قبل قرابة الشهرين، قدمت قراءة للانتخابات الرئاسية تحت عنوان “موقعة قرطاج … صراع الجبهتين” وخلصت فيه إلى أنّها ماضية لدور ثان سيكون بطلاه مرشح عن روح جبهة 18 أكتوبر ومرشح آخر عن جبهة السابع أي مرشح النظام القديم.
اكتب هذه الكلمات وقد أنهى التونسيون، أو جزء منهم على الأقل، عملية الإدلاء بأصواتهم وقد انطلقت عملية الفرز .. لم يتم الإعلان النهائي عن النتائج بعد، لكن أغلب عمليات سبر الآراء التي اهتمت بتصريحات التونسيين حول من انتخبوا أشرت لوجود توجه عام يُرجح كفة “الباجي قائد السبسي” والمسألة أضحت مسألة تحديد للفارق بين المترشحين لا غير.
انتصر نظام السابع
اكتملت أجزاء المشهد السياسي إذن بهذه الانتخابات، وقدمت البرهان على أنّ النظام القديم أبدع في سُرعة العودة إلى سدة الحكم بجوانبها المختلفة بتمكّنه من تحصيل الكتلة الأكبر في البرلمان وبالتالي من مفاتيح تشكيل الحكومة القادمة، كما أنهى اليوم استحواذه على منصب رئاسة الجمهورية مع ما يمثله من رمزية في الوجدان الشعبي التونسي.
أبدع لأنه استطاع أن يعود وبالديمقراطية بعد أن فشلت جهوده الانقلابية في صيف 2013، وانتزع من الجميع شرعية شعبية وإن لم تكن مطلقة ولكنها تبقى شعبية أعلنتها هيئة انتخابات مستقلة احتكم لها جميع الطيف السياسي برضاء تام.
أبدع لأنه حافظ على سيطرته على أدوات السلطة الحقيقية رغم أفوله الظرفي عن المشهد الرسمي وأعني قصر الحكومة بالقصبة وقصر قرطاج، فولاء إعلامه ثبت وصمد ثبوتًا عقديًا رغم تجريده – صوريًا على الأقل – من مفاتيح السلطة والنفوذ، كذا الأمر في علاقته بلوبيات المال والأعمال، بالإضافة لنجاحه في إيجاد امتداد لسلوك نقابي (على مستوى القيادة المركزية) هادن الديكتاتور في مرحلة ما قبل تحطيم صنمه واشتغل بالوكالة لمن هم امتداده (الديكتاتور) بأن أجهزوا على أي مجهود تنموي اجتماعي أرادت الثورة وحكومتها أن تمضي فيه.
أبدع لأنه أحسن التعاطي مع المزاج الشعبي بأن ثبّت وفاء أنصار النظام القديم لأولياء نعمتهم الجدد، وأيضًا بأن نجح في اختراق مساحات شعبية جديدة معولاً على عمليات التجميل التي نجحت إلى حد ما في إخفاء بشاعته وفي مسح رصيده التاريخي الأظلم كديكتاتورية من العيار الثقيل، وشعبنا التونسي كشعوبنا العربية ذاكرته قصيرة، وهم لا يلامون على ذلك، فالخبز والأمن قبل الحرية أحيانًا وهذه الثورات يبدو – بل الثابت – أنها أرهقت كاهل ذلك المواطن البسيط.
أبدع لأنه هزم خصومه أو بعضهم نفسيًا، فلنقل ابتزهم بأن صاغ نظامًا انتخابيا على قياسه رغم شبه غيابه عن مؤسسة التأسيس الثانية في البلاد، وهاهو اليوم يفتك زمام المبادرة ويشكل الساحة السياسية كما يريد وكما يرتضي، وسط ذهول الثورة ومن صدرته لحمايتها والمحافظة عليها.
انتصر إذن .. واليوم أوجد لنفسه، مغتصبًا مناهج المنطق، عذرية جديدة، لا أؤمن بالضربات القاضية ولا أعتقد أنها آخر الجولات، وأؤمن بأن أول خطوات النهوض ومواصلة المصير تكون عبر تقبل الواقع عنونته بتجرد: “انتصر نظام السابع”.
وانتصرت الثورة
مروجًا لهذا المقال قبل نشره، نشرت عبر تغريدة فيسبوكية عنوانه دون تعليق ودون توضيح، فكان أغلب التفاعل يتلخص في “ماذا تقول أيها الأبله” (بالمناسبة يعود انتشار لفظ “أيها الأبله” لدى مستعملي شبكات التواصل الاجتماعي في تونس لحلقة من برنامج الاتجاه المعاكس استضافت صحفيًا تونسيًا ضاقت به لغة الضاد فلم يجد من مفرداتها إلا لفظ الأبله ليصف محاوره).
نعم انتصرت الثورة لأني كنت منذ البداية أقدر بأن الهدف الذي على أساسه يمكننا أن نقيم نجاح أنصارها من عدمه يتلخص في تحجيم نسب فوز مرشح نظام السابع وألّا يتجاوز الباجي قائد السبسي نسبة الـ 55 بالمائة، اعتبره انتصارًا لروح الثّورة المُشوهة بفعل الإعلام الدعائي والعمالة النقابية وفساد المال.
نعم انتصرت الثورة لأننا عندما نسبر أغوار الحملة التي صنعت من المرزوقي “رمزًا” نلحظ بلا عناء وجود حالة من التوثب والقلق لدى قطاعات واسعة من الشعب التونسي على مصير مكتسباتها السياسية من حرية وديمقراطية وتعددية … مايحيل إلى أنها (الثورة) لاتزال جذوة نارها موقدة في قلوب وضمائر الآلاف رغم القصف الإعلامي الممنهج ورغم التباين في الموارد التي خاض بها كل مشروع حملته الانتخابية.
نعم انتصرت لأن عمليات تشويهها في المخيال الشعبي لم تنجح، ولأنها منعت مرشح نظام السابع من أن يحظى بتفويض شعبي كان يتمناه ، فصوت له النصف، وصرخ في وجهه محذرًا قرابة النصف الآخر، رسالة مضمونة الوصول ستجعل النظام القديم – الذي لا يحسن العيش في المناخات الديمقراطية – يفكر ألف مرة قبل أن يُغضب نصف شعب ونصف ولايات البلاد.
وأخيرًا انتصرت الثورة لأنها فرضت على النظام القديم نفسه أن يجدد شخوصه جزئيًا وأن يحتكم صاغرًا للمنظومة الدستورية والقانونية وقريبًا القيمية التي أتت بها وجرته جرًا لأن ينطلق في محاولات العيش في مناخات نظيفة خارج مستنقعات الوحل الديكتاتوري الذي طاب له رغد العيش فيه لسنوات.
انتصر نظام السابع في هذه الجولة بالمعنى الملموس، وانتصرت الثورة بالمعنى الملموس والرمزي أيضًا، ولهذا الصراع جولات أخرى ستمتد لسنوات طويلة، فإما تكون دمقرطة كاملة وتوبة نصوح لنظام احترف الانحطاط، وإما ثورة ثانية لا تبقي ولا تذر على المدى البعيد.