منذ وصلت القاهرة، بدأت أتجول بشوارعها ولم أشعر بالغربة قط رغم كوني سافرت وحيدا بلا رفيق، لم أشعر بالغربة لأن المصريين يتكلمون لغتي العربية وأتواصل معهم بأريحية. في مصر تشتم عبق العروبة، تشعر بتجذر العروبة في أرض الكنانة، كل ما في القاهرة يوحي بأنك في عاصمة عربية: اللباس والطعام والمعمار وحتى الفقر والمخبرون.
في مصر لا أحد يلعن انتماءه إلى الأمة العربية رغم كونها أكثر الأمم ركودا وأكثر الأمم التي لا تملك مصيرها بيدها، على عكس ذلك الكل يفتخر بعروبته لغة وانتماء. أتجول بشوارع القاهرة وكلما سألت عن حي أو زقاق أخبرت المجيب بأني أجنبي أو غريب لكن جميعهم اشتركوا في رد واحد “أنت لست غريب ولا أجنبي أنت عربي والعرب أبناء بلد هنا”. حينها فقط تشعر بأن مصر مهدا للعروبة وأنا لا غربة لعربي بأرضها.
أجوب شوارع القاهرة وألمح كيف تنتشر جميع الكتب والمؤلفات والمنشورات العالمية وقد تم تعريبها، كل أسماء المحلات أيضا تكتب بالعربية حتى الأسماء العالمية منها تخط بحروف عربية. في بلد الفراعنة العربية هي تاج اللغات وهي الأكثر استعمالا وانتشارا.
وحينها فقط تذكرت كلمات نزار قباني وهو يقول “لو أعطى السلطة في وطني جردت قياصرة الصحراء من الأثواب الحضرية (…) وأعدت حليب النوق لهم وأعدت سروج الخيل لهم وأعدت لهم حتى الأسماء العربية”.في مصر لن يحتاج نزار ولا غيره ليعيد مصر إلى حاضنتها العربية، فلا العسكر ولا الدكتاتوريين فكروا يوما أن يجردوا مصر من عروبتها مثلما فعل بورقيبة بتونس.
الصحف الصادرة كل يوم تحوي في طياتها نفحات القومية العربية، العناوين كثيرة والعروبة هي العمود الفقري لعناوين الصفحات الأولى، الاذاعات والتلفزيونات تنمي الاعتزاز بالعروبة ولا تتوانى في شتم الغرب وأمريكا مشددة أن مصر أم الدنيا وأخ الكبرى للعرب جميعا.
لكن مصر العروبة تعيش اليوم مرعوبة في ظل نظام عسكري اختار أن ينشر الرعب فلا أحد يتكلم ولا أحد يجادل ولا أحد يستطيع أن يهمس بأن ما حصل في مصر هو انقلاب عسكري على نتائج الصندوق. العسكر ينشر المخبرين في كل مكان، وترى في عيون المصريين أسفا على ثورة تاهت وسط الزحام وأحلام عصفت بها نكبات الزمان.
في القاهرة العربية احترت أتراها سميت القاهرة لأنها قهرت الأعداء وردت جحافلهم خاصة المغول الذين تحطمت أسطورتهم على بوابات مصر العربية، واليهود الذين أفحمهم نصر نظام عربي، أم أنها سميت القاهرة لأنها قهرت أبناءها وشعبها. في القاهرة الرعب والقهر سيدا الموقف فنظام العسكر يرعب وضياع الثورة يقهر.
وللأمانة فالرعب لم يتأتى من نظام العسكر فحسب ولا وسائل إعلامه التي أصبحت تدعو لاستئصال كل إخواني، بل الرعب متأتي أيضا من الإرهاب الذي يحاول أن يتسلل إلى أرض الكنانة. فالإرهاب اليوم لا يبقي ولا يذر، أرهق الإسلاميين في تونس، وحطم ليبيا ويسعى إلى إيجاد موطئ قدم بمصر.
ويزداد الرعب بين المواطنين المصريين وهم يشاهدون أحد الجماعات المصرية وهي تبايع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش سابقا) بعد أن قتلوا 30 جنديا في عملية انتحارية بسيناء، وقد سبق ذلك تفجير أمام دار القضاء العالي حيث كنت على بعد أمتار ولكن الله سلّم.
أجوب شوارع القاهرة وأزقتها وحواريها وألمس كم الاحترام المصري لحركة حماس رغم ما يقوم به الإعلام من تشويه، حتى الموالين لرئيس الأمر الواقع عبد الفتاح السيسي يحترمون حماس ويعتبرونها حركة مقاومة كما يحترمونها لأنها عربية وتدافع عن كرامة الأمة. ما تلمسه حقا هو أن مصر حضن كل العرب جميعا، وبلا دعم مصري قد يصعب تحرير فلسطين.
ويزداد في مصر الرعب بوصول الحوثيين إلى السلطة في اليمن وإمكانية سيطرتهم على مضيق باب المندب الذي يخنق قناة السويس ويخنق معها الاقتصاد المصري، ورغم كون كل المعاهدات الدولية تحفظ حقوق مصر فإن التوجس يظل سيد الموقف.