إن الطاقة أحد أبرز معاملات القوة منذ القرن العشرين وحتى هذه اللحظة، والصراعات الجيوبوليتيكية لم تنته بين القوى العالمية إلى الآن فالاعتقاد السائد أن من يسيطر على أكبر قدر من موارد الطاقة يملك القوة والغلبة.
تمثل الولايات المتحدة أكبر دولة منتجة للنفط في العالم وفق تقارير رسمية لوكالة الطاقة الدولية؛ وبذلك نجحت في تخطي الدب الروسي والمملكة العربية السعودية؛ ما مثل للولايات المتحدة نوع من الثقل جعلها قادرة على المناورة في أكثر من اتجاه جيوبولتيكي وتوظيف ذلك سياسيًا خاصة في الصراع الأخير المشتعل مع روسيا بسبب أزمة القرم.
أسواق الغاز العالمية بدأت في الدخول إلى منعطفات غير مسبوقة على خلفية الأزمة بين روسيا والاتحاد الأوروبي بسبب اعتماد القارة الأوروبية على الغاز الروسي بشكل ملحوظ في ظل تراجع إنتاجها من الغاز التقليدي، وفي ظل تصاعد الأزمة بين موسكو وكييف من المُنتظر أن تقطع روسيا الغاز عن أوكرانيا بعد توتر العلاقات مع أوروبا؛ ما سيزيد الأزمة اشتعالاً في الداخل الأوروبي الذي يحاول التخلص من الاعتماد على الغاز الروسي ولو جزئيًا الفترة المقبلة.
فرضت الولايات المتحدة عقوبات على روسيا عبر شريكها الأوروبي في مجال الطاقة (أبرز أحد مصادر الدخل الروسية)؛ ما أدى إلى انهيار سعر صرف العملة الروسية “الروبل” أمام اليورو والدولار، وكما ذكر أنفًا فإن هذه الأزمة قد تؤدي إلى عواقب أسوء من تلك التي ظهرت عام 2009 عقب إيقاف تصدير الغاز الروسي لأوروبا عبر أوكرانيا، علمًا بأن روسيا – على سبيل المثال – تؤمن احتياجات دولة أوروبية كألمانيا بنسبة تفوق 40% من الغاز، وفي الوقت الراهن يؤكد خبراء بمجال الطاقة استحالة إيجاد موارد بديلة تكفي لتلبية احتياجات أوروبا من الغاز.
وبذلك تدخل روسيا وأوروبا مرحلة “عض الأصابع”؛ فالاقتصاد الروسي القائم بالأساس على النفط والغاز اللذين يشكلان ثلثي الصادرات الروسية سيدخل مرحلة كساد واضحة بدأت إرهاصاتها، وكذلك الأمر بالنسبة لأوروبا التي أكدت أن بعض شركاتها ستتضرر من هذه العقوبات أيضًا؛ لذلك أكد خبراء اقتصاديون أنه يجب على الطرفين الإسراع بإيجاد حل ينزع فتيل الأزمة.
وفي محاولة أمريكية لتدارك الأمر لكي تتجنب “ضجر” الشريك الأوروبي بسب نقص كميات الغاز التي تحتاجها السوق الأوربية؛ أسرع الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى التصريح عقب قمة الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي التي عُقدت ببروكسل مؤخرًا بأن بلاده مستعدة لتصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا لتأمين احتياجاتها اليومية وهو الأمر الذي أجمع خبراء الطاقة على استحالته عمليًا وأنه على أوروبا تنويع مصادر الحصول على الطاقة إذا أرادت المرور بسلام من هذه الأزمة.
فعمليًا لا يوجد بنية تحتية أمريكية لتصدير الغاز عبر المحيط رغم أن الولايات المتحدة شرعت بالفعل في بناء 6 محطات لتصدير الغاز المسال لكن هذا الأمر سيأخذ وقتًا في التنفيذ، كما أن هذه المحطات الأمريكية إذا نجحت بالفعل في الوصول إلى السعة القصوى التصديرية للغاز عبر المحيط فإنها ستُأمن لأوروبا ما يقارب 118 مليار مترًا مكعبًا من الغاز وهو أقل بكثير مما تصدره روسيا لأوروبا؛ ما يعني استحالة الاعتماد على الشريك الأمريكي في هذا الأمر، إذ إن روسيا صدرت إلى أوروبا في عام 2013 ما يقارب 135 مليار مترًا مكعبًا من الغاز هذا بالإضافة للتصدير إلى تركيا، فالأمر أصبح معقدًا للغاية هذا بفرضية أن الولايات المتحدة تستطيع أن تصدر بالسعة القصوى والطاقة الإجمالية لمحطاتها الجديدة لتوصيل الغاز إلى السوق الأوربي وهو أمر مشكوك فيه اقتصاديًا.
