تكاد تنفرد التجربة الحزبية الجزائرية بخاصية الانقسامات المتعددة إلى درجة أصبحت فيها تُنتج أحزاب أكثر من الأفكار، بل لعلها الفكرة الوحيدة التي أنتجتها نخبتنا السياسية الحزبية مما ساهم في ركود المشهد السياسي الجزائري، والملفت في هذه الحالة أن اللجوء لتأسيس أحزاب جديدة لا يتم إلا بعد معارك طويلة من أجل الانقلاب على السلطة القائمة في الحزب الأم، وفي حالة الفشل يلجأ في الأخير إلى بديل حزبي آخر، وهذه الظاهرة شملت كل الأحزاب السياسية بمختلف توجهاتها الأيديولوجية، ولا شك أن الموضوع من كثرة حضوره يطرح العديد من الأسئلة لتفسيرها، وهو ما حاول الأستاذ محمد بغداد طرقه في مؤلفه “النزعة الانقلابية في الأحزاب الجزائرية”.
الأثر التاريخي .. ضد الكاريزما
يقتفي المؤلف في البداية الآثار التاريخية للظاهرة في التجربة السياسية الجزائرية، وينطلق من خمسينيات القرن الماضي مع الحركة الوطنية ممثلة بشكل خاص في حزب الشعب الجزائري الذي يعتبر أول مظهر للانقسامات الحزبية ببروز ثلاثة أجنحة فيه: الميصاليين، والمركزيين، والتيار الثالث الذي بعد فشل محاولاته لجمع الطرفين لجأ لخيار محايد أدى في الأخير لاندلاع ثورة أول نوفمبر، والمفارقة هنا أن النزعة الانقلابية كانت منتجة وفعّالة على عكس ما تلا مرحلة الاستقلال حيث التدهور والتراجع في كل المستويات.
لا ندري ما هو السبب الذي دفع الكاتب لاختيار هذا التاريخ في التأسيس لفهم الظاهرة، فباستثناء الجانب المؤسسي ممثلاً في الأحزاب السياسية والذي يؤرخ له من هنا بشكل أو آخر، فإنه يمكن القول إن الظاهرة في بُعدها الثقافي والمنظومة القيمية والخيال الاجتماعي أقدم من هذه المرحلة، ولعل المقاومات الشعبية للاستعمار والتباعد بين الأمير عبد القادر وأحمد باي دليل على ذلك.
كما أنه وعلى عكس ما ذهب إليه الباحث بربطه الظاهرة بصورة الزعيم السياسي التي تشكلت من الممارسات السياسية التي توارثتها الأجيال، فإننا نجد بالعودة إلى التاريخ أن المجتمع الجزائري لم يشهد ظاهرة الزعيم الكاريزمي الأوحد، وهذا لعله أحد أهم أسباب النزعة الانقلابية، فالملفت للانتباه في كل الحالات أن الانقلابات حصلت في زمن القائد الزعيم بداية بميصالي الحاج، مرورًا بثورة نوفمبر والتي لم تتمحور حول قيادة واحدة، وبذلك تكاد تكون استثناء من باقي الثورات التي كان يقف على رأسها زعيم كاريزمي، وأيضًا مرحلة هواري بومدين الذي تبقى كاريزميته محل جدل، وحتى الأحزاب السياسية في مرحلة ما بعد التعددية.
هذه البصمة الاجتماعية إضافة إلى التحولات الجارية في الوطن العربي وما أحدثته من تغييرات على صورة الزعيم الذي بدأت ملامحه الأسطورية في التلاشي والتواري تحت ضغط هيمنة المؤسسة الزاحف، لتأخذ مكانه في النهاية، والحركات الانقلابية التي تساهم بدورها في تآكل البُعد الكاريزمي للقيادات السياسية، حيث تتمرس القاعدة النضالية على سلوكيات جديدة تتمثل في الاستهتار بالقيادة، وتتحول في ذهنها إلى مجرد شخص يمكن الانقلاب عليه، كل هذا ينبئ بترسيخ هذه النزعة داخل الأحزاب، خاصة وأن من يتصدر الحركات الانقلابية تلك الفئات الاجتماعية التي تملك تراكم في الانتساب إلى المؤسسات البيروقراطية، وتأخرت في الوصول إلى السلطة، وترى أن القيادة العتيقة هي العائق الذي تعيش بسببه “عنوسة سياسية”، وأن أعمارها تذهب في الأجهزة الإدارية، من هنا فإن تآكل البُعد الكاريزمي في سياق التحولات العالمية يعزز النزعات الانقلابية ومن ثم ينبئ بالمزيد من الانقسامات داخل الأحزاب الجزائرية.
