(1) حجم الخسارة
لم يتعرض فصيل أو تنظيم يمارس العمل السلمي والمدني في القرن الحديث من اضطهاد وقمع وتقتيل كما تعرض له الإخوان المسلمون في مصر على يد القوات المسلحة المصرية، تم عزل السلطة الشرعية وارتكاب مذبحة في رابعة والنهضة تقدر أعداد من قضوا بـألف شخص وفقا لتقرير هيومن رايتس ووتش، وبلغ عدد المعتقلين السياسيين ما لا يقل عن تسعة عشر ألف شخص، وفقا لتقدير المنظمات الدولية، ولا يزيد عن خمسة وعشرون ألف معتقل، وفقا لتقديرات أخرى.
تم حظر جماعة الإخوان في مصر، وتم مصادرة أموالها ومؤسساتها الخيرية، ومصادرة الأموال الخاصة بكبار رجال أعمالها، ووضعها تحت الحراسة القضائية، ووقف أنشطة شركاتهم التجارية وصدور أحكام إعدام بالجملة على قيادات الصف الأول ورموزها بشكل لم يعهد في القرن الحديث، كما تم مطاردة رموز الجماعة وقياداتها الذين فروا من السلطات العسكرية عبر أحكام قضائية واجبة النفاذ، والتعاطي معها من قبل الشرطة الدولية الإنتربول الدولي، كما تم إغلاق جميع القنوات الفضائية التابعة لهم والمتعاطفة معهم، وإطلاق العنان لستة وثلاثين محطة فضائية تعمل من الداخل المصري، تشيطن في الجماعة، وتمارس بحقها الخصومة السياسية، ستة من هذه الفضائيات مملوكة للسلطات المصرية الرسمية، وثلاثون محطة مملوكة لرجال أعمال كانوا أعضاء في الحزب الوطني المنحل.
الحدث في 3/7/2013 لم يقف عند مصر، ارتد سريعا وبنسب متفاوتة على ذات المدرسة الفكرية في كثير من بلدان المحيط العربي، إذ تم محاولة استنساخ النموذج المصري في ليبيا عبر اللواء المتقاعد خليفة حفتر، والانقلاب على الصندوق، وفرض سلطة السلاح والعسكر من جديد، الحدث المصري انعكس على إخوان الأردن، فاضعف قوتهم وكشف ظهرهم، ما استدعى توقف مطالبهم الإصلاحية، واستعاد الحرس القديم قوته من جديد، فأخذ يعاقب كل من شارك في حراك الإصلاح خلال سنوات الربيع الأردني، حتى وصل الأمر إلى اعتقال نائب المراقب العام، والتهديد بحل الجماعة وحظرها، حدث أثر بطريقة مباشرة وكبيرة على المشهد التونسي، الذي دفع النهضة لتقديم تنازلات مؤلمة لصالح التيار العلماني المتطرف، الذي تطلع للتحالف مع الجيش للإطاحة بالحكم المدني، مستنسخا النموذج المصري، لكن حكمة النهضة استطاعت تخليص تونس من ذات المشهد.
الأمر انعكس بشكل كبير على الوضع في الأراضي الفلسطينية، فدفع حماس إلى مصالحة مع سلطة عباس التي تتبنى السلام خيار استراتيجي ووحيد في التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي، وتم تشديد الخناق على قطاع غزة من خلال الجانب المصري، حصار دفع حماس إلى الحضن الإيراني مُكرهة، إيران التي تعُدّها الشعوب العربية العدو بعد الكيان الصهيوني، نتيجة لانحيازها الطائفي ضد تطلعات التحرر العربي في سوريا والعراق.
