ترجمة وتحرير نون بوست
بالنسبة لبلد لا يمل سماع الآخرين يدعونه بـ “بلد المبتكرين”، حفزت فكرة ازدهار النفط الصخري منظمة أوبك، أقوى منظمة في العالم، لتشن نداء استغاثة مُقنن بشكل هوليودي، فعلى الرغم من تكرار الخبر على عدد لا يُحصى من وسائل الإعلام، دوّن المحللون على مدى الأسابيع القليلة الماضية فكرة أن المواجهة تُحتدم بين النفط الصخري والشيوخ العرب للسيطرة على نسق الإمداد العالمي للنفط لبضعة أسباب قيّمة، حيث تسعى القيادات السعودية للحفاظ على نسق ضخ الأوبك للنفط باعتبارها ضربة مباشرة من الرياض لغريميها الجيوسياسيين المكبلين، روسيا وإيران، الذين يضطلعان في مساندة الديكتاتور السوري “بشار الأسد” وفي حيك عدة مكائد جيوإستراتيجية بالمنطقة، والتي باتت تشكل تهديدًا صارخًا للأمن السعودي أكثر مما يشكله التنافس على كسب السوق العالمية مع المنقِبين الأمريكيين.
من جهة أخرى تعاني بعض الدول المنتجة للبترول من تحركات السعودية أكثر مما تفعل جرّاء كل من طهران وموسكو، ففي ظل إثقال كاهل كليهما بالعقوبات الاقتصادية، روسيا على إثر تدخلها في الشأن الأكراني وإيران بسبب برنامجها النووي، فإن تراجع أسعار النفط شكّل ضغطًا لم يسبق له مثيل على حكومتيهما.
وبالنسبة لروسيا، كانت الضربة جد مدوية مع تراجع قيمة الروبل بنسبة 40% مقابل الدولار الأمريكي منذ تشرين الثاني/ أكتوبر المنصرم، حيث تعتبر مشكلة روسيا استثنائية، خصوصًا بعدما تراكمت القروض على كاهل الشركات البترولية الحكومية في السنوات الأخيرة مع ارتفاع سعر الدولار؛ مما يجعل من تسديد تلك الديون ورطة يصعب الخروج منها.
والحقيقة هي أن وزير الأوبك السعودي “علي النعيمي” أكد في الأشهر الماضية أن تلك التحركات تهدف إلى ضرب النفط الصخري، لكن، هل له أن يقول ذلك؟ ففي نهاية المطاف كان قد لاق الدعم من نظرائه في الأوبك الذين وقفوا إلى جانبه بما فيه وزير الأوبك الإيراني، والحقيقة أن مخاوف المملكة العربية السعودية ليست كبيرة بشأن النفط الصخري، ذلك أن احطياطها من النفط التقليدي من المرجح أن يواصل التدفق لعشرات السنين حتى وبعد مرور حقبة ازدهار النفط الصخري التي ترى إدارة المعلومات الطاقية الأمريكية أنها ستكون بحلول عام 2050، وبتكاليف أقل بكثير.
وتشير الأرقام إلى أن معاناة المملكة العربية السعودية جراء ما يسمى بــ “ثورة النفط الصخري” ضئيلة جدًا، وحتى إن اعتبرنا أن سبب انخفاض أسعار النفط هو وجود مصادر إمداد جديدة وكذلك انخفاض معدل النمو وتراجع الطلب على النفط في كل من الصين والاتحاد الأوروبي ومجموعة أخرى من الدول ذات الاقتصاديات متوسطة الحجم، وإن نظرنا إلى أن أمريكا زادت من إنتاجها ليبلغ الـ 9 مليار برميلاً باليوم – نسبة تنافس مستوى الإنتاج السعودي البالغ 9.8 مليار برميلاً باليوم – هو سبب تراجع الطلب الصيني والأروبي، سيختلف الخبراء في أسباب التغير الطارئ على أسعار النفط، حتى يجدوا تفسيرات تشفي الغليل في اجتماع أكتوبر/ تشرين الأول لصندوق النقد الدولي الذي يواجه تدهورًا اقتصاديًا واضحًا.
ويُشاع أن المملكة العربية السعودية منزعجة بشأن انخفاض طلب الولايات المتحدة الأمريكية على نفطها، ولكن حقيقة الأمر أن هذا النقص لا يقلقهم بشكل كبير، لأن مصافي النفط الأمريكية مُهيأة بالأساس لاستقبال نوع ذي درجات محددة من النفط؛ مما يجعل الظهور المفاجئ للنفط الخفيف الخام الأمريكي قادرًا على التأثير على إنتاج دول تعتمد على هذا النوع من النفط أي دول أفريقيا كـ (نيجيريا، أنغولا، والجزائر)، وليس بشكل مباشر على السعودية.
