في إطار الملف الخاص الذي يقدمه نون بوست عن صراع الطاقة في العالم، حاولنا أن نرصد تداعيات الاستخدام غير المحسوب لمصادر الطاقة غير المتجددة، ومن بينها النفط ومشتقاته، والفحم، ومصادر الطاقة الأخرى التي تسهم بشكل أساس في أسوأ التداعيات الممكنة على البيئة.
هذا المقال المترجم من صحيفة الغارديان البريطانية يقدم مشهدا من العاصمة الصينية بكين، وهو ما يمكن اعتباره امتدادا لما يمكن أن يحدث في العديد من عواصم العالم، إذا استمر الإنسان في استخدام موارد الطاقة بشكل غير محسوب، أو حتى غير مسؤول.
ترجمة وتحرير نون بوست
فوق إحدى مدارس العاصمة الصينية بكين يرفرف علم أحمر منذِرًا بأن اليوم هو يوم التزام الأماكن المُغلقة والابتعاد عن هواء بكين مهما كانت الظروف، إذ تكتسي المدينة باللون الرمادي، ويحيط ضبابها بالمباني بشكل يجعلها بالكاد مرئية. كيف تتكيف المدرسة إذن؟ تُجري حصص الألعاب في ملعب معزول بالكامل، ومُحاط بالأضواء القوية، تحت قبة صناعية تحمي الأطفال من التلوث، وهو إجراء تحذو فيه حذو مدرسة بريطانية أنفقت حوالي 5 ملايين دولار لشراء قبتَين بأنظمة تنقية مماثلة لتلك الموجودة في المستشفيات، لتغطي بهما ملاعب التنس الخاصة بها.
لطالما كانت جودة الهواء في بكين محل قلق الكثيرين نظرًا للتلوث الشديد في المدينة، بيد أنه مؤخرًا قد وصل إلى مستويات خطيرة أصبحت تنعكس على العمران، حيث تُبني الكثير من الأماكن بشكل يعزلها عن الهواء الخارجي، مما يتيح للصينيين مواصلة الحياة اليومية بشكل عادي دون التعرّض للهواء الخطير في المدينة التي أعلن تقرير صيني أنها أكثر مدينة غير صالحة للبشر على الأرض.
كنا نرى في السابق أقنعة الهواء الرقيقة التي يرتديها الصينيون لتنقية الهواء، ولكنهم اليوم يستخدمون أنواعًا أكثر تطورًا تحتوي على فلاتر في شكل أسطوانات صغيرة، ليبدو المشهد وكأنه من فيلم خيال علمي، أو من داخل إحدى المنشآت النووية. في الأيام التي تُرفع فيها تلك الأعلام الحمراء، تصبح حارات الدراجات خالية من الركاب، ويلجآ الجميع إلى مراكز التسوق المكيّفة والمعزولة. بدورها، تمنع الكثير من المدارس فتح النوافذ، وعلى الطلاب الالتزام بقواعد محددة لتجنب استنشاق هواء بكين المميت.
موشرات الهواء
هكذا يعيش الصينيون اليوم البالغ تعدادهم 21 مليونًا في العاصمة، وكأنهم يتدربون على كارثة بيئية أو هجوم فضائي، حيث تعج المدينة بمجسات لجودة الهواء تُعطيك رقمًا من 0 إلى 500، بحسب شدة التلوث في هذا اليوم. تقول منظمة الصحة العالمية أن الحد الآمن لاستنشاق هواء نفي هو 25، ولكنه مستحيل بالطبع في بكين حيث تتراوح الأرقام في إطار المئات. يُسمح لطلاب المرحلة الابتدائية بالتعرض للهواء طالما كان المؤشر دون الـ200، وللطلاب الأكبر سنًا يرتفع الحد إلى 250. حين تصل مؤشرات التلوث إلى 300، تُلغى كل الألعاب والمناسبات الخارجية — إلا إذا كنت بالطبع تمتلك تلك القبة الصناعية.
