ترجمة وتحرير نون بوست
كان الموت يحوم حول محافظة هلمند في صباح السابع من فبراير عام 2011، حين أخذت طائرة الأباتشي البريطانية “أجلي 50” – Ugly 50 – تحلق فوق المدينة، وأخذ طاقمها يبحث عن الأفغاني “ملّا نياز محمد”، مع أوامر واضحة للطيار بقتله.
دودي، هكذا كان اسم ملّا نياز الحركي، وهو قائد متوسط في طالبان، طبقًا لقوائم الناتو السرية التي تضم المئات من أعداء التحالف التي وافق الناتو على تعقبها وقتلها، يحمل دودي الرقم 3673 في القائمة، وقد أعطاه الناتو الأولوية من الدرجة الثالثة، حيث تتراوح الأولويات من 1 إلى 4؛ مما يعني أنه ليس مهمًا في هيكل قيادات طالبان.
نجح مركز العمليات في التعرف على دودي في تمام الساعة 10:17 صباحًا، ولكن المروحية أخذت تدور عدة مرات لعدم وضوح الرؤية، قبل أن تطلق أخيرًا قذيفة “هِلفاير” – Hellfire -.
مع الأسف، فقد المسؤول عن التحكم في موقع القذيفة رؤية موقع دودي بوضوح، لتصيب بدلًا منه رجلًا وطفله؛ قاتلة الطفل في الحال، وتاركة الأب بجروح خطيرة، حين أدرك الطيار أنه أصاب الرجل الخطأ، أطلق العنان لمائة رصاصة من مدفعه الثلاثين مليمتر تجاه دودي، وألحق به إصابة خطيرة.
الرجل والطفل، اللذان نجهل هويتهما إلى اليوم، هما غيض من فيض ضحايا عمليات الناتو السرية القذرة التي تجري منذ سنوات في أفغانستان، والذين تحكي عنهم وثائق سرية توصّلت لها مجلة شبيجل الألمانية، بعضٌ منها من أرشيف إدوارد سنودن، تضم الوثائق أول قائمة كاملة معروفة إلى اليوم للمطلوب قتلهم من قبل الناتو في أفغانستان، فيما يدلل على أن هذا النوع من العمليات لم يكن مجرد حل أخير لتحقيق أهداف التحالف، بل جزءًا من الأنشطة اليومية للحرب في أفغانستان.
تكشف لنا تلك القائمة، التي تضم حوالي 750 شخصًا، لأول مرة عن أن الناتو لم يستهدف فقط قيادات طالبان، ولكن امتدت عملياته إلى شرائح واسعة من أعضاء طالبان القابعين في أسفل سلم الحركة، بل وكان بعضهم على القائمة فقط لأنه تاجر مخدرات، أو دعم المتمردين ليس إلا.
البحث عن نصر في أفغانستان
تنتهي رسميًا العمليات العسكرية في أفغانستان هذا الأسبوع، ولكن قوائم القتل تلك ستثير الكثير من الأسئلة القانونية والأخلاقية لوقت طويل بعيدًا عن البلد الذي وقعت فيه: هل يمكن لبلد ديمقراطي أن يقتل أعداءه بهذا الشكل الموجّه دون أن يكون الهدف منع خطر هجوم حقيقي؟ وهل قتل أكبر عدد من حركة طالبان مبرر كافٍ لسقوط هذه الأعداد من الأبرياء؟ قد يحاول البعض القول على الأقل بأن تلك العمليات كانت بالأساس في عهد بوش، ولكن الحقيقة هي أن الوثائق التي اطلعت عليها شبيجل، تعود للفترة بين عامي 2009 و2011، وهي فترة كان أوباما فيها رئيسًا للولايات المتحدة.
كانت حرب أفغانستان ولاتزال، بالنسبة لأوباما، الحرب “الصحيحة”، على عكس حرب العراق، والتي تعرضت للهجوم الأكبر من الديمقراطيين، ولذلك كان حريصًا على إنهاء حرب العراق بأسرع ما يمكن، في حين حاول قدر الإمكان أن يحقق أي “نصر” في أفغانستان قبل الانسحاب.
