تحدثنا بمقال أسبق عن تصور عام لحال الدولة المصرية وكيفية عملها؟ وتحدثنا أيضًا بالمقال السابق عن إحدى إشكاليات الحركة داخل تنظيم الإخوان وهو عدم وجود توزيع أكبر للمعلومات داخل جسد التنظيم.
نود هنا أن نعرض إحدى الإشكاليات الحركية داخل الإخوان، ولكن من منظور أو مدخل تجربة الإخوان في التعامل مع الدولة المصرية.
نود بداية عطفًا على المقال السابق القول بالرغم من أننا لم نناقش إشكالية هل قيادة الإخوان حقًا لديها معلومة كاملة أم لا وناقشنا عوضًا عن ذلك هل من الصحيح أصلاً أن تمتلك قيادة الإخوان المعلومة الكاملة، أن نقر هنا بأنه بالفعل بمحطات عديدة توفر لقيادة الإخوان معلومات كاملة حول جميع الأزمات التي تواجههم ولم يكن عندهم نقص؛ فلذا لم يكن هذا هو الخلل الذي أدى لحالة فشلهم ..فإذن ماذا كان السبب؟
للإجابة على هذا السؤال نود عرض نموذج لأحد مصادر المعلومات “الموثوقة” التي توفرت لدى قيادة الإخوان:
كان هذا النموذج هو ظابط بإحدى الجهات السيادية أو أحد الأجهزة الأمنية على اتصال بشكل مباشر بالمهندس “خيرت الشاطر” من بعد الثورة، وكان هذا الظابط هو مصدر المعلومات الأول لدى المهندس خيرت عما يحاك أو يخطط للإخوان، وبالرغم من أن كاتب المقال كان تقييمه لهذا الاتصال عندما علم بشأنه أن هذا الظابط كانت قد زرعته الأجهزة الأمنية على المهندس خيرت بغرض إيصال معلومات مضللة للمستوى القيادي بالجماعة، ولكن أصحاب الخبرة في التعامل مع المهندس خيرت – وليس كاتب المقال منهم – ينقلون عنه أن السمة الأساسية به أنه رجل شديد الحذر وشديد الشك ولا يتم خداعه بسهولة؛ ففكرة زرع ظابط لديه كنوع من الاستخبارات المضادة تبدو عسيرة خاصة وأن المهندس خيرت كان يتعامل مع الرجل بوصف ما يبلغه كوقائع لا تقبل التشكيك بها وهذا يدل على مقدار الثقة التي حازها لدى المهندس خيرت، فضلاً عن أن هذا الظابط قد تم معاقبته وشبه إزاحته من موقعه بعد 30 يونيو بعد أن كان يملك فرصة واعدة ليكون بموقع أكثر حساسية إذا ما تجاوز الإخوان أزمة 30 يونيو.
هذا هو أحد النماذج لعلاقة الإخوان بالدولة من بعد ثورة 25 يناير ومثله كثير يمكن تفصيله لاحقًا.
ولكن إذا انتقلنا للعلاقة ما قبل 25 يناير فعلينا الرجوع للحظة تأسيس بنك فيصل الإسلامي والرجوع إلى مجموعة مؤسسيه ممن يًطلق عليهم رجال الأعمال الإخوان، حينها بدا أن الدولة تفتح ذراعيها للعلاقة مع الإخوان، واُستقبل المهندس “يوسف ندا” وزمرته استقبال رؤساء الدول بمصر بعد أن خرجوا منها بالعهد الناصري مطاردين ومنفيين.
كان أحد المشاركين بالتأسيس هو المهندس “حلمي عبد المجيد” النائب السابق لرئيس مجلس إدارة المقاولون العرب وكذلك نائب وزير الإسكان حينها، والذي كان يُوصف بأنه المرشد السري للإخوان بالسبعينات – بالرغم من أن هذا غير صحيح حيث تم معرفة شخصية هذا المرشد السري وقتها على لسان “صدر الدين البانيوني” المراقب العام الأسبق لإخوان سوريا بشهادته على العصر مع الإعلامي أحمد منصور-، ولكن عمومًا فالمهندس حلمي – رحمه الله – كان عضوًا بالهيئة التأسيسية للإخوان وعضو بالنظام الخاص وهو بنفس الوقت كان من مؤسسي شركة ضخمة ومن أهم الشركات لدى الدولة المصرية على امتداد عصورها الثلاثة وهي المقاولون العرب.