ماذا فعلت روسيا للاحتفاظ بورقة ضغط الغاز؟
الروس يعلمون جيدًا منذ سقوط الاتحاد السوفيتي أن عدم امتلاكهم لمصادر الطاقة كان أحد أبرز نقاط ضعفهم، فأدركت روسيا إستراتيجية اللعب على امتلاك الغاز فكانت شركة “غاز بروم” التي صالت وجالت في مناطق الاتحاد السوفيتي القديم المجاورة لروسيا حتى سيطرت عليه بمناطق أذربيجان وتركمانستان ومد الجسور مع إيران لتسهيل عملية التسويق كذلك إطلاق مشاريع السيل الشمالي والجنوبي للتنقيب عن الغاز ومع حالة الاستغناء المتدرجة عن النفط واللجوء إلى الغاز سيطرت روسيا على السوق الأوروبية؛ لذلك أسرعت الولايات المتحدة إلى إطلاق مشروع “نابكو” لمنافسة العملاق الروسي.
وبالنظر إلى خريطة الغاز في العالم نجد أن لروسيا نصيب الأسد بها :
– مناطق روسيا الداخلية هي الأغنى بالغاز (فيبورج – وبيري جوفيا).
– المناطق المحيطة: تركمانستان – أذربيجان.
– علاقات وطيدة مع إيران
بينما عملت الولايات المتحدة على اقتناص الغاز القطري والمصري والجورجي من الشركات الروسية والتموضع في أسيا الوسطى والبحر الأسود ومحيطه ليظل الصراع قائمًا بين المشروع الأمريكي والروسي في الغاز، بيد أن الروس أحرزوا تقدمًا في هذا المجال هذه المرة على الأمريكيين.
العلاقات الروسية الألمانية في مجال الطاقة
ساهمت ألمانيا بالأساس في تأسيس رأس حربة الغاز الروسي “غاز بروم” عن طريق نائب رئيس شركة النفط والغاز الألماني والذي أشرف على بناء شبكة خطوط الأنابيب التابعة للشركة الروسية.
كما تستورد شركات ألمانية غاز روسي بأسعار مخفضة من شركة غاز بروم في حالة ارتفاع الأسعار؛ ما يظهر عمق العلاقة بين روسيا وألمانيا في مجال الطاقة.
كما تظهر أيضًا متانة العلاقات الروسية الألمانية في هذا الصدد بشراكات روسية مع أكبر منتج للغاز والنفط في ألمانيا “وينترشال” التي تسيطر على 18% من سوق الغاز، وفي هذا الشأن صرح رئيس قسم سياسات الطاقة في حزب الخضر الألماني أن روسيا لديها شبكة معقدة جدًا من المصالح مرتبطة بألمانيا في مجالات الاستثمار بالطاقة؛ ما يجعلها تشارك في صياغة سياسات الطاقة الألمانية ككل وهذا يبرر التضرر الألماني من العقوبات على روسيا، وأضاف أن ثمة صمتًا ألمانيًا مدفوع الثمن على بعض التجاوزات الروسية بسبب الضغط على الحزب الديمقراطي الاجتماعي ما يؤكد أن لروسيا يد في صياغة السياسة الألمانية التي ترفض الخطط الأوروبية عادة لتجاوز الأزمات، معربين عن عدم جديتها وواقعيتها لتبرير الاستمرار في الشراكة مع روسيا.