البلونيسية: ظاهرة متجددة
يعود الكاتب لتاريخ الحركة الوطنية والانقسامات التي حصلت داخلها، والمدى الذي بلغته كنموذج سيتكرر في الأحزاب الجزائرية بأشكال ومسميات مختلفة فقط، ولعل أهم ما يلفت في هذا المنطلق التاريخي الذي يرتكز عليه الكاتب هو امتداد الصراع بين المركزيين الموالين لمصالي الحاج والمعارضين لهم إلى ما بعد ثورة نوفمبر ومحاولة بلونيس الانتقام والثأر لما اعتبره خيانة، وخروجا عن الإجماع الوطني، وعن القائد مصالي الحاج بتأسيس جيش موازي لجيش التحرير الوطني يقال إنه كان مدعومًا من جنرالات العدو الفرنسي.
هذه الظاهرة هي التي تتكرر مع كل حالة انقلاب حزبي، حيث أنتجت مفاهيم ما زالت متداولة في وسط الحركات الانقلابية الحزبية، فهناك من يسعى للإصلاح والتجديد يقابله المحافظ الوفي للمبادئ والقيم مجسدة في القيادة، والخروج عنها خيانة لتلك القيم والمبادئ، والمفارقة أن مواجهتها والتصدي لها يتجاوز كل القيم والمبادئ الأخلاقية، حيث الأساليب الدنيئة والرديئة تباح وتصبح ضرورة للإصلاح وتلك مفارقة أخرى.
المتمرس والمثقف: الصراعات الشخصية
يتوقف الأستاذ محمد بغداد عند أزمة حزب الشعب الجزائري قبيل اندلاع الثورة التحريرية المجيدة والصراعات التي نشبت داخله، ويؤرخ للانقلابات الحزبية داخل الأحزاب الجزائرية ابتداءً من تلك الأزمة، ويعتبرها تكرار لنفس السيناريو مع تغير أسماء الممثلين لا أكثر، وتحديدًا ذلك
الصراع الشخصي بين الأمين العام للحزب دباغين، وزعيمه مصالي الحاج، واختلافهم في رؤية الأزمات، حيث يميل المتمرس إلى الترحيل والسير نحو المراحل المقبلة دون الاجتهاد في ابتكار حلول مناسبة وعقلانية؛ مما ترتب عنه انتصار المتمرس على المثقف؛ ليكون ذلك الانتصار القاعدة التي ستؤطر المراحل القادمة في الممارسة السياسية للأجيال اللاحقة، والسؤال الذي يُطرح هنا ألم يكن ميصالي الحاج مثقف؟ أوليس الفعل الحركي فعل ثقافي؟ أم أن الناشط السياسي مثقف من الدرجة الثانية؟ وهل اللجوء إلى العمل السياسي ينم عن صعوبة في مقارعة الفكر والتفكير؟
ما يرجح وفق الكاتب بُعد الصراعات الشخصية في الانشقاقات أنها تأتي بعد النتائج وليس عند الانطلاقة، فأهم عنصر في أزمة حزب الشعب أنها بدأت مع نتيجة الانتخابات، وليس بقرار المشاركة، ما يكشف عن ذهنية تقوم على ميلاد وصناعة الخلاف في محطة النتيجة وليس في موقع الانطلاق، ثم القفز مباشرة إلى شخصنة الخلافات، والخطوة التي تليها هي بذل كل الجهود من أجل التخلص من (شخص القائد) كونه المسؤول الأول والوحيد عن النتائج المترتبة عن القرارات، ويتم تحميله كل الأوزار والنعوت القبيحة، يقابله سلوك آخر على نفس المسار، وإن كان يختلف معه في الاتجاه، وهو التمسك (بشخص القائد) والاستماتة في الدفاع عنه، ورمي المعارضين بقصور الرؤية وقلة الجهد والدونية في الفهم، وإبراز محاسن الذات ومساوئ الخصوم، ويصبح حينها المستقبل مقرون بمصير القائد، غير أن ذلك لا يتجاوز الخطاب، فبعد إزاحته تستمر الأوضاع على حالها دون الاقتراب مما وعد به سابقًا، وهذا ما يجعلها السبب الأساسي لأزمات جديدة.