فمن ثم تسليط الضوء على شخصية المهندس حلمي عبد المجيد – رحمه الله -من الممكن أن يُعيننا على فهم أفضل لتفاعل الدولة المصرية بفترة التسعينات مع الإخوان.
ولكن ليس المهندس حلمي هو من نحن معنيون بتقديمه كمثال إنما ما نود الإشارة إليه هو رجل أعمال إخواني قريب من المهندس يوسف ندا وأحد من أسسوا معه مجموعته البنكية بسويسرا، أتى إلى مصر معه في فترة تأسيس بنك فيصل وبحلم وأمل أن الدولة فتحت الباب للتشبيك مع الإخوان، كان طموحه بالأساس أن يفتح المهندس حلمي عبد المجيد له ولمجموعته الباب للاستثمار العقاري الموسع بمصر.
هنا نتوقف قليلاً ونذّكر بأن أحد أهم إن لم يكن البند رقم واحد للصراع على الموارد والنفوذ بين شبكات الدولة العميقة هو الصراع على الأرض العقارية وما عليها، وكان الجيش ومازال يخوض صراع تكسير عظام بين الجيش من جهة والمخابرات العامة ومجموعة رجال أعمال جمال مبارك من جهة أخرى.
وبسبب هذا الصراع حدثت محطات كثيرة بداية من القانون الذي ينص على أن أي أرض صالحة للتطوير العقاري بمصر هي مملوكة للقوات المسلحة ثم تتفضل القوات المسلحة باقتطاع جزء مما تملكه ومنحه لهيئة المجتمعات العمرانية أو هيئة الاستثمار أو غيرها .. إلخ! ثم ما حدث بمنح الأراضي لمستثمري جمال مبارك بسعر أقل من قيمتها للمتر ثم بيعها بسعر أعلى .. إلخ.
ولنتذكر أن رجل الأعمال الوحيد الذي ذكرته بيانات القيادة العامة للقوات المسلحه كأحد قادة الثورة المضادة بعد خلع/ تنحي مبارك كان “إبراهيم كامل” في البيان الثالث لها.
من الطريف في تلك القصة أن الرجل عندما استفسر عن سبب وجود اسمه تحديدًا في بيان الجيش قيل له “ابعد عن الاستثمار بأراضي الضبعة”.
(بالمناسبة لم ولن يوجد أي مشروع نووي بأرض الضبعة إطلاقًا، إنما فكرة المشروع النووي هو ما تفتق عنه ذهن القوات المسلحة لسحب تلك الأرض من خصومهم بشكل نهائي، على أساس أنها الآن صارت أرض مخصصة لمشروع يدخل بصميم الأمن القومي لا يستطيع أحد منافستهم به وهو النووي، ثم إجلاء أهل الأرض منها بحجة أنهم يتعدوا على حرم المحطة النووية والتي هي واقعًا ليست سوى محطة لتوليد الكهرباء).
وهناك عموما ماهو أكثر طرافة، حيث إن المؤسسة العسكرية بعدما تيقنت من إزاحة أو هزيمة منافسيها من رجال الأعمال بعد 30 يونيو، بدأت في التوسع بالمشاريع العقارية ومن المتوقع أن يحدث نمو هائل لقطاع الإسكان الفاخر وهو أحد اهم أسباب اختيار محلب رئيسًا للوزراء (المهندس محلب كان قريبًا أو لصيقًا بالمهندس حلمي عبد المجيد وقت عمله بالمقاولين العرب).
فالطريف هنا أن أراض كان يحيطها أسوار شائكة وكانت أماكن لتمركز كتائب من الجيش ويعلوها يافطة “منطقة عسكرية ممنوع الاقتراب أو التصوير”، فجأة بين ليلة وضحاها نُقلت الكتائب المتمركزة لأماكن أخرى وأصبحت تلك الأرض منطقة مدنية خاضعة للاستثمار والتطوير!
فعودة للسياق بعد هذا الاستطراد نقول إن رجل الأعمال الإخواني هذا الطموح والذكي كان مدرك تمامًا لمسألة الصراع على الأرض، فمن ثم قدّر أن الوزن الأكبر والأثقل هو للجيش بتلك اللعبة، فقرر استثمارًا لتأسيس بنك فيصل ولكون أحد المؤسسين المهندس حلمي عبد المجيد أن يطرح نفسه ومجموعته كشركاء للجيش بالتطوير العقاري بشكل قريب الآن من شراكة الجيش مع الإمارات والسعودية، ولكن بعد أخذ ورد جاء الجواب بالزجر وأن تلك مساحة مُحرمة لا يشارك الجيش بها أحد!