على المستوى التنظيمي توالت الخسارات للإخوان في دول المحيط العربي، إذ تم إدراجهم على قائمة المنظمات الإرهابية، فاقدة في ذلك حاضنة كبيرة وملاذا أمنا لها تمتعت به أيام الاضطهاد الناصري في ستينيات القرن الماضي، إدراجها على قائمة المنظمات الإرهابية جاء تعبيرا عن توجسات من فكرة التنظيم العالمي والامتدادات عبر الدول، الخسارة لم تتوقف عند هذا الحد، بل امتدت لمحاولة ملاحقة الجماعة في القارة الأوروبية، إذ كانت هناك دراسة وتقارير في لندن تتحدث عن إمكانية إدراج الجماعة على قائمة الإرهاب، وان كان الأمر ليس بالسهولة في تلك الدول التي تتمتع بسلطة قضائية تتعامل مع الوقائع القانونية بعيدا عن المواقف السياسية.
(2) واقع سياسي جديد يتشكل
من الواقع السياسي القائم يظهر أن السلطات المصرية بدأت تنجح في فك طوق العزلة عن ذاتها، وتنسج علاقات متقدمة مع قادة القارة العجوز وأمريكا، وتبني علاقات أكثر صلابة مع المحيط العربي، وأخص الخليجي، كما أنها بدأت تحقق اختراقات واضحة ومتقدمة على صعيد العلاقات مع خصوم المرحلة الماضية، قطر وتركيا.
شهد الشهر الأخير إيقاعات سياسية سريعة في المنطقة، تطورات تمس المشهد المصري بشكل أساسي، إذ جرى تقارب خليجي خليجي، وتم إنهاء حالة الاحتقان السابقة كما تطورت العلاقة بين مصر وقطر بشكل سريع بوساطة خليجية، كان من أبرز نتائج هذا التطور وقف بث قناة مصر مباشر، قابلتها خطوة من السلطات المصرية بالحديث عن النية بعودة الطلبة المفصولين من الأزهر على خلفية المظاهرات التي ينظمها تحالف دعم الشرعية.
لا شك بأن هناك صفقة ما بين النظام المصري والدولة القطرية ستظهر نتائجها خلال الأسابيع القادمةـ سوف توقف بموجها قطر ماكنتها الإعلامية الموجهة ضد الحكم في مصرـ مقابل أن تقدم السلطات المصرية مزيدًا من المطالب القطرية التي لم يفصح عنها حتى حينه، والتي قد يتعلق بعضها بالإخوان في مصر إنْ قَبِل الإخوان إن يكونوا جزءًا من الصفقة.
المشهد لم يتوقف عند هذا الحد، بل تعداه إلى وساطات تقودها قطر، في محاولة لتطبيع العلاقات بين مصر وتركيا ،اللهجة التركية باتت أقل حدية في العلاقة مع مصر، والتصريحات بدأت تميل نحو الحديث عن شروط ومطالب، لتخرج بذلك من مربع الرفض المبدئي للتعامل مع السلطات المصرية الذي كانت تنتهجه تركيا.
الجانب الأمريكي، الذي يريد مصر مستقرة مدعوما بمحور الاعتدال العربي في المنطقة، يضغط بشكل كبير باتجاه تطبيع العلاقات بين مصر وقطر وإعادة العلاقات بين تركيا ومصر، وذلك للذهاب بموقف موحد في المنطقة ضد النظام السوري، وإشراك مصر في هذا الملف لما تتمتع به مصر من ثقل سياسي في المنطقة.
(3) وقف الخسارة
الحديث هنا لا يكون عن مبادرة واضحة المعالم، ولكنه حديث في معنى عام وهو منطق وقف الخسارة، الذي قد يعدّه البعض انهزاما أو استسلاما للأمر الواقع، لكنه مفهوم قد لا يقبله ولا يتعامل به إلا السياسي الواقعي والتاجر الحريص.
مع فارق التشبيه بين ما جرى في اليابان وما يجري في مصر حاليا، لكنه مفهوم وقف الخسارة الذي تعاملت معه الدولة اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد خسارتها المؤلمة التي تلقتها في حربها، وأفقدتها أكثر من ربع مليون قتيل بعد تفجيرات هورشيما ونجازاكي في السادس من أغسطس عام 1945م، ما دفع اليابان لتوقع وثيقة الاستسلام بعد ثمانية أيام من الضربات الأمريكية النووية، قررت بعدها اليابان الذهاب لإدارة المعركة بطريقة مختلفة، طريقة تصدرت خلالها الاقتصاد العالمي في أقل من نصف قرن، إذ تشكل صناعة السيارات فيها 40 في المئة من الإنتاج العالمي، وميزانها التجاري يساهم بـ7 بالمئة من التجارة العالمية، وهي ثالث أقوى اقتصاد في العالم.