حين وصلتُ إلى بكين كان المؤشر عند 460، وهو شبيه بالهواء الكثيف الذي تتعرض عليه حين تدخل غرفة المدخنين في مطار ما، ويلتصق نوعًا ما بحلقك. في الصباح، تبدو الشمس أشبه بالقمر نظرًا لاحتجابها خلف ذلك الضباب الأسود الكثيف، وبعد انقضاء اليوم، أجد أنفاسي تخرج من أنفي سوداء اللون.
تنتشر تطبيقات مؤشر جودة الهواء تلك على هواتف كافة الصينيين والأجانب المقيمين هنا، والحديث عنها يدور بشكل يومي مثلها مثل الطقس والزحام. في تلك الأجواء، تنتعش سوق الأقنعة المفلتِرة، حيث ازدادت مبيعاتها 200٪ خلال العام الماضي فقط، وتتجه الأنظار إلى قضاء العطلات في بُقَع الهواء النظيف، مثل هضبة التبت. في ماراثون بكين السنوي هذا العام، وفي يوم أشير فيه إلى 400 على مؤشرات جودة الهواء، انسحب الكثير من المشاركين بعد أن تحولت أقنعتهم المفلتِرة بعد بضعة كيلومترات فقط إلى اللون الرمادي.
لم تكن أبدًا بكين بهذه الدرجة من التلوث، كما يقول لي يوتونغ، العائد من أستراليا بعد سنوات من الدراسة، “كنت ألعب الكرة وأركض ببساطة في الهواء الطلق، ولكن هذا الأمر لم يعد متاحًا لطلاب المدارس، والذين يصيبهم المرض أكثر ممن سبقهم، ويزدادون سِمنة أيضًا نظرًا لمنعهم من اللعب في الخارج في أحيان كثيرة.”
مواجهة التلوث أم تنقية الهواء؟
لي ليس هو الصيني الوحيد القلق بالطبع، بل إن السلطات نفسها أصبحت تولي هذه الكارثة اهتمامًا بعد سنوات من العند، إذ صرّح وزير الصحة الصيني تشَن جو في مطلع العام الماضي أن أعداد من يموتون في أعمار مبكرة نظرًا للتلوث تتراوح بين 350،000 و500،000 سنويًا. بالإضافة إلى ذلك، مررت الحكومة قوانينًا جديدة تفرض غرامات على من لا يلتزم بالمعايير البيئية، وتغلق المصانع التي تنبعث منها كميات غير مقبولة من ثاني أكسيد الكربون، بيد أن هذه الخطوات قد لا تكون كافية، أو ربما متأخرة عن أوانها.
يقول جانج كاي، أحد نشطاء البيئة في البلاد، أنه لا يملك أحد اليوم القدرة على تنفيذ تلك القوانين في بلد عملاق اقتصاديًا، وليست هناك سياسات واضحة لتنفيذ العقوبات بشكل فعال. ما هي الحلول البديلة إذن؟ البعض ينظر إلى تنقية الهواء ذاته، بدلًا من الوقوف في وجه مصادر التلوث اللانهائية.
أو شاوكاي، هو عالم بيئة، اقترح وضع رشاشات فوق المباني العالية تنثر المياه وتمسح الضباب والدخان عن هواء المدينة وكأنها تنظف زجاج سيارة، وهو أمر ممكن كما قال في إحدى أوراقه البحثية نظرًا لأن الضباب الرمادي لا يعلو عن مائة متر فوق سطح الأرض، ولذلك يمكن لتلك الرشاشات أن تزيحه فقط إذا ما صُمِّمَت رشاشات مناسبة لإزاحة جزيئات الدخان من الهواء بفعالية. شاوكاي ليس أول من يقترح هذا الحل، إذ نشرت إدارة الجو الصينية العام الماضي ورقة مفادها أنه بحلول عام 2015، سيُتاح لكل المسؤولين المحليين استخدام الأمطار الصناعية لإزاحة الدخان وضباب التلوث.