تباعًا، بعد دخول أوباما إلى البيت الأبيض، سلكت الإدارة الأمريكية نهجًا جديدًا عنيفًا مع طالبان دشنه الجنرال “ستانلي ماكريستال” بعد أن تم تعيينه قائدًا للقوات الأمريكية في أفغانستان، ليرسل أوباما 33000 جنديًا إضافيًا إلى أفغانستان بشرط تقديم تاريخ محدد لإنهاء العمليات والانسحاب، في نفس الوقت، ابتعد أوباما عن الأهداف الغربية العامة للحرب، والتي شملت تحويل أفغانستان إلى “مكان أفضل”، وركّز بدلًا من ذلك على مواجهة التمرد؛ وقد أفضى ذلك إلى واحدة من أقبح التحولات في الحرب الجارية هناك.
التصعيد فالانسحاب
نتيجة لذلك التحول، ارتفع بقوة عدد العمليات العسكرية ضد طالبان حتى وصل إلى 10 أو 15 في الليلة الواحدة، وهي عمليات كان معظمها قائمًا على قوائم جهزتها الاستخبارات الأمريكية أو حلف الناتو – المعروفة الآن بقوائم أوباما -؛ أدى التصعيد إلى مقتل حوالي 2412 مدنيًا في عام 2009 فقط، 25٪ منهم على أيدي قوات الناتو وقوات الأمن الأفغانية، في إستراتيجية أسماها البيت الأبيض بـ “التصعيد ثم الانسحاب”.
بدوره، وثّق الجنرال “ديفيد بتريوس”، الذي خلف ماكريستال، هذه الإستراتيجية في كتاب “إرشادات ميدانية 3-24″، والذي تناول كيفية مواجهة حركات التمرد، ويُعد اليوم أحد أهم ما كُتِب في هذا المجال، في هذا الكتاب، يشير بتريوس إلى المراحل الثلاث الضرورية للقضاء على طالبان: أولًا، مرحلة “التطهير” والتي تُضعِف من قيادة العدو؛ ثانيًا، مساعدة القوات المحلية على إعادة الانتشار والسيطرة على المناطق التي تطهرت؛ ثالثًا، التركيز على إعادة الإعمار.
في الغرف المغلقة، كان بتريوس وفريقه على معرفة جيدة بماهية ومعنى كلمة “التطهير” تلك، حيث يذكر لنا بعض السياسيين الألمان ما قاله “مايكل فلين”، رئيس قوات المساعدة الأمنية الدولية التابعة للناتو في أفغانستان – إيساف – حين سُئِل عن كيفية التفرقة بين الطالباني الخيّر، والطالباني السيء، في إشارة إلى كيفية التفرقة بين من يجب قتله بالفعل على الأرض، كان رد فلين ببساطة: “الطالباني الخيّر الوحيد هو الطالباني الميّت”.
تحت قيادة بتريوس شُنَّت حملة قاسية لدحر من عُرِفوا بـ “ولاة الظل”، وهم حكام الولايات المتعاطفين مع أو الداعمين للإسلاميين، وكانت حصيلة القتلى التي أدت لها العمليات مؤشرًا على نجاح تلك الإستراتيجية كما رأي الأمريكيون، في أغسطس 2010، صرّح بتريوس لمجموعة من الدبلوماسيين في كابول بأن الإستراتيجية الجديدة تحقق بالفعل تحولات على الأرض، وأنه مقابل قتل أربعة يوميًا (في المتوسط)، يتم تحييد حوالي 365 قياديًا ضالعًا في التمرد، من ناحيتهم، لم يشعر الدبلوماسيون بالراحة وهم يسمعون بتريوس.
نقتل أو لا نقتل
حتى وقت قريب، لم تكن تفاصيل الوثائق المرتبطة بقائمة القتلي تلك – المعروفة بقائمة “الأولويات المؤثرة المشتركة” – واضحة، لاسيما وأن عمليات القوات الخاصة الأمريكية المذكورة في تسريبات ويكيليكس ليست مفصّلة، بيد أنه بالاطلاع على الوثائق الموجودة لدينا الآن، أصبحنا نملك صورة أكثر دقة لعمليات الاستهداف، لاسيما المعايير التي يتم وضع الأسماء على أساسها لتكون مطلوبة، ثم مقتولة.
النظر إلى حالات بعينها من تلك القائمة كاشف للغاية عن تلك المعايير، وعن الإستراتيجية الأمريكية برمّتها، على سبيل المثال، توضح لنا حالة الضابط الأفغاني حسين، وهو رقم 3341 على القائمة، كيف تعامل الناتو باستهتار وبرود مع أرواح الكثيرين.
