في الحقيقة أوان رحيل محمود عباس آن منذ زمن بعيد بعيد، ولكن عوامل سلبية كثيرى سمحت بإطالة أمد رحيله حتى يومنا هذا، وبعض تلك العوامل مازال يفعل فعله لتأجيله أكثر فأكثر.
على أن أوان رحيله الآن قد أصبح أشدّ إلحاحًا، وزادت العوامل التي أصبحت تصرخ عليه بأن يرحل، لأن استمراره لم يعد محتملاً حتى من أقرب المقربين إليه، كما من قبل الفصائل والشخصيات التي تحالفت معه وسارت في ركابه، أما قيادة فتح فهي الأعجب من بين جميع من يستمرون في تأييده إذ مازالت آخر من سيرفع الصوت مطالبًا بأن إصراره على المضي بإستراتيجيته وسياسته تجاوز كل ما هو غير معقول وصولاً إلى غير معقول أبعد من كل تصوّر وخيال.
ماذا يحدث الآن؟ ما إن وضعت حرب قطاع غزة أوزارها، وبالرغم من الانتصار العسكري الميداني الذي حققته، عمل محمود عباس على إجهاض الانتصار، ثم انتقل إلى تعليق المصالحة الوطنية على شروط ثلاثة وخلاصتها: وضع قرار السلم والحرب بالكامل في يده، وبسط سلطته على قطاع غزة، كما هو الحال في الضفة الغربية، مع الإصرار على أن يوضع سلاح المقاومة بأمره تحت شعار “سلاح واحد”ـ أي تصفية سلاح المقاومة وأنفاقها ومطاردة كل مقاوم وسحب سلاحه كما فعل ويفعل بالضفة الغربية، وهو ما دفعه إلى الإسهام النشط في حصار غزة، والحصار كل حصار هدفه الإخضاع والتركيع.
هذه الشروط لا يمكن أن توافق عليها فصائل المقاومة جميعًا، الأمر الذي يعني أن محمود عباس أصبح يُغني خارج السرب، بما في ذلك السرب الذي كان من حوله، واعتُبِرَ سربه، وهو ما عكسته اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في عهده؛ مما أدّى إلى شلّ م.ت.ف تمامًا، ولكنها لم تعد قادرة على مجاراته ثم جاءت انتفاضة القدس التي أجبرت نتنياهو على التراجع خلال ثلاثة أيام، وجاءت بكيري وزير خارجية أميركا إلى عمان ولقائه محمود عباس خصوصًا للتهدئة واتخاذ الإجراءات التي تحول دون استمرار انتفاضة القدس وانتقال “عدواها” الحتمي إلى الضفة الغربية، وهنا أقدمت الأجهزة الأمنية بقيادته وبناء على تعليماته باعتقال المئات من أعضاء حماس والجهاد والجبهة الشعبية فضلاً عن عدد من الحراكات الشبابية، وقد جرى كل هذا بموازاة ما تقوم به قوات الاحتلال في مدينة القدس وضواحيها.
ثم جاء استشهاد زياد أبو عين ليزيد الهوة بين محمود عباس وشركائه في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية؛ ففي الاجتماع الأول وافقهم على غضبهم ومطالبتهم بردٍ يناسب الجريمة، أقله كان الإعلان عن وقف التنسيق الأمني، ولكن كانت تلك الموافقة بقصد امتصاص غضب قيادة فتح وأعضاء اللجنة التنفيذية، فما كاد يمضي يومان حتى أجّل اجتماع اللجنة التنفيذية لتنفيذ ما اتفق عليه؟ ثم أغلق الموضوع ليستعاض عنه بإقامة نصب تذكاري لزياد أبو عين، أما الردّ على الجريمة فكان بتقديم المشروع الذي عُرِف، زورًا، بأنه مشروع تحديد سنتين لانسحاب العدو من الضفة الغربية، إلى مجلس الأمن، ولم يمض يوم حتى حوّل للتعديل بما يتوافق مع المشروع الأوروبي الموازي تحت حجّة تجنّب الفيتو الأمريكي ليصبح مشروع تصفية للقضية الفلسطينية كما جاء في بيان حركة الجهاد.