روسيا تهرب إلى الصين
عقب العقوبات الاقتصادية التي وُقعت على روسيا وهروب رؤوس الأموال الأجنبية من الاستثمار في مجال الطاقة الروسية كان على روسيا إيجاد بديل فوري لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
فقد أطلقت روسيا مشروعًا يسمح بمد الصين بالغاز لأول مرة عن طريق مد خط أنابيب يصل طوله أربعة آلاف كيلو مترًا ليصل إلى شرق الحدود الصينية بموجب عقد قيمته 400 مليار دولارًا في فترة 30 عامًا وهو عقد لا شك بأنه ضخم وأن الصين قد نجحت في استثمار الأزمة الروسية ويبدو أنه بصيص أمل للروس في إحراز تقدم في حربهم الباردة المشتعلة مع أوروبا والولايات المتحدة، وبهذا تنطلق روسيا نحو أسيا بسرعة هائلة لتعويض خسائرها في أوروبا التي أدركت ضرورة التخلي عن الغاز الروسي والبحث عن بدائل له، وعلى هذا التغير في السياسة الروسية الجديدة قدرت صحيفة (ول ستريت جورنال الأمريكية) أن صادرات النفط الروسي بلغت 30% مطلع العام الحالي وهو أمر يبرز تحول كبير في السياسة الروسية، وقد أعرب وزير الطاقة الروسي أن صادرات النفط والغاز إلى أسيا قد تزيد للضعف وهو ما يجعل دول كالصين في أسيا وتركيا إلى الاستفادة القصوى من الأزمة الروسية الأوروبية بتأمين مصادر طاقة روسية بأسعار مخفضة وهو ما جعل خبراء الطاقة والاقتصاد يؤكدون أن لجوء الصين إلى روسيا ليس شراكة إستراتيجية لأن الصين لا تستطيع الاستثمار في مجال الطاقة الروسي لرفع كفاءته ولكن ما تم هو استغلال للأزمة للحصول على مصدر للطاقة مؤقتًا بشكل سريع ومخفض.
محاولات لضرب منظمومة إنتاج النفط في روسيا
من المعروف أن روسيا تعتمد كليةً على تصدير النفط وعائداته، ومع أزماتها الاقتصادية المتلاحقة مؤخرًا وقيام منظمة الأوبك والدول الأعضاء بها مع تهاوي أسعار النفط بالاستمرار في إنتاج النفط بكميات كبيرة؛ ما أدى إلى ثبات سعر البترول عند مستوى متدني وهو ما يزيد من إلحاق الضرر بروسيا، والحقيقة أن الأمر غير متعلق بالروس فقط لأن الدول الأعضاء بالمنظمة تصر على إلحاق الخسارة بالمُعتمدين على إنتاج النفط الصخري عالي التكلفة في استخراجه ليحتفظ النفط التقليدي برونقه وبسعره في السوق، وهو أمر يمكن أن يوصف بأنه “ذو بعد سياسي” في ظل تراجع الطلب على النفط بعد دخول مشتقاته من الغاز وغيرها حيز تسويقي أكبر ألحق ضرر بأسعاره؛ ما سيجعل أسعار النفط تُحدث تغييرات جيوإستراتيجية في المناطق المنتجة والمصدرة والدول المستهلكة أيضًا وهو ما ألقى بظلاله على روسيا والاتحاد الأوروبي.
والخلاصة في الأمر أن دول شرق ووسط أووربا ذهبت إلى خيار التنقيب بعد التهديدات الروسية لأمن الطاقة الأوروبي في ظل عجز أمريكي عن إيجاد حل في هذا المجال، ولكن الأمر دون جدوى حتى الآن، وما زال البحث قائمًا عن إيجاد بديل للاستيراد لتلبية حاجة السوق الأوروبي أو التراجع خطوات تجاه الملف الروسي.
ما يشير إلى احتمالية انكماش الاقتصاديات الأوروبية في ظل توقعات بارتفاع أسعار واردات الطاقة بأوروبا، كما أن الصين ستذهب إلى تغطية بعض من احتياجاتها عن طريق روسيا المُثقلة وستظل حالة الترقب قائمة بين الاقتصاد الروسي المُثقل وكذلك الاقتصاد الأوروبي الذي يشهد حالة من الهزال في الفترات الأخيرة؛ ما يؤكد أن صراع الطاقة الحالي أصبح صراعًا إستراتيجيًا أوجب على أوروبا البحث جديًا في مسألة إيجاد بديل إستراتيجي عن روسيا أو التصالح التام معها.