لم يُسجل التاريخ قضية من قبل تجمعت فيها الأحقاد العالمية والمتناقضات الدولية، مثلما سجل في قضية فلسطين!!
فالإلحاد تآزر فيها مع الصليبية، والشيوعية اتفقت فيها مع الرأسمالية، حتى الكنيسة تفاهمت فيها مع اليهودية، فتآلف منها جميعًا حلقات من النفاق والبغي العلني، أو قل الكيد الخفي، واستحكمت – كل هذه الأمور – حول القضية الفلسطينية.
لن أُطيل الحديث فيها لأن كلنا يعلم مدى أهمية فلسطين، ولكننا نتغافل أو ننسى، ولكنها تذكرة للعاقل ومعونة للغافل، ففلسطين التي تحوى مدينة القدس الإسلامية ومعالم تاريخية هي في ذاتها عقيدة ووطن، وقومية ووطنية، غاية وإرادة، سبيل إلى العزة أو مهبط للذلة، ومكان إعلان دولة أو إنهاء دولة، فهي تعني ولا تترادف، إما هي عزة وانكسار أو استعلاء وانحدار.
إن لعبة احتلال الأراضى الفلسطينية معروفة ومشهورة في كتب التاريخ الصحيح، والتي لا تحاول تمييع القضية أو مجاراتها بشكل سلبي، والتتبع التاريخي منذ مؤتمر بال 1898م وحتى إعلان قيام الدولة 1948م لدينا من معرفته ما يكفي، ولكن كارثة فلسطين – ببساطة – هي إسرائيل؛ فقد طلبت الصهيونية العالمية دولة لليهود في فلسطين فأسسها لهم العرب! ومعناها أن قيام إسرائيل وضياع فلسطين هو مسئولية العجز العربي والخيانة العربية والتفرق والجبن العربي .
فالذي حدد نتيجة الصراع العربي الصهيوني هو الصراع العربي العربي، فالفلسطينيون لم يبيعوا فلسطين لليهود، ولكن العرب هم الذين باعوا فلسطين والفلسطينيين لإسرائيل والغرب بزعامة أمريكية.
إن قبول العرب بضياع فلسطين نهائياً وتثبيت إسرائيل نهائيًا – وهذا لن يكون – يعني أن أمة قررت حل نفسها، وذلك سيعتبر انتحارًا سياسيًا، فالعدو المضاد لنا هو إسرائيل وفي تلك الحالة أمريكا هي القاتل عن بعد، فأمريكا هي سرطان العالم السياسي، ولما كانت إسرائيل هي التي تحكم وتُهيمن على شتى النظم في الدولة الأمريكية وأهمها الإعلام والاقتصاد وهما اللذان يحكمان العقل الأمريكي، فإن إسرائيل هي الحاكم النهائي والأخير والحقيقي للدولة الأمريكية.
فعندما توالت الهجمات من العصابات والمستوطنين اليهود على أراضي فلسطين؛ هب الشعب الفلسطيني عن بكرة أبيه، يتصدى للمؤامرة اليهودية العالمية الشرسة التي تقوم بتنفيذها الحكومة الإنجليزية بتوجيه من الوكالة اليهودية، ويتصدى للمؤامرة التي تستهدف الدين والأرض والعرق والثروة والإنسان.
وقد تمثل هذا التصدى في:
- عقد المؤتمرات، القيام بمظاهرات، الإضراب العام، والجهاد المسلح .
- تشكيل الوفود لشرح أبعاد المؤامرة للرأى العام الدولي الدولي، ولكن هذا (الدولي) هو المُنفِذ المُخطِط للجريمة.
ومن أمثلة الحركة الجهادية حركة الشيخ “عز الدين القسام” والذي لقي ربه شهيدًا بعدما جاهد في الله حق جهاده، ثم الثورة الفلسطينية عام 1935م وغيرها من تلك الحركات، ومناهضة الشيخ أمين الحسيني من بعده وغيرها من وسائل المقاومة .
إلى أن جاءت حرب 48 ثم الاعتراف بالكيان الصهيوني كدولة وذلك من قِبل عصابة الأمم (الأمم المتحدة)، وإعلان تقسيم فلسطين، ومن ثم تم عرض القضية على المحافل الدولية والاتفاقيات، ولكن هذه الاتفاقيات التي تزعم وتدّعى السلام وصلت إلى طريق مسدود، فهى لم تحقق سلامًا ولا أمنًا، ولا حررت أرضًا ولا قدسًا.
لقد كانت المفاوضات والمؤتمرات فرصة لتخدير الشعوب وإخماد مشاعرها، وهناك من السلطة الفلسطينية من ركن إلى حياة الترف والنعيم المقيم وخان وطنه وقضيته، وبات واضحًا أن هذه السلطة تعاون إسرائيل بهدف استنزاف وضرب المقاومة.
وهكذا أصبحنا أضحوكة، وأخذنا نردد ونصدق من أن مقاومة المحتل هي نوع من الإرهاب، وبات أعداؤنا يخططون لنا مساراتنا في هذا العالم الغريب.
وأصبح العالم العربي يستجدي حياته المستقبلية من هؤلاء الأعداء، وترك المفاوض الفلسطيني هزيلاً ومجردًا من القوة بعد أن تم إسكات المقاومة، وبالتالى كثُرت التنازلات تحت دعاوى أنه ليس في الإمكان أحسن مما كان، والحديث عن القدس ذو شجون، وما أكثر ما يلح علينا هذه الأيام، بينما يتفاقم الخطر الذي يتهدد أمتنا ومدينتنا القدس أرضًا وشعبًا وحضارة.
وحتى لو أعطت المواثيق الدولية بعض الحقوق، فإن الأطماع الصهيونية تُضَيِّع كافة تلك الحقوق.
إن من أهم ما تفعله الصهيونية لترسيخ وجودها وبقاءها هو سياسة الاستيطان، وهو تهجير الشعب الفلسطيني وبناء المستوطنات، فالاحتلال يُعد في الإجراءات لتغيير الطابع الديموغرافي والجغرافي والاجتماعي والاقتصادي للمدينة .
إن اغتصاب أرض فلسطين – أرض المسلمين ومن كان في ذمتهم – ظلم لا يجوز التسليