين الجدارين كثيرة، حيث إن كل ما في الأمر أن الألمان أرادوا أن يعودوا إلى منازلهم على الطرف الآخر فحسب.
نص القانون وقتها على أنه “إذا مات أحد أفراد العائلة أثناء محاولته العبور بين الجدارين، ممنوع على أفراد عائلته حضور جنازته”، لينتشر بعد هذا القانون مصطلح “الجنازات الوحيدة”.
“الضحية المجهولة”
إن كان الموت أسوأ ما يحدث لحياة الإنسان، فالأسوأ أن يموت الإنسان مقتولاً، وحيدًا بدون أي شخص لينتشل جثته ويدفنها.
هذا ما حدث مع أحد ضحايا سور برلين، الذي مات مقتولاً أثناء عبوره، وبعد البحث لم يجدوا له رفيق أو أهل ليدفنوا جثته، ولم يأت أحد لأيام لا من الجانب الغربي ولا الشرقي لدفنه؛ ليصبح الضحية المجهولة الوحيدة لسور برلين.
“الأم التي خنقت طفلها بيديها”
اختارت هذه العائلة المكونة من الأم والزوج وطفلهما الرضيع أن تهرب إلى ألمانيا الغربية في شاحنة، أثناء العبور بدأ الرضيع في البكاء وخافت الأم أن يكتشف أمرهما حراس السور ويقتلوهم على الفور؛ لذا كتمت بيديها فم طفلها ظنًا منها أنه يستطيع التنفس من أنفه، لم تعلم بأنه يعاني من التهاب الشعب الهوائية ولا يستطيع التنفس من أنفه، عبرت العائلة إلى ألمانيا الغربية، نالوا حريتهم وخسروا ابنهم.
بعد العديد من محاولات العبور إلى “الحياة”، والتي خلفت ما يقرب من 200 ضحية، قررت حكومة ألمانيا الشرقية في التاسع من نوفمبر عام 1989 السماح لمواطنين ألمانيا الشرقية بزيارة ألمانيا الغربية وغرب “برلين”.
خرج مواطنو كل من ألمانيا الشرقية والغربية في جو احتفالي نحو سور برلين احتفالاً بعدم وجود “قطاع الموت” معنويًا، بعد مرور بضعة أسابيع خرج المواطنون الألمان لتحطيم السور بمعداتهم المنزلية، واستطاعوا تحطيم أجزاء منه وصنع ثغرات تسمح لهم برؤية البعض على الجانبين.
لم يمر الكثير من الوقت حتي اتجهت الحكومة الألمانية لتحطيم السور بنفسها بالمعدات الثقيلة واستطاعات أن تزيل معظم الجدارين في جو احتفالي على الجانبين.
الإزالة النهائية للجدار لم تبدأ حتي صيف عام 1990 وانتهت تمامًا عام 1992.
سور برلين الآن.