مثّلت الثورة اليمنية محاولة لإنتاج خطاب يؤسس للهوية الوطنية اليمنية الغائبة على حساب الهويات العشائرية والقبلية التقليدية، ونزوح نحو عقلنة المجال العام وتوحيده، حيث قدم المحتجون أنفسهم كممثلين عن الشعب اليمني بكافة أطيافه وحاملين لهويته الوطنية الجامعة.
ففي مجتمع مدجج بالقوى القبلية التي حلت محل الدولة، كان التحدي الرئيسي الذي واجهته الثورة هو إنتاج الوطنية اليمنية عبر صياغة ذاتية المواطن اليمني الجديد الذي يُعرّف نفسه من خلال الدولة التي ينتمي لها وتمثل مصالحه، ويرتبط بها نفعيًا عبر تقديمها للخدمات والوظائف، وتفرض سلطتها من خلال احتكارها لوسائل الضبط والقهر باعتبارها مصدر السيادة الوطنية العليا.
جاء اندلاع الثورة اليمنية في الوقت الذي ظهرت إلى السطح مشاريع انفصالية كنتيجة منطقية لغياب الدولة الوطنية ورموزها الذين يشكلون المخيال الجمعي للجماعة الوطنية المفترضة، حيث ظهر الحراك الجنوبي بمطلب الانفصال عن شمال اليمن، مدعيًا هوية خاصة به رسختها تجربته التاريخية المختلفة عن شمال اليمن، فقد عانى الجنوب من استعمار بريطاني دام لأكثر من قرن كامل، أعاد فيه المُستَعمِر تشكيل ذاتية الـمُستَعمَر وبُناه الاجتماعية، تعرضت فيه البُنى التقليدية لتفكيك واسع تبعه إعادة تشكيل الفرد وفقًا لنمط الدولة الحديثة، وهو الأمر المختلف عن شمال البلاد الذي لعبت فيه البُنى التقليدية الدور الرئيس في تحديد ولاء الفرد وتعريفه لنفسه من خلالها.
وبنفس الكيفية فى أقصى الشمال من اليمن لم تستطع الزيدية – التي حكمت اليمن لعدة قرون حتى قامت ضدها الثورة الجمهورية في عام 1962 – من الاندماج في المجال العام الذي أنتجته ثورة سبتمبر، وظلت تمثل خصمًا تاريخيًا للجمهورية والثورة ورموزها التاريخيين، كما مثلت الزيدية كمذهب دينى سياسي يدعو لحكم آل البيت تهديدًا دائمًا لشرعية الجمهورية والثورة كأساس تشكيل النظام السياسى، وأنتجوا سردية خاصة بهم تستمد جذورها من النظرية السياسية الزيدية التقليدية في حصر شرعية الحكم لنسل الهاشميين الزيديين كحق ديني أصيل.
إضافة لعوامل التشظي السابقة في المخيال الجمعي، لعبت الجغرافيا الجبلية دورًا بارزًا في عزل المناطق اليمنية بعضها عن بعض؛ ما ساعد القبائل المحلية على الاحتفاظ بمساحاتها التاريخية الخاصة بها بعيدًا عن السلطة المركزية، وعزل الفرد ثقافيًا عن الدولة وتحديده بإطارها الثقافي التقليدي وربط مصالح الفرد وحاجياته بمصالح قبيلته.
كانت الثورة اليمنية كاحتمال لتأسيس خطاب يُعرف “العام” بشكل سياسى مُدمَج من المكونات التقليدية ومُدمِج لها في مشروع وطني يستوعبها داخل جماعة ثقافية أوسع تمثل الشعب اليمني، وقد نحجت الثورة في مد خطابها القائم على سردية (الثورة/ الدولة) باتجاه العديد من الأنماط الاجتماعية التقليدية، فانضم إلى الحراك الشعبي العديد من القبائل اليمنية والجماعات التقليدية كجماعة الحوثي والمشاريع الانفصالية كالحراك الجنوبي وفقًا لمنطق الثورة نفسه، وجرت مصالحة أهلية واسعة في “ساحة التغيير” في العاصمة صنعاء التي شملت جميع المكونات الفاعلة للجماعة الوطنية المفترضة، وهو ما بدا وكأنه تأسيس لعقد جديد قائم على أساس المواطنة/ القانون.
تجلى هذا الخطاب الوطني المؤسس للدولة الحديثة في الشعارات التي رفعتها الثورة، ففي الوقت الذي رفع فيه المحتجون في دول الربيع العربي شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” كرد فعل على تغول الدولة ثقافيًا وسياسيًا على المجتمع، رفع شباب الثورة اليمنية شعار “الشعب يريد بناء دولة مدنية”، حيث كانت المدنية مقابلاً للقبلية/ العصبية بالدرجة الأولى، وللمشاريع المذهبية التقليدية المضادة لفكرة المواطنة والمساواة القانونية.
إلا أن هذا الخطاب لم يكن بالعمق الكافي بحيث يستطيع التماسك بمواجهة التحديات الناجمة عن الثورة، فكان أن انفجرت تلك التناقضات البينية مع أول استحقاق واجهته الثورة أمام الخارج والمتمثل في المبادرة الخليجية، حيث رفض الحراك الجنوبي وجماعة الحوثي كفاعلين في الثورة تلك المبادرة في الوقت الذي قبلتها الأطراف الثورية الأخرى كالأحزاب السياسية إضافة للسلطة القائمة، الأمر الذي مثّل بداية تعثر لما حملته الثورة من مشروع وطني حديث يستوعب الجميع.
وعلى الرغم من هذا التعثر المُبكر للمشروع الوطني، مثّل مؤتمر الحوار الوطني الذي شاركت فيه جميع القوى الوطنية بادرة أمل جديدة نحو تحقيق الوفاق الوطني على القضايا المتعلقة بشكل الدولة ونظامها السياسي، إلا أن الوعي المحلي والجهوي للقوى الفاعلة وتغليبها على الصالح الوطني حال دون الوصول لأرضية وطنية مشتركة.
مثّلت التناقضات التي تضمنتها الثورة أساس خطاب الثورة المضادة، فعلى العكس من البلدان العربية الأخرى لم ترتبط الثورة المضادة بقوى بعينها طوال الوقت كعدو وحيد بقدر ما ارتبطت بطبيعة الخطاب الذى أنتجته التفاعلات السياسية أثناء الثورة وبعدها، شكل خطاب الثورة المضادة بالتعريف النقيض لكل ما هدفت إليه الثورة من تحقيق إجماع وطني – كان قد تحقق في لحظة رومانسية من عمر الثورة اليمنية -، فظهرت دعاوى الانفصال فى الجنوب مرة أخرى، وعاد منطق الحرب الأهلية والتغلب والنظريات السياسية العصبوية في الحكم على حساب منطق دولة القانون والمواطنة.
لقد كان انتصار الثورة المضادة بشكل كامل مع استيلاء المليشيات المسلحة التابعة لجماعة الحوثي على العاصمة صنعاء وفقًا لمنطق التغلب الخلدوني، حيث حلت المليشيا محل الدولة وأسست شرعيتها على أساس العصبية القبلية وبمسحة مذهبية متمثلة بالانتماء لآل البيت وسرديتها التاريخية الخاصة.
إن فشل الثورة اليمنية لم يكن فشلاً لمشروع سياسي فحسب، بل فشل على صعيد البناء الثقافي للجماعة الوطنية اليمنية كرافعة لقيام الدولة الحديثة.