نعم .. كلنا معاذ .. حين نعيش في هذه الأوطان التي تُجبرنا أن ننحاز ونُحدد اصطفافاتنا، حين تتغول بنا السلطة، فنضطر أن نسايرها أو نثور عليها، آخذة منا وقت الحب والغناء والقراءة، وسارقة إيانا من أهلنا وأحبابنا .. فلست وحدك من استحال فرح بيته الجديد خوفًا وقلقًا وحزنًا بعد خمسة شهور، كلنا أزحنا أحلامنا الصغيرة جانبًا، باختيارنا أو مرغمين، لأننا لا نستطيع أن نتفرغ لها أو نحققها دون حرية وعدالة وكرامة، تتطلب منا مواقف تاريخية قبل حياتنا الشخصية الصغيرة، ومتجاوزة إياها في الفناء لأجل “الأفكار”، التي تتمحور غالبًا حول السياسة في الوطن العربي.
نعم .. كلنا معاذ .. حين نغرق في التاريخ الواسع، فنخرج من لحظتنا التاريخية الحالية، وننسى كيف لم يكن معاذ الأول، في حروب تاريخية تكررت أمامنا (الخليج وأفغانستان والعراق)، ثم نُصفع فجأة – ولسوء حظك أنك كنت الصفعة يا معاذ -، لنجد أنفسنا جنودًا صغارًا في الحروب الإمبراطورية لغيرنا، وأكباش فداء لحياة سوانا، وأدوات لأحلام غيرنا، وقد ارتهنت إراداتنا بسوانا، لمّا تم تخييرنا، كأفراد، بينها وبين أبسط مقومات حياتنا، وكدول، بينها وبين المساعدات، فصار الفرد فينا حلقة أضعف – طرفية وقابلة للاستغناء – في سلسلة تصل إلى أمريكا التي قدت طائرتها، أو روسيا التي أسقطك سلاحها، أو إيران التي تحتل الأرض التي سقطت بها!
نعم .. كلنا معاذ .. حين تحددنا هوياتنا عن غاياتنا وأخلاقنا، فنبني قراراتنا عندما نمس في “بلداننا” أو “عشائرنا” أو “عائلاتنا”، متناسين ما يجري لجيراننا، ومُحملين مصائبنا لغيرنا، فنتذكر على حين غرة أن الحريق يجلب الحريق، وأن التاريخ لا ينسى، وأن الأخلاق متجاوزة للحدود والغايات الصغيرة، وأن الدم هو الأحمر فوق كل الخطوط الحمراء؛ فنجدنا وقد صرنا عنصريين باسم الأوطان، وفاشيين لأجل سايكس بيكو، لينتهي بنا المطاف ضحايا أنفسنا، بضيق بصرنا الذي يعمينا عن سعة بصيرتنا، وهوياتنا التي تستحيل هاوياتنا، وجهلنا الذي يشبه ثاراتنا وجاهلياتنا، كل ذلك ونحن ندّعي أينما نستطيع أننا أمة واحدة وشعب واحد لا شعبان وأن الحدود تراب، ونحن – كما فعلت داعش – نتقرب إلى الله بدم بعضنا، ونقتل بعضنا ببعضنا!
نعم .. كلنا معاذ .. أسقطتنا داعش لمّا أثبتت هشاشة منظوماتنا الفكرية أمام شعاراتها التكفيرية وخلافتها المزعومة البراقة، فصار كل شبابنا ضحايا محتملين لها، كشفتنا داعش لمّا وضعتنا أمام سوءاتنا الفكرية والدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتراكمة دون حل، آذتنا داعش لمّا انتهكتنا ولازالت تنتهكنا بأسمائنا وبأقدس ما لدينا من أفكار، استخدمتنا داعش حين جعلت من يأسنا وقودًا لعدميتها، ومن جهلنا غذاءّ لسمومها، ومن ضعف دولنا تمددًا وبقاءً لإمبراطوريتها، ومن فساد جيوشنا طُعمًا لكتائبها، ومن فقرنا وخوفنا دعاية لرخائها وأمنها، أحاطت بنا داعش يا معاذ كما أحاطت بك، وهي تضحك!
نعم .. كلنا معاذ .. دولاً ومجتمعات وأفرادًا، نخاف التفكير والوعي ونهرب منه، إما عجزًا حين تمنعنا أوساطنا، وإما تكاسلاً لأن الوعي يعني الحرية، والحرية تُعني المسؤولية، ونحن نهرب من كل هذا معًا! فترانا نبحث عن الرخاء دون عناء، فكم من شاب في الجيش (أو في داعش) لأن ذلك أسهل الطرق للرغد، وكم من دولة تجد لنفسها أسرع الطرق للمعونات بدل أن تصلح منظوماتها، وكم من مجتمع يهرب من مشاكله بالحديث عن مشاكل غيره وحلها، فصارت منظوماتنا أصولية، باحثة عن النهايات دون دروب، وغارقة في الأحلام دون طريق، فوجدنا أن حل مشكلة داعش هو أن نُلقيها أولاً على المؤامرة، ثم نُلقي عليها القنابل، كما وجدت داعش بالمقابل أن حلنا هو إخراجنا من دينها، ثم قطع رؤوسنا، وما علمنا أن الفكرة لا تقتلها إلا الفكرة، وأن حلّ مشاكلنا وحلّ منظوماتنا – لإصلاحها – هو الحلّ لنواتجهما.
نعم .. كلنا معاذ .. حين نجد أنفسنا وحيدين في مصائبنا، لا شيء معنا سوى كلمات سوانا وهاشتاجات تضامنهم، عاجزين عن الحراك لما قيّدتنا وقائعنا أو ربطتنا أفكارنا أو منعتنا مخاوفنا، يائسين من الهروب منها وقد أحاطت بنا من كل جانب، وانصعنا لها حتى ما عدنا نفرق بيننا وبينها، وفقدنا المعنى في خضم خيباتنا وخذلان غيرنا، فصرنا عدميين، سواء بلباس الجامعات أو باللباس الأفغاني أو بالزي العسكري!
لأهلك الصبر والسلوان يا معاذ، ولك الحرية والحلم .. ولنا!