وكان التعديل يعني إسقاط كل المرجعيات عدا العودة للمفاوضات التي ستُقرّر كل شيء، وهذا ما جعل كثير من المؤيدين لنهج التسوية والتوجه إلى مجلس الأمن يقولون إن رفض المشروع بحلته المعدّلة أفضل من تصديقه من قبل مجلس الأمن، وهذا يعني أن محمود عباس تراجع إلى حد أنه لم يصدر صوتًا واحد يدافع عن موقفه أو يجرؤ على نشر المشروع بعد تعديله.
الأمر الذي ترك محمود عباس “مغردًا” خارج السرب، طبعًا استخدام تغريد هنا غير مطابق ولكنه مقتضى المَثل.
والأنكى تلك الضجة التي صحبت توصيات بعض البرلمانات الأوروبية لحكوماتها بالاعتراف بإقامة دولة فلسطينية، حيث راح بعض الإعلاميين والمقربين من محمود عباس يتخذون منها دليلاً على صحة سياسات محمود عباس، ولكن من دون أن يقولوا لنا إن تلك التوصيات لم تحمل جديدًا لأن الاتحاد الأوروبي مُعترف أصلاً بحلّ الدولتين، وما فعله الآن هو التوصية بالاعتراف بالدولة الفلسطينية قبل الحل، الأمر الذي جعل نتنياهو يستشيط غضبًا، ويزيد من عزلته الدولية.
على أن توصيات البرلمانات الدولية قدمت في الآن نفسه لنتنياهو هدية أكبر بكثير من الاعتراف بالدولة الفلسطينية (المسخ بالتأكيد، واللعنة على القضية الفلسطينية بالتأكيد أيضًا)، وذلك عبر تضمين التوصية اعترافًا، في الآن نفسه، “بيهودية دولة إسرائيل”، وهذا يكفي لعدم التصفيق لتلك التوصيات واعتبار ضررها أشد نكرًا.
وخلاصة، تكون محصلة كل الخط السياسي الذي اتبعه محمود عباس، خاطئة، وفاشلة، وكارثية، وفي نفق مسدود، وهابطة من حضيض إلى حضيض، وذاهبة إلى مزيد من الانقسام، وأخيراً وليس آخرًا الوصول بعباس إلى أن ينفجر فاقدًا لأعصابه حين يجد أن كل التعديلات التي أجراها على مبادرته في مجلس الأمن ليست كافية لتمريرها أميركيًا؛ وهو ما جعله يقول مستبقًا هذه النتيجة: إذا لم يمر المشروع المعدّل في مجلس الأمن فسوف تنقطع كل العلاقات مع حكومة نتنياهو بما في ذلك التنسيق الأمني، وهذا يعني الاستقالة والرحيل على عكس ما تعوّدنا.
ولكن الرئيس محمود عباس لم يلحظ أن تمرير المشروع المعدّل يوجِبُ الاستقالة والرحيل أكثر من عدم تمريره.
لهذا آن لمحمود عباس أن يرحل، كما آن للشعب الفلسطيني في القدس والضفة أن ينتفض انتفاضة شاملة لا تتوقف إلا بدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات من القدس والضفة وإطلاق كل الأسرى، وبلا قيد أو شرط، وآن لحصار قطاع غزة أن يفقد غطاء محمود عباس له وينتهي فورًا.
نعم آن لكل الشعب الفلسطيني أن يتنفس الصعداء وآن للاحتلال والاستيطان أن يتوقفا عن التنفس.
وآن لسياسات أميركا وأوروبا أن تسقط في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية لتتوّج ما تواجهه من تدهور وسقوط عربيًا وإقليميًا وعالميًا.