تلقى الرئيس الأمريكي “جيمي كارتر” في مساء يوم 12 سبتمبر 1980 رسالة من ممثل وكالة الاستخبارت المركزية الأمريكية في أنقرة “بول هينز” تقول: “أولادنا فعلوها”، وذلك حسب ما نقله الصحفي “مهمت علي بيراند” الذي نشر تسجيلاً صوتيًا لمحادثة دارت بينه وبين “بول هينز” حول الانقلاب العسكري الذي عاشته تركيا في سنة 1980 والذي قاده الجنرال كنعان إيفران للإطاحة بالائتلاف الحكومي الذي كان يشارك فيه الزعيم الإسلامي ونائب رئيس الوزراء آنذاك “نجم الدين أربكان”.
وجاء انقلاب 1980 بعد مرور تركيا بحالة اقتصادية وأمنية واجتماعية مطابقة لباقي المناخات التي وصلت لها معظم الدول التي عاشت انقلابات عسكرية في العقود الماضية، مثل إيران في سنة 1953 ومثل مصر في سنة 2013، وغيرها، حيث شهدت تركيا سنوات مريرة من التدهور الاقتصادي والعنف السياسي الذي أودى بحياة الآلاف ما بين سنة 1978 و1980، والذي يشتبه في أن من خططوا للانقلاب كان لهم دور في تأجيجه.
وبالإضافة إلى ما كشفه مهمت علي بيراند حول رسالة “أولادنا فعلوها”، كشف الأكاديمي التركي “مهمت آكيف أوكور” عن وصوله لوثائق في الأرشيف الأمريكي تثبت أن الإدارة الأمريكية كانت على علم بقرب قيام انقلاب عسكري في تركيا، وأنها لم تقم في ذلك الوقت بتنبيه الإدارة السياسية التركية وإنما قامت بدعم الجنرالات وفق توصيات خاصة من الرئيس الأمريكي آن ذاك جيمي كارتر.
ومن بين الوثائق التي تحدث عنها “مهمت آكيف أوكور”، رسالة شكر كتبها الجنرال كنعان إيفران للرئيس الأمريكي جيمي كارتر قال فيها: “أولاً، اسمحوا لنا أن نعبر عن امتنان القوات المسحلة التركية من تفهم الأمريكي للقرار الذي اتخذناه”، مضيفا أن النظام العسكري الذي أقامه سيعمل بجدية على تسليم السلطة للمدنيين في أسرع وقت وأن تركيا ستعود للتداول الديمقراطي على السلطة بسرعة.
ويذكر أن الانقلاب الذي نفذه كنعان اإيفرين كان أحد أكثر الانقلابات دموية وقمعًا، فبالإضافة إلى الاعتقالات العشوائية التي طالت أكثر من نصف مليون مواطنًا تركيًا، تمت محاكمة أكثر من 98 ألف مواطنًا بتهمة الانتماء إلى منظمات يسارية أو يمينية أو إسلامية، وحرم حوالي 388 ألف مواطنًا من الحصول على جوازات السفر، وفصل أكثر من 30 ألف عاملاً بسبب الاشتباه في انتماءاتهم السياسية، واختار حوالي 30 ألف مواطنًا الهروب إلى خارج البلاد، وسُحبت الجنسية التركية عن 14 ألف مواطنًا، وتُوفي 300 شخصًا في ظروف غامضة، كما توفى 171 آخرون تحت التعذيب، وتوفي 14 شخصًا خلال إضرابات عن الطعام، ومُنع أكثر من 900 فيلمًا سينمائيًا وسُجن 31 صحفيًا، واُغتيل 3 صحفيين، وتعرض أكثر من 300 صحفيًا للعنف والابتزاز، وحُجبت الصحف في فترات متفرقة بلغ مجموعها 300 يومًا.
وفي الرسالة التي وجهها الجنرال كنعان إيفرين لجيمي كارتر، يشير كنعان إلى “الرشوة” التي قدمها نظامه للمجتمع الدولي لضمان دعمه له، فيقول: “أريد التأكيد على أن تركيا دعمت موقف اليونان الراغبة في العودة مجددًا إلى حلف الناتو، وقد شرحت هذا للجنرال روجيرس”، وبالفعل عادت اليونان لحلف الناتو بموافقة تركيا في سنة 1980 (الدخول إلى حلف الناتو يتطلب عدم اعتراض أي من الدول الأعضاء).
وتتمثل خطورة عودة اليونان إلى حلف الناتو بالنسبة للأتراك في كون اليونان انسحبت من الحلف بعد أن رفض الحلف الانحياز لصفها ضد الجيش التركي الذي قام في سنة 1974 بأمر خاص من نجم الدين أربكان باجتياح نصف جزيرة قبرص ردًا على انقلاب عسكري عاشته الجزيرة بدعم من اليونانيين، وإلى اليوم يتقاسم القبارصة اليونانيون والأتراك الجزيرة التي تمتلك موقعًا استراتيجيًا بالغ الأهمية في البحر الأبيض المتوسط، ويقيمون عليها دولتين، الأولى هي قبرص اليونانية التابعة سياسيًا لدولة اليونان، والثانية هي قبرص التركية والتي تتبع بدورها لتركيا ويُشرف الجيش التركي على حمايتها.
ورغم فظاعة ما ارتكبه نظام كنعان إيفرين من جرائم للإطاحة بالحكومة والبرلمان وكل المؤسسات المُنتخبة، نُصب كنعان بعد سنتين رئيسُا لتركيا وسُن في عهده دستور جديد ينص على عدم جواز محاكمته هو ومن معه من الجنرالات الذين شاركوا في الانقلاب، غير أن هذا النص الدستروي أُلغي بعد وصول حزب العدالة والتنمية التركي ليقدم كنعان للقضاء ويحكم عليه بالسجن المؤبد.