كان حسين أحد المشتبه بهم في هجوم على قوة تابعة للإيساف في هلمند، وطبقًا للادعاءات ضده، كان حسين في الطريق للانضمام إلى طالبان بعد أن ترك الجيش الأفغاني، وهو ما دفع مسؤولي الناتو لوضعه على القائمة في صيف 2010، وسُمي بالاسم الحركي “رامبل”، وأُعطي أولوية من الدرجة الثانية، تناقش جنود الناتو في إيجابيات وسلبيات قتل حسين، وكانت حجج المؤيدين – الموجودة ضمن التقييمات في الوثائق – تقول إن القضاء عليه سيقطع الطريق على انضمام شخص من الجيش إلى صفوف التمرد، وسيكون رسالة واضحة لردع أي “خلايا نائمة”، من ناحية أخرى، كما يقول التقييم، كانت إحدى سلبيات قتل حسين هي فقدان أي معلومات قد يكون هو على علم بها.
قبل إضافة أي اسم إلى القائمة، خاض مسؤولو الناتو مناقشات على مدار شهر وجمعوا الدلائل، بما في ذلك المكالمات الهاتفية التي تجسسوا عليها، والتقارير التي حصلوا عليها من جواسيسهم المدسوسين وسط الناس، والصور الفوتوغرافية، وكان القرار النهائي بإضافة اسم من عدمه يعود لقائد الإيساف المحلي، مع العودة إلى المقر الرئيسي للإيساف في كابول إذا ما كان هناك احتمال أن تؤدي عملية إلى قتل مدنيين.
يقول أحد مسؤولي الإيساف الذين عملوا لسنوات على تلك القوائم، إنه حين كان عدد القتلى من المدنيين الذي يمكن أن يؤدي له الهجوم أقل من 10، كان القرار لقائد الإيساف في كابول ليقرر ما إذا كان خوض العملية مبررًا، أما إذا كان أكثر من ذلك، فكان القرار متروكًا لمقر قوات الناتو المعنية.
في الحقيقة، وطبقًا للوثائق، كان تعريف “المدنيين” مقتصرًا على النساء والأطفال وكبار السن فقط، أما حراس الأمن وسائقي السيارات والموجودين من الرجال، فكانوا يندرجون تحت قائمة “الأعداء”، حتى ولو لم يكونوا كذلك بالفعل (!)، هذه بالطبع أضحوكة، كما قال بعض الضباط الذين شاركوا بأنفسهم.
بين الهواتف والمخدرات
أحد أهم الطرق للوصول إلى المطلوبين من حركة طالبان كانت إشارات المحمول الخاصة بهم، حيث امتلكت المخابرات الأمريكية والبريطانية قائمة طويلة من أرقام هواتف تابعة لمسؤولين في طالبان، وكانت الطائرات دون الطيار وطائرات اليوروفايتر مزودة بمجسات تلتقط إشارات الراديو الخاصة بتلك الأرقام المعروفة، بمجرد تشغيل الهاتف، أعطت تلك المجسات الإشارة بوجود هدف ما، وشرعت آلة القتل في العمل.
كيف يمكن التأكد من أن الرقم بالفعل في هذه اللحظة بحوزة الشخص المطلوب، أو أنه أصلًا لايزال محتفظًا به؟ كانت هناك عينة من صوت المطلوب موجودة بحوزة الناتو، وكانت تستخدم تلقائيًا للتعرف عليه وبدء العمليات العسكرية، والتي يبدو أنها سببت أضرارًا جسيمة دفعت طالبان لأمر مقاتليها بالتوقف عن استخدام الهواتف المحمولة، أثناء عملية التعرف على الصوت، كان كافيًا لأي مطلوب ذكر اسمه على الهاتف مرة واحدة ليُعَد هذا تأكيدًا على هويته، وبالتالي مبررًا لضربة جوية، وهي سياسة مُبهمة بطبيعة الحال وزادت كثيرًا من احتمالية وقوع قتلى من المدنيين.
لعل واحدة من أبرز القرارات التي اتخذها الناتو في أفغانستان هي توسيع نطاق العمليات العسكرية لتشمل تجار المخدرات، حيث تذكر إحدى الوثائق أن المعلومات المتوافرة لدى الولايات المتحدة أشارت إلى أن طالبان تجني حوالي 300 مليون دولارًا سنويًا عبر تجارة المخدرات، وبالتالي لا يمكن القضاء على المتمردين دون ضرب هذه التجارة، طبقًا لنفس الوثيقة، اتخذ وزراء دفاع الناتو في أكتوبر 2008 قرارًا باعتبار كل شبكات المخدرات أهدافًا مشروعة لقوات الإيساف، وتمت إضافة كل الضالعين بتهريبها تلقائيًا إلى قائمة المطلوبين لأول مرة.