هنا انتهى المثالان على طريقة تعامل الإخوان مع الدولة المصرية قبل وبعد 25 يناير.
من هنا نستطيع استنتاج أن الأزمة الأساسية في تعامل الإخوان مع الدولة نابعة من تعامل الإخوان معها بالمنطق العصائبي، بمعنى الخلل عند الإخوان في الرؤية هو النظر للطرف الآخر من المعادلة بأنه مجرد عصابات وأمراء إقطاعيات مسلحة وملوك طوائف وهو صحيح تمامًا وقلنا سابقًا إنه يجعل المستقبل مخيف لأنه يحمل نذر أن تدخل الدولة طور التحلل والتفسخ، ولكن التعامل بناء على هذا المنظور فقط يحمل رؤية أحادية ستوقع بكوارث عديدة وأوقعت كوارث عديدة.
لذا فمهما حمل الظابط السالف ذكره وغيره للمهندس خيرت من معلومات سيظل عنده قصور بالرؤية لأنه يتعامل مع الجهاز الأمني والمعلوماتي على أنه عصابة وجب اختراقها وحوكمتها وتطويعها لمشروع التمكين لدى الجماعة ثم التعامل معها فقط من منطلق أنه جهاز يوجد صراع كان مكتوم بينه وبين الإخوان ثم ظهر للعلن وتحول لصراع صفري مع 30 يونيو.
ولم يكن مطروحًا أبدًا – على حد علمي – أي حديث جدي عن ماهية ودور أجهزة الأمن المتعددة وماهو هو مفهوم الأمن سواء الأمن الإنساني أو الأمن المجتمعي أو الأمن القومي، وكيف تعمل تلك الأجهزة من منظور أن أمن الإنسان الفرد وسيادته وكرامته هو أمن الدولة ككل وأن الأمن هو علاقة تكافلية بين المجتمع، أي أن أمني التام يتحقق بأمن شريكي في العيش المشترك بالمجتمع وليس منقص أو مهدد له، ومن ثم تطويع أجهزة الأمن لتلك الرؤية، هذا أو غيره أي جوهر الأمن – على حد تعبير روبرت ماكنمارا وزير الدفاع الأمريكي الأسبق بكتابه الذي يحمل نفس العنوان – لم يتم التفكير به من الأصل.
وستظل علاقة التشبيك مع اقتصاد الجيش حتى وإن نجحت غير ذات جدوى طالما أن الرؤية التي لدينا ليست متعلقة بإشكالية عدالة المسكن وليست متعلقة بإشكالية أن هناك من يعيشوا بقصور ومن لا يعيشوا تحت سقف أصلاً أو بعشش صفيح وحتى هؤلاء يتم جرفهم ببيوتهم بما عليها إذا تعارض وجودهم مع خطط وطموح السادة أصحاب الأرض بما عليها – مساكن رملة بولاق، جزيرة الوراق، وعزبة الشيخ صقر كنماذج -.
ومع كل هذا لا يفطن الإخوان أنه بالرغم من أن الطرف الآخر من اللعبة هو بالفعل عصابات وإقطاعيات إلا أن صراعهم هو صراع بيني سيظل تحت سقف محدد هو سقف الدولة التي هي بمثابة العقد الناظم لجميع تشبيكات مصالحهم وتحالفاتهم وسيظلون مثل الجسد المغلق الذي يتوحد ليلفظ “الفيروس” الذي يفد إليه من خارج منظومته كما حدث في 30 يونيو.
هذا هو العامل أو أحد الإشكاليات الرئيسية التي تجعل الطريق لمشروع التمكين الإخواني صعب إن لم يكن لا يصل إلى نتيجة بكل مرة، وليس التناقضات بداخل هذا المشروع نفسه التي سنتحدث عنها بمقال قادم.
كيف الخروج من هذا
الآن أمامنا فرصة سانحة جديدة في 25 يناير القادم وتلك الفرصة لأسباب يطول شرحها ستخلق زخمًا استثنائيًا يمكن أن يُمثل مدخل لبناء نواة لتحرك جديد سواء من حيث فلسفته أو أدواته وبطبيعة الحال – شئنا أم أبينا – سيكون الإخوان نواة الحركة خلال الأيام القادمة وما يليها من فترة قادمة حتى 30 يونيو 2015.