ولعل أهم النماذج المشابهة والمجسدة لهذه الذهنية هي أزمة حركة مجتمع السلم التي تمحورت حول نتيجة المشاركة في السلطة، وليس القرار بحد ذاته، والغريب فيها أن جل الأطراف كانت مع خيار المشاركة.
الاستيعاب الثقافي والوعي المؤسساتي
قصر النظر وقلة النفس خلال الممارسة الصراعية تحث على الجوء إلى حسم الموضوع من خلال شرعنة غير المشرعن (الانقلاب)، أو الانسلاخ بإنجاز هياكل موازية والتي تبشر بنتائج مريحة في المستقبل بديلاً عن المنغص السابق، وهذه الوعود بدورها تنتهي إلى ما هو أسوء بكثير مما كان عليه الحال قبل الانشقاق، وبدل الاستمرار وتدارك الخطأ فإن الإنجاز الجديد يسعى إلى تدمير الإنجاز القديم، والسعي إلى تجاوزه وإزالة آثاره من الواقع.
ومرد لجوء الأطراف المتصارعة للرأي العام واستنجادها به لحسم صراعاتها، دون التردد في استعمال الأساليب الميكيافلية إلى غياب بل وانعدام الفضاءات والمجالات العقلانية والتنظيمية التي يًفترض أن تحل في أجوائها الخلافات، وتدار الصراعات، وكذلك عدم استيعاب من الأساس مفهوم الحزب المستورد من ثقافة وتجربة تاريخية مغايرة.
مراحل الانشقاق
تمر الحركات الانقلابية وفق المؤلف بما خلص إليه من التتبع التاريخي والميداني لها بمراحل تتمثل أولاها فيما يلي:
- حركنة النزعة: بتوحيل الجهود إلى حركة منظمة، حيث توضع لها المبررات الذهنيةوالعقلية والسياسية المناسبة، أو ما تسمى بمرحلة التنظير، كل هذا يحصل عبر تراكم وترسب ممارسات في اللاشعور الجماعي لتنفجر نتيجة فعل عارض قد يكون إعلان أو تصريح أو مقالة.
- مرحلة التجريم: بكشف أخطاء وسلبيات وعيوب القيادة، ونقلها من مستوى التدبير الإداري العادي والسياسي اليومي إلى المستوى الأخلاقي الذاتي، وصولاً إلى المستوى الكلي كخيانة الوطن ومصالح المجتمع.
- مرحلة التفجير: التي تستهدف الكيان الحزبي عبر الانشقاق أو الخصومة القضائية، أو العيش برؤوس متعددة، وفي هذه المرحلة يتم إضعاف البناء الهيكلي، (وإن كان فعل الانشقاق بحد ذاته نتيجة لذلك)، حيث تستسهل النزعة الانقلابية تفجير الكيان القائم.
- مرحلة التدمير: ويكون كلي يشمل الرصيد الأدبي والسياسي والأخلاقي للكيان، إذ يتحول الهم الأساسي لكل طرف هو كيفية إزالة الآخر من الوجود نهائيًا، وإلغائه من الذاكرة الجماعية، وهنا تبرز نفسيات حادة تقوم على الانتقام البغيض الذي يمتد إلى الوجود المادي للإنسان، وهي أعلى مستويات مرحلة التدمير، دون انتباه الأطراف إلى أنها تقوم بتدمير ذاتي.
مميزات الحركة الانقلابية
كما تتميز الحركة الانقلابية على المستوى الفكري بما يلي:
- المغالطات: التي تتجلى في توجيه الحركة الانقلابية الأنظار إلى منطقة ما وإلغاء الحلول أو الأسباب المنطقية لأية فكرة.
- الإسقاطات: هي مجموعة التبريرات والأعذار التي يُنتجها أطراف الحركات الانقلابية للتهرب من مسؤولية الفشل أو الخلل، فالقيادة تتهم الانقلابيين بالتمرد والتسبب في الأزمة لعدم احترام النظام وقواعد الحزب، والانقلابيين يُرجعون الكارثة إلى ذهنية القيادة وسلوكياتها التسلطية والإقصائية والديكتاتورية.