وهناك مغالطة تقول بوجود حد لمنتجي النفط الأمريكيين وهو السعر الذي ستؤول إليه ثورة النفط الصخري، ففي حين سيكون من المُجدي مناقشة الأمر مع تراكم شركات الإنتاج الروسية أو حتى شركة بيميكس بالمكسيك المنجذبة بالنفط الأمريكي، ستختلف تقديرات الصناعيين حول كيفية إمكان الأسعار المنخفضة من تغطية جزء كبير من أتعاب إنتاج النفط الصخري، لكن معظمهم يشير إلى أنه حتى وإن لم يتجاوز السعر سقف الـ 60$ للبرميل الواحد، فإن العديد سينخرطون تحت لوائه حتى بالمناطق التي تشير كل العوامل فيها إلى تغيير الأسعار ولكنها سترضخ في نهاية المطاف.
وبما أن دولاً كالصين التي قام مواطنوها من الطبقة المتوسطة بالتوقف عن شراء السيارات، وفي حين نجت أوروبا من مستوى الركود وتدهور حالة أسواق ناشئة كالبرازيل والهند، فإن المملكة العربية السعودية لها القدرة على إضعاف مدى تكسير النفط الصخري، ولكن هذه المرحلة من تدهور الأسعار ستكون عابرة، مسببة موجة من الاستحواذ وبعض حالات الإفلاس التي قد تُصيب بعض منتجي النفط الصخري، الضعيف سيُستقطب والموازي سيُقصى، على الأقل إلى أن تعود الأسعار للارتفاع.
والآن لنأخذ بالاعتبار المسألة الجيوسياسيية، حيث إن الصراع السعودي الإيراني بالمنطقة يعود لفترة طويلة واحتدم خصوصًا مع حرب العراق، عندما اعتبرت المملكة أن الإطاحة بالزعيم العراقي “صدام حسين” الذي يُنعت بالديكتاتور السني وتعويضه بنظام موالٍ لإيران الشيعية هو كارثة إستراتيجية بحتة، بالإضافة إلى دعم كل من إيران وروسيا لنظام الأسد بسوريا والحوثيين الشيعة باليمن، الأمر الذي كان بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير.
وقرار السعودية بعدم التركيز مع انزلاق أسعار النفط لم يكن بالأهمية التي تتحطى بها مخاوفها من الكارثة الإستراتيجية التي يمكن أن تحل بالرياض، وأي محاولة ستكون بمثابة خطوة من شأنها أن تكون خارج سيطرة السعودية وبالتالي ستخاطر بكونها العنصر الأبرز المتحكم في السوق العالمية للطاقة. واتخاذ السعودية قرار بعدم التفاعل مع الوضع، لا يكبد الخصوم فقط خسائر اقتصادية قاسية، إنما يعزز وببراعة مركزية الرياض كونها البلد الوحيد بالعالم القادر على التحكم بتقلبات السوق العالمية للطاقة بمفردها.
ويعتبر ذلك رسالة جلية تبعث بها السعودية مبدية مخاوفها من نتيجة المحادثات بين واشنطن وطهران التي قد تُفضي إلى تقارب بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، وذلك أن أي اتفاق نووي من شأنه أن يُعكر صفو 40 سنة من التوافق الإستراتيجي السياسي بين واشنطن والرياض، وللعلم أنه حتى حينما كان الشاه الإيراني متقلدًا للحكم، خططت السعودية لاقتناء طائرات رادار ذات نظام إنذار وسيطرة جوية، وطائرات الإف 16 ودبابات أبرام من نوع إم1 أ1، فكونك المنتج العالمي الأساسي لمعدات الإنتاج النفطي يعتبر ميزة في حد ذاته.
وبغض النظر عما إذا كانت تلك المخاوف مبررة أم لا، فإن الشغل الشاغل للسعودية لا يكمن في إرساء حد لأسعار النفط الصخري بقدر ما تشغلها المراوغات الجيوسياسية بين روسيا وإيران بالمنطقة والتهديد الذي يتربص بها، حيث يتحتم على السعودية اليوم كما هو الحال منذ عشرات السنين أن تعزز مكانتها كحليف للولايات المتحدة الأمريكية، كما يحتم عليها تعزيز قيادتها للعالم العربي كذلك الإسلامي السنّي، ويمكن لذلك أن ينجح عن طريق توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، فلا شيء يُظهر الولاء أكثر من ضرب النفوذ الروسي، ولقد نجح ذلك في أفغانستان ويعمل ذلك بشكل فعّال في هذه الآونة، وإذا ما واجهت ثورة النفط الصخري عثرة في طريقها فسيكون ربحًا إضافيًا في رصيد المملكة العربية السعودية، ولكن الإشكال يكمن في صعوبة بلوغ ذلك الهدف.