الجانب التركي يبدو أنه متمسك بالديمقراطية المصرية وبمصالح الدولة التركية بذات الدرجة، نظام يدرك الواقع المتشكل جيدا؛ لذلك يتعامل مع ما هو موجود على الأرض، وهو ينظر إلى الملف السوري بصورة ملف مقلق يريد التفاف الجميع معه لوقف ما يجري هناك.
ما يطرحه النظام التركي يمكن أن يكون بداية مخرج للأزمة إذا ما تعاملت معه القيادة الحالية للإخوان في مصر بواقعية، إذ إن إطلاق السجناء، والإفراج عن كل المحكوم عليهم، وإطلاق عملية ديمقراطية بما يعيد ويدمج الإخوان في الحياة السياسية القائمة حاليا من جديد، وبما يحفظ ماء الوجه، والتوسط لتبريد الخصومة بين الجماعة ومحيط تيار الاعتدال العربي، خطوات يمكن أن تكون بوابة لعبور الأزمة وتخطّيها، أزمة أنهكت أنصار المدنية، ومكنت للعسكر سطوتهم، وأضعفت الدولة، وأعادتها إلى عصر الاستبداد الناصري البغيض.
اعتقد جازمًا إذا ما وجد النظام التركي تجاوبا وضَوْءًا أخضر من قبل القيادات الاخوانية في هذا المجال، سيكون أكثر صلابة وواقعية في تعزيز مطالبه، والضغط باتجاهها، والاستعانة بقطر من أجل تهدئة الملف المصري، وتحقيق اختراقات حقيقية تحقق مصالح الجميع في ذلك.
رفض ما يطرحه النظام التركي والنظام القطري يعني صد اليد التي تتمنع عن النظام المصري من أجل مساعدة الإخوان، رفضا يمكن أن يلجئ تركيا وقطر للذهاب إلى مصالحهم منفردين بدون الإخوان، إذا ما وجدوا أن الإخوان لا يتعاملون بواقعية سياسية يمكن أن تضر بمصالحهم، إذ لكل منهم حساباته الداخلية، وخصوصا ملف الاستثمار وضغط رجال الأعمال.
نعلم جميعا أن الجرح عميق وأن هناك اعتداءً على الأرواح والأعراض والأموال والحريات، ومشروع الوطن الحر قبل كل ذلك، إلا أن عربة التاريخ لا تقف عند الندوب السياسية، والناجح من كف عن ندب يومه، ونظر إلى غده، وسار إلى ما يريد بما هو متاح.
أعلم أن كتابة مثل هذه السطور سوف تجرح معظم ذوي الضحايا وبعض المنكوبين ومن تغلي دماء المظلومية في عروقهم، لكنه خطاب المتاح، ومنطق الواقع، ومسلمات ما هو موجود على الأرض.
في الأشهر القليلة المقبلة، ومع مطلع الربيع، ستكون هناك تطورات دراماتيكية كبيرة في المنطقة، فهل يلتقط الإخوان تلك اللحظات، ويوقفوا خسارتهم، ويعيدوا ترميم واقعهم، ويبردوا الجبهات مع محيطهم العربي، لينهضوا من جديد؟
سؤالٌ الإجابة عليه إلى الآن غير مبشرة، من خلال ما يصدر من تصريحات، لكننا لا زلنا نراهن على أن هناك في صفوف الإسلاميين من يفكرون برشد وواقعية، وعيونهم على المستقبل، رغم المبضع الذي يعتمل في أجسادهم ألمًا.
نُشر هذا المقال لأول مرة في موقع عربي 21