ترجمة وتحرير نون بوست
لا شك أن العام 2014 كان عامًا مهمًا لمشروع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، الذي يضم روسيا وكازاخستان وروسيا البيضاء، وقد يضم قريبًا أرمنيا وقرغزستان، حيث بدأ كاتحاد جمركي في مطلع العام، وتحول إلى معاهدة دشنّت منطقة تجارية موحدة، لكن هذا الوضع قد لا يدوم طويلًا، إذ إن أزمة الاقتصاد الروسي، وما قد تؤول إليه في 2015، قد تهدد بنهاية المشروع الوليد.
ارتباك اقتصادي
كان الاتحاد الجمركي الروسي يسير بخطى واثقة، وبقواعد واضحة وحّدت القوانين الخاصة بالرسوم الجمركية بين روسيا وكازاخستان وروسيا البيضاء، واتجهت بقوة نحو إطار مشترك لمختلف الجوانب الاقتصادية، بدءًا من الخدمات المالية وحتى الاتصالات والزراعة، كانت الآمال معقودة على أن تجري رؤوس الأموال والعمالة والبضائع بيُسر بين تلك البلدان الثلاثة، وبدا أن الالتزام السياسي لقياداتها بالمشروع دافعًا رئيسيًا لتحقيق تلك التطلعات، بل وتجاوزها لما هو أبعد من ذلك.
بيد أن هذا الحماس بشأن الاتحاد الأوراسي قد تلاشي إبان الأزمة الأوكرانية، والتي اندلعت إثر رفض الرئيس الأوكراني آنذاك “فيكتور يانوكوفيتش” اتفاقًا تجاريًا مع الاتحاد الأوربي وتصريحه بأن كييف قد تنضم للاتحاد الجمركي الروسي؛ وهو ما أدى إلى اشتعال الاحتجاجات ضده وسقوطه في النهاية، ليُغلَق بشكل شبه كامل ملف انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوراسي، لم تقف روسيا مكتوفة الأيدي حيال تراجع أهدافها الإقليمية، بل استحوذت على شبه جزيرة القرم ذات التعداد الروسي الكبير عسكريًا في ليلة وضحاها، ولاتزال القوى العسكرية الموالية لها تسيطر على شرق البلاد ذي الأغلبية الروسية.
سبب ذلك الكثير من المخاوف في روسيا البيضاء وكازاخستان، اللتين تحتوي كلٌ منهما على أقلية روسية لا بأس بها، وهي أقليات تحاول روسيا مؤخرًا تعزيز نفوذها، وزيادة عددها، عبر قرار إمكان منح الجنسية الروسية لأي متكلم باللغة الروسية، وهي جنسية ستجذب الكثيرين من فقراء أسيا الوسطى حتى ولو لم يكونوا روس إثنيًا.
بالإضافة إلى ذلك، ردت موسكو بشكل مباشر على العقوبات الاقتصادية الغربية بمقاطعتها الخاصة، دون النظر إلى أولويات شريكيّها الاقتصادية، واللتين رفضتا تطبيق الإجراءات التي اتخذتها موسكو تجاه الغرب، أبرز نتائج هذا الاختلاف كانت إعادة التصدير التي تتم في روسيا البيضاء للبضائع الأوربية، المحظورة الآن في روسيا، وإعادة تصديرها إلى الداخل الروسي باعتبارها بضائع محلية، وهي خطوة تحاول موسكو الآن التصدي لها.
تصدّع سياسي
من ناحيتها، حاولت روسيا تسريع إجراءات انضمام أرمنيا وقرغزستان إلى الاتحاد الجمركي، وهما بطبيعة الحال اقتصادان صغيران للغاية، ولا يمثلان لموسكو سوى زيادة أعضاء الاتحاد، وهو ما اعترض عليه الرئيس القازاقي “نور سلطان نزارباييف” خوفًا من أن يكون محاولة روسيا لإضعاف الصوت القازاقي القوي في الاتحاد، بل وحاول تأخير انضمام أرمنيا بحجة عدم قدرتها على تطبيق إجراءات اقتصادية واضحة نظرًا لعدم وضوح حدودها إثر النزاع مع أذربيجان على منطقة ناجورنو قره باغ، بدورها، وافقت أرمنيا على إقصاء المنطقة المتنازع عليها من الاتفاقية، ولكن أحد المسؤولين فيها قال بُعَيد التوقيع على اتفاقية الاتحاد الجمركي بأنها ستُبقي على حدودها مفتوحة مع تلك المنطقة، وهو ما يعني ببساطة ضبابية في الموقف الأرمني وعدم قدرته على الالتزام بشروط الاتفاقية كاملة، لكن روسيا لم تكترث طالما أصبحت أرمنيا جزءًا من الاتحاد على الورق، وأصبح علمها يظهر في المراسم كعضو فيه، هذا هو ما تريده في النهاية، تعزيز الصورة، وتهميش نزارباييف.
بالنسبة لقرغزستان الصغيرة والضعيفة، فهي تستفيد من عضويتها في منظمة التجارة العالمية، ومن حدودها مع الصين في آن واحد، على سبيل المثال، وعلى عكس ما تقتضيه قواعد المنظمة، تفرض البلاد الجمارك بحسب الوزن فقط (أي أن الجمارك لطن من الفاكهة لا تختلف عن الجمارك لطن من أجهزة الكمبيوتر!) إذا ما انضمت قرغزستان للاتحاد الأوراسي سيكون عليها فرض جمارك أعلى على وارداتها من الصين، وهو ما لا يسع السلطات أن تفعله، وسيؤثر سلبًا على الاقتصاد في البلاد، وهو ما أتى واضحًا في تصريحات مسؤول جمركي قال مؤخرًا بأن تطبيق هذا الشرط سيتأخر كثيرًا حتى بعد الانضمام للاتحاد الأوراسي، إذا ما حدث أصلًا.
