جاء الدين الإسلامي لينظم حياة الإنسان وينظم الحقوق فلا يطغي أحدٌ على أحدٍ، جاء ليُخرج الإنسان من عبودية الأنظمة والسلطات المستبدة، إلى حريةٍ عدالتها قانون السماء، فكان انتصارًا للإنسان وتكريمًا لبشريته، وبالطبع فإن الأنظمة المستبدة لم تره كذلك من زاويتها، فقد رأته مصدر الحرمان من بسط نفوذها وسيطرتها على الشعوب بسلطة مطلقة دون حسيب و لا رقيب.
لقد حد الإسلام من صلاحياتها في بسط يدها على ما تشاء مما تحكم، وأوجد رقابة على أفعالها وفق قانون سماوي عادل، فما كان من هذه الأنظمة إلا أن ناصبت الدين العداء وحاربته حيثما وجد، لكنها اصطدمت بحقيقة هو أن هذه الشعوب صاحبة عاطفة عظيمة نحو الدين ومهما بسطت الأنظمة نفوذها ستكون عدوة للشعوب مادامت عدوة لدينها وهويتها.
لذلك عمدت تلك الأنظمة إلى التخلص من تلك الحرب التي مآلها في النهاية إلى زوالها كأنظمة واضحة الكفر بما تؤمن به الشعوب، وأرادت أن تداويها بما هو الداء، ففكرت بما يجعل الدين خادمًا لها مرسخًا لملكها وكان ذلك، لقد ابتكروا دينًا جديدًا من الدين الأصلي ليس فيه إلا “طاعة ولي الأمر” واندرجت كل الأحكام بعدها تحت ذلك البند، فالدين لا يعني -وفق منهجهم – أكثر من “وإن جلد ظهرك وأخذ مالك”، والدين لا يتجاوز “وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم”،
ويتجاهلون الرأي الآخر والذي قال به أكثر المفسرين أن أولي الأمر هم العلماء لا الأمراء!
لقد أسسوا لذلك بمؤسسات، فأنشأوا الهيئات الدينية التي تُفسد على الناس عقائدهم ويبعدونهم عن أمتهم ويشلغونهم بفقه “طاعة ولي الأمر”، ولأجل تحقيق أعلى مستوى من خدمة الدين لسلطتهم أصبحوا يحتكرون الدين وفهمه ويسيطرون على خطابه ومؤسساته وفقهه وفكره وكل فضائله، فلا فقه إلا فقههم، ولا فهم للدين إلا من زاويتهم، ولذلك يخلقون فئة من “علماء السلطة” التي تبتدع دينًا مشوهًا، وفقهًا سياسيًا مُحرفًا!
أما إذا ما تكلم أحد من الشعب بالدين كاشفًا حقيقة استغلالهم وبشاعة إخضاع الدين لشهواتهم وأطماعهم، فإن التهمة الجاهزة عليه أنه يستغل الدين، ويريد السيطرة على نظام الحكم، وهم أكثر من يوظفونه ويستعملونه لأهداف بعيدة كل البعد عن الدين، والإسلام ليس أكثر من ثوب يلبسونه ويخلعونه بقدر الحاجة فيما يُثَبّتُ حكمهم ويسوغ ظلمهم.
وهم إذ يستغلون الدين يكفرون ببعضه ويؤمنون ببعضه، فالناهي عن المُنكَر الذي يقتلونه من الخوارج وليس سيد الشهداء، ويُنكرون علاقة الإسلام بالسياسة، ولكنهم يُنصبون “تواضروس” زعيمًا “للمسيحية السياسية”، فيُحرّمون على كل عالم أن ينطق بالسياسة، أما إن كان المتكلم كأحمد الطيب وعلي جمعة، فله الحق بالسياسة فتوى وشتمًا وابتداعًا، ويستخدمون أديان غير المسلمين للتبجح بتسامح مصطنع ويضطهدون المسلمين لمجرد تعدد وتنوع في الاجتهاد، والدين في عُرفهم أن تنظر الشعوب لهم ولأفعالهم أنها قدر الله في خلقه وظله في أرضه، فهو لا يعني لهم أكثر من تخدير الشعوب بخطاب التبعية والجبن والخوف وتسويغ الظلم، وباستخدامهم الدين قلبوا النصوص وأولوا المُحكم والمتشابه؛ فحولوا الرعية إلى رعاء و الراعي إلى جلاد، لقد وقع الإسلام ضحية استخدام الأنظمة برجال دين محسوبين عليها وبإقامة هيئات دينية تروج لها وتشييد مساجد الضرار.
إن المسلم الواعي بدينه ليعلم الفرق بين من يخدم الدين ومن يستخدمه، فالمسلمون يتخذون الإسلام غايةً وأصولاً في حين من يستغل الإسلام يتخذه وسيلةً ووصولاً، الدين يُخدم ولا يُستخدم، واستخدامه انحراف في أقبح أشكاله واستغلال في أبشع صوره، والدين في صراع بين خادميه ومستخدميه، خادموه يمتثلون له ومستخدموه يُمثلون به، و هم لا يؤمنون بفقه التغيير والإصلاح بل ينشرون فقه “طاعة ولي الأمر”.
إن استغلال الدين خطيئة ترتكبها الأنظمة والحكومات، يحاربونه باليمين ويلتمسون منه الشرعية بالشمال، و الإسلام لم يأت ليثبت شرعية لفلان أو علان، ولم يتنزل القرآن ليحمي سلطات تخالف شرعه في إحقاق الحق وإبطال الباطل، وهو أعظم من ذلك، أعظم من خدمة أفراد على حساب حقوق الشعوب.