بالنسبة لبعض القيادات الأمريكية، مثل بانتز كرادوك، لم تكن هناك حاجة لإثبات انتقال أرباح تجارة المخدرات إلى طالبان لإدراج المزارعين والناقلين والتجار على قائمة الأهداف المشروعة لضربات الناتو، وهو ما دعاه عام 2009، حين كان القائد الأعلى لتحالف الناتو في أوربا، أن يصدر قرارًا بتوسيع استهداف مسؤولي طالبان ليشمل منتجي المخدرات.
أدى هذا القرار إلى مناقشات ساخنة بين أعضاء الحلف، إذ اعتبر الجنرال الألماني إيجون رامس أن القرار غير قانوني وينافي القانون الدولي؛ وهو ما أدى إلى تعديل قرار كرادوك ليصبح استهداف حالات تجارة المخدرات التي ثبت على الأقل بالدراسة أنها مرتبطة بالتمرّد.
أدى ذلك بالطبع إلى خلافات كثيرة مع الأمريكيين، فحين أرادت قيادة المنطقة الشمالية، التي يديرها الجيش الألماني، وضع اسم على القائمة، كان عليها تجهيز ملف مفصّل يضم أدلة كافية، ثم إرساله إلى مقر العمليات المشتركة في بوستدام خارج برلين، ومن ثم إلى وزارة الدفاع الألمانية، بالنسبة للألمان، لم يكن مقبولًا وضع هدف على قائمة المطلوبين إلا إذا كان قد أمر أو جهّز أو شارك في أي هجمات بنفسه، مما يفسّر وجود 11 فقط، من أصل 744 هدفًا تم تحديده بحلول سبتمبر 2010، من شمال أفغانستان التي أدارها الألمان.
“كنا كألمان ندير برنامجًا لإرساء الاستقرار على الأرض، في حين كان الأمريكيون يشنون حربًا”، هكذا قال الجنرال رامس.
قد يكون لتلك الوثائق الآن تبعات قانونية هامة، إذ تحاول منظمة “ريبريف” لحقوق الإنسان بداية حراك قانوني ضد الحكومة البريطانية، فتقول جنيفر جيبسون، محامية بالمنظمة، إن الحكومة البريطانية قالت مرارًا بأنها لا تستهدف أي أهداف في باكستان، ولا تقوم بأي ضربات جوية على أراضيها، ومع ذلك فإن الوثائق تثبت أن قوائم المطلوبين ضمت باكستانيين كانوا موجودين بباكستان، “الخلط بين الحرب على الإرهاب والحرب على المخدرات كان أمرًا جديدًا ومزعجًا للغاية”، هكذا تقول.
قدمت شبيجل الوثائق التي توصلت إليها إلى إيساف، وطلبت منها التعليق، ولكنها ردت بأنها لا ترغب في التعليق على الموضوع لاعتبارات أمنية، طبقًا للمتحدث باسمها، والذي قال إن كافة عمليات إيساف تتم وفق القانون الدولي، بدورها، تقوم وزارة الدفاع الأمريكية بإحالتنا إلى إيساف حين نسألها عن محتوى ما جاء في تلك التقارير.
***
تبدأ صفحة جديدة في أفغانستان الأسبوع المقبل، حيث تم انتخاب حكومة جديدة، وستكون معظم قوات الناتو قد انسحبت، وسيصبح الأفغان هم أصحاب القرار النهائي في رسم مستقبلهم، من ناحيته، حقق الغرب بعضًا من أهدافه، حيث تمت هزيمة تنظيم القاعدة، على الأقل في أفغانستان، وتم قتل زعيمه السابق، أسامة بن لادن، بيد أن طالبان لاتزال موجودة، كما أثبتت بهجومها الأخير على المدرسة الباكستانية؛ وهو ما يعني استحالة إرساء السلام دون إشراكها في أفغانستان.
تشير دراسة للاستخبارات الأمريكية عام 2009، أن عمليات القتل بالاستهداف للقيادات البارزة لأي عدو لا تُثمِر في النهاية، ولأن طالبان تحديدًا تمتلك قيادة مرنة رُغم مركزيتها، وكذلك بنية قبلية تقوم على التساوي، فإن عمليات القتل بالاستهداف لم تكن ناجحة بشكل كبير في أفغانستان، علاوة على ذلك، وطبقًا للدراسة، فإن طالبان تمتلك قدرة عالية على استبدال قياداتها المفقودة أو المقتولة بغيرها بسهولة.
المصدر: دير شبيغل