- التنميطات: غالبًا ما تكون في شكل الرأي الثابت، ذو الطبيعة القيمية والتعميمية، وهي الصورة التي يشكلها كل طرف من أطراف الحركة الانقلابية عن بعضهم، وتمتاز بكونها قيمية من خلال إصباغها بمجموعة من القيم مثل الخيانة والوفاء والمرتزقة والخارجين عن القانون، والتي تصل إلى مستوى التعميم الكلي، وتأخذ زاوية الثبات والإصرار على التمسك بها.
أشكال النزعات الانقلابية
كعادته ينتقي الأستاذ محمد بغداد عناوين متميزة لمحاور الموضوع، ومن ذلك تقسيمه النزعات الانقلابية إلى ثلاثة اتجاهات: (المحاصرة، المطاردة، المضايقة)، غير أننا لا نلتمس مبررات موضوعية في تصنيفه للنزعات الانقلابية إلى الأقسام الثلاثة السابقة، خاصة لما نجده في كل واحدة منها يركز على حزب واحد إلى حد ما، حيث يربط اتجاه المحاصرة بحزب “حركة مجتمع السلم” وإن كان أشار في بعض المواضع لأحزاب أخرى، أما اتجاه المضايقة فيستهله مباشرة بحزب “التجمع الوطني الديمقراطي”، وبالنسبة لاتجاه المطاردة فإنه يفرده للصراعات داخل حزب “الجبهة الوطنية الجزائرية”، وفي المجمل فإن الصورة تبقى واحدة في كل الاتجاهات أو الأحزاب والجميع يطارد الزعامة، والمصالح الشخصية ومحوريتها في تلك الصراعات كغاية والشخصنة كوسيلة.
ظلال العشرية السوداء على الأحزاب
يقف المؤلف عند العشرية السوداء وأثرها على الأحزاب، حيث أسست للفساد العلني والانخراط فيه دون حياء أو خجل، والبداية بالقيادات نفسها، لدرجة إنتاج خطاب تبرير الفساد من الأحزاب الإسلامية، خاصة التورط في المال العام، كما دخل جراءها حزب جبهة التحرير الوطني في معارك وهمية أثقلت كاهله وألحقت به ضربات قاصمة، وبشكل عام سيطر الإحباط على نفوس المناضلين، وتراخت الهمم وانصرف الجادون والمخلصون مبتعدين عن فيروس اليأس الذي تنتجه القيادة، وهنا نجده يحمّل القيادة لوحدها المسؤولية في هذا رغم أنها هي الأخرى لربما ضحية للعشرية السوداء.
وأخطر النتائج المترتبة على هذا كله تحول الهياكل والتجمعات إلى تشكيلات أقرب إلى اللصوصية وتنظيمات المافيا، وتكون السلطة أقرب إلى الغرائز الهمجية، منها إلى العقل المتزن، وتكون الممارسة السياسية حرب وجود وقتال مصالح، وليس نضال من أجل الأفكار أو المشروع، كما يكون الولاء مؤقت وسريع الزوال.
في الأخير يعرج المؤلف على دور المثقف والنخب العلمية في دراسة الظاهرة وتفسيرها، ويعيب عليها عدم اقترابها منها وكيف تتحجج بالترفع للتغطية عن عجزها بينما لا تجد حرجًا في الوقت نفسه من استيراد تفسيرات من فضاءات موازية أجنبية وترويجها وتسويقها مجانيًا.
ولا يغفل أيضًا دور الإعلام الوطني والواقع المُزري الذي يعيشه واستثمار الحركات الانقلابية فيه، حيث تجده يحقق أهدافها وأحيانًا هو من يبحث عن اختلاقها، وتصبح مصدر الثروات والمصالح، فلا يستغرب حين ذاك ميلاد النزعات الانقلابية في أحضان الممارسة الإعلامية، والتي تتحول عبرها إلى مادة استهلاكية تخضع إلى قوانين ومنطق الإشهار الاستهلاكي، الذي يحقق الإشباع الذاتي لعناصر الحركات الانقلابية، الذين يتحولون إلى نجوم وربما رموز اجتماعية، في مقابل تمرس بعض الانقلابيين في الحروب الإعلامية لتجاربهم السابقة ونسجهم علاقات جيدة تمكنهم حسم معاركهم من خلاله.