ليس هذا حلمًا بعيد المنال على الإطلاق، إذ تمتلك الصين بالفعل بنية تحتية في هذا المجال نظرًا لنقص المياه لديها منذ عقود، وهي منظومة مكونة من بطارية من 7000 مسدس “استمطار”، وأكثر من 50 طائرة، و50،000 موظف، ويمكنها بسهولة توجيه كل ذلك لشن حرب واسعة على التلوث.
يأتينا حل آخر من المصمم الهولندي دان روزِخارد، الذي التقى عُمدة بكين، وعرض عليه خطة لنصب “مكنسات إلكترونية” في الحداثق العامة تمتص الغبار والدخان من الهواء، وهو جهاز يقول أنه سيكون جاهزًا للتجريب في الصيف المقبل، إذ يعمل على تصميمه مع علماء آحرين في جامعة دِلفت التكنولوجية في هولندا، مستخدمًا حلزونات من النحاس تخلق مجالًا كهربيًا يجذب إليها جزيئات الدخان والغبار، ليخلق فوق الجهاز هالة من الهواء النقي يمكن استنشاقها.
سماء “أبِك”
يتزايد التلوث سنويًا، وتظل تلك الحلول قيد المناقشة، ويمر الوقت دون تحقيق الوعود والكلمات والخطط، مما يؤدي إلى سخط سكان بكين، والذين رأوا بأم عينهم ما يمكن أن تفعله جدية الحكومة في مواجهة الأزمة في نوفمبر الماضي، حين بذلت قصارى جهدها لتنقية الهواء استعدادًا لاستضافة قمة تعاون آسيا والهادي “أبِك” — APEC.
ببساطة، أغلقت الحكومة كل المصانع الواقعة في نطاق حوالي 200 كيلومتر لمدة أسبوع، ومنعت نصف سيارات المدينة من الحركة في الشوارع، وأغلقت المدارس والبنوك، وأعطت القطاع العام عطلة إجبارية، ومنعت إجراءات تسجيل الزيجات وإصدار جوازات السفر ودفع الضرائب، بل وحتى خدمات توصيل البضائع للمنازل.
ماذا كانت النتيجة؟ سماء زرقاء صافية لم يرى سكان بكين مثلها منذ سنوات، وربما على الإطلاق، وهو ما دعاهم ساخرين لتسميتها بسماء “أبِك”. ساخرًا، وساخطًا أيضًا، قال أحد مستخدمي موقع وَيبو الصيني للتدوين، مشيرًا إلى الإجراءات المشابهة التي اتخذتها الحكومة عام 2008 استعدادًا للألعاب الأولمبية، “لم تكن في الحقيقة سماء بكين زرقاء، أو لبنية اللون، كانت فقط سماء ’أبِك’، مثلما كانت منذ بضعة سنوات سماءً ’أولمبية’”.
سماء أبِك: صورة لضابط صيني تحت سماء بكين الصافية، أثناء قمة تعاون آسيا والهادي “أبِك”، بعد إجراءات شديدة من الحكومة الصينية لتجنب تلويث الهواء.
حين زرت بكين في أسبوع “أبِك”، بدت وكأنها مدينة أخرى تمامًا. بالطبع، كانت شوارعها خالية وكأنها قد أصبحت مدينة أشباح، ولكن على مرمى بصري رأيت ما لم يكن بوسعي أن أراه في السابق بسبب الضباب: مباني وشوارع ممتدة، وجبال بعيدة يمكن رؤيتها بسهولة لأول مرة.
لعل سماء “أبِك” قد دفعت سكان بكين إلى السخرية، ولكنها أيضًا سمحت لهم برؤية ما يمكن أن تكون عليه الحال إذا ما أخذت الحكومة المسألة بجدية. بطبيعة الحال، لا يمكن إغلاق المحال والشوارع يوميًا، ولكن يمكن دفع الحكومة لاستثمار نفس الجهد في تطبيق سياسات طويلة المدى لصالح سكان المدينة أنفسهم، بدلًا من حلول آنية من أجل المناسبات الدولية فقط.
المصدر: الغارديان