تفتقد قرغزستان أيضًا إلى القدرة على مواكبة المعايير الخاصة بالاتحاد الأوراسي فيما يخص جودة اللحوم والألبان المنتجة داخلها، ورُغم محاولات روسيا دعم التحول نحو إنتاج ذي جودة أعلى، إلا أنها في النهاية رهن السياسة القازاقية في هذه المسألة، حيث تمتع كازاخستان بالسيطرة على الحدود مع قرغزستان، ويمكنها بسهولة أن تمنع شحن البضائع منها إلى موسكو، لاسيما وهي لا ترحب بمنافسين في السوق الروسي الذي انفتح لها مؤخرًا بعد العقوبات الغربية.
تقدّم صوري
سيكون انضمام أرمنيا وقرغزستان السريع للاتحاد الأوراسي نصرًا صوريًا لروسيا، ولكنه سيأتي على حساب تجانس الاتحاد وتكامله الاقتصادي على المدى الطويل، والذي كان في السابق ثمرة جهود وحماس الدول الثلاث المؤسسة، والتي أصبحت أبعد الآن عن موسكو بعد الأزمة الأوكرانية.
علاوة على ذلك، فإن النتائج الآنية لا تبدو مبشرة أيضًا بعد أزمة الاقتصاد الروسي، والذي يتوقع أن يشهد ركودًا بشكل كامل، بل وربما أزمة مالية، في 2015، وهي أزمة ستنتشر أصداؤها في المنطقة بأسرها، لاسيما البلدان المرتبطة بالروبل الروسي، كما رأينا في أواخر العام المنصرم بالفعل، حيث قامت قرغزستان ببيع 464 مليون دولار (6.5٪ من ناتجها القومي) لتعزيز عملتها المحلية (السوم) التي فقدت 17٪ من قيمتها أمام الدولار، العملة القازاقية (التِنجِه) شهدت هي الأخرى فقدان 19٪ من قيمتها في فبراير الماضي، كما أعلنت الحكومة الأسبوع الماضي حزمة من الإجراءات لتعزيز استخدام العملية المحلية وتقليل استخدام الدولار، بما في ذلك قيود على تبديل العملات وحوافز للإدخار بالعملة المحلية، بدورها، فرضت روسيا البيضاء رسومًا بلغت 30٪ لأي تغيير للعملات لوقف موجة شراء الدولار التي اجتاحت البلاد إثر سقوط الروبل.
سقوط الروبل يعني أيضًا تضاؤل أعداد الدولارات التي يرسلها ملايين المهاجرين من أسيا الوسطى العاملين في روسيا إلى ذويهم أسبوعيًا، أضف إلى ذلك أن وعود ارتفاع التصدير إلى السوق الروسية بعد وقف البضائع الأوربية لن تؤتي أكلها، حيث أصبح التصدير إلى موسكو قليل الربح نظرًا لضعف الروبل، كما أن تكاليف التصدير ستزداد قيمتها بالدولار.
يحلو للكثيرين من متابعي أسيا الوسطى التفاخر بتصاعد النفوذ الصيني في أسيا الوسطى، ولكن الحقيقة هي أن كافة الصادرات باستثناء الغاز والنفط تذهب إلى روسيا، وهو ما يعني أن غالبية التحويلات المالية تأتي من هناك، ولذلك سيكون سقوط الاقتصاد الروسي في 2015 سقوطًا لأسيا الوسطى والقوقاز أيضًا.
الصورة من الغرب
الخبر السعيد بالنسبة لصناع القرار في الغرب هو أن العقوبات تحقق الغرض منها، وتثبت أن الاقتصاد الروسي في الحقيقة كان هشًا أكثر مما توقع كثيرون، ومما اعتقد الرئيس الروسي بوتين نفسه، وتُعلن بشكل أو آخر وفاة الاتحاد الأوراسي، اللهم إلا اسمه الذي لايزال خفاقًا وتزداد قائمة أعضائه – بأسمائهم فقط – وسيكون على الأغلب كيان أجوف يعقد القمم دون الوصول لأهداف ملموسة، وسيكون هذا دليلًا آخر على ضعف قدرة روسيا على بث نفوذها، والذي تنجح فيه مع دول صغيرة وهشة مثل أرمنيا وقرغزستان، ولكن لا تستطيع فعله مع دول كبرى كما كانت في السابق.
على الناحية الأخرى، ستكون هناك العديد من الأخبار السيئة للغرب، أبرزها تعزيز الأزمة الاقتصادية للتيارات القومية والانفصالية والمنحازة للفعل العسكري في روسيا، وهي كرة ثلج لن يتمكن أحد من إيقافها، لا في الغرب ولا في الصين، إذا ما وقعت بالفعل أزمة مالية واقتصادية شاملة في روسيا والدول المرتبطة بها في 2015.
ما يعنيه هذا هو أن صناع القرار الغربيين يحتاجون إلى التفكير بعيدًا عن الأهداف الآنية في أوكرانيا، والنظر التعامل مع توابع الأزمة الأوراسية القادمة، والمجاورة أصلًا لأزمة اليورو.
المصدر: فورين آفيرز