يستطيع الاخوان تغيير مصائرهم ومصائر تلك البلد إذا ما كان حراكهم بالمرحلة القادمة التي ستلي 25 يناير يحمل فكرتين رئيسيتين:
1- قوة التحرك الجماهيري هي دومًا الموازن والمعادل بين أركان الدولة المتصارعة وهي التي تحفظ كيان الدولة من الدخول بطور التحلل والانهيار، فقلنا سابقًا إن وظيفة رئيس الجمهورية كانت الموازنة بين الأجهزة السيادية أو أركان الدولة العميقة.
فلم لا تكون حركة الجماهير هي الموازن بالجمهورية الجديدة، فالآن نستطيع تلخيص الأزمة أن بقية أركان الدولة العميقة تنظر لشخص السيسي على أنه مندوب الجيش برئاسة الجمهورية ليتغول عليها، فلا يعقل أو هناك نهاية منطقية لهذا الصراع تحفظ كيان الدولة إلا أن يكون الطرف الفائز أو محقق النصر triumph هو من سينحاز لإرادة الجماهير الواعية بذاتها والتي تطمح من خلال حركتها لتحقيق عقد اجتماعي جديد بينها كأفراد ثم بينها كشرائح ينتظم بهذا العقد الاجتماعي ال.أجهزة الأمنية والسيادية
2- الحراك الجماهيري القادم سيكون هدفه هو الإنسان واستعادة كرامته وإنسانيته المقهورة أمام ماكينة الدولة الجبارة ليتم فرض بعض الإنسانية إن لم يكن كلها وبعض المؤسسية إن لم يكن كلها بعلاقة الدولة بشعبها بكافة وجميع المستويات.
فأحد أهم مكامن الخلل البنيوي للدولة المصرية بل الدولة العربية عمومًا هو أنها تنطلق من مفهوم هلامي غير محدد المعنى وهو ” نظرية الأمن القومي الحاكمة للدولة ككل”.
مفهوم الأمن القومي هذا هو بالنهاية عبارة عن كهنوت يحدد ماهيته وسبل تحقيقه “خواص الخاصة” بالكيان الإداري للدولة والتصور الحاكم لهذا المفهوم أيًا كانت تصوراته الفرعية للصراع مع العدو الإسرائيلي مثلاً أو العلاقة مع الخليج والمحور الإيراني والجماعات العابرة للحدود كالإخوان مثلاً أنه مفهوم منفصل عن أمن الإنسان الفرد الذي يعيش بنطاق تلك الدولة.
وستجد بالعديد من أدبيات الدولة المصرية عبارات مكررة بمعنى أنه إذا كان الأمن القومي متعارض مع أمن مجموعة من الناس مهما بلغ حجمها، فسيتم إعلاء “أمن الوطن” على أمن مجموعة الأفراد.
هذا هو المنطق الذي تحرك به حافظ الأسد في صراعه مع الإخوان والذي بلغ الذروة بمجزرة حماة، وهذا كان منطق التحرك حديثًا في مجزرتي رابعة والنهضة وما تلاها، وهو التحرك الحاكم الآن للمجازر المًرتكبة بحق سيناء الحبيبة.
هذا المنطق نابع من العقلية العسكرية الكمية التي لا تجد غضاضة بالتضحية بعشرات الآلاف بل مئات الآلاف مقابل ما حددته هي لحفظ أمن 86 مليون مصريًا لا ما حدده الـ 86 مليون مصريًا بأنفسهم.
فما نقوله إن تحرك الإخوان أو القوى المناوئة للانقلاب سيكون ذا جدوى إذا انطلق من تصور “درء تعارض أمن الإنسان الفرد مع أمن الدولة ككل”، وأن الأمن القومي إنما يُقاس مدى تحققه بالقدر الذي يراه كل إنسان محققًا في معاشه وحياته الخاصة.
ومن ثم المطلب الأهم من تحرك الجماهير في الشارع أو أي مناحي الحركة ليس قضية مختزلة بالشرعية والانقلاب، إنما أن تصل تلك الجماهير من خلال حركتها لوعي بنفسها وإدراك وتحديد لما هو أمنها المشترك، ومن ثم النضال لتحقيقه وإنجازه.
حينها سيكون من الممكن أن يُكتب للإخوان النجاح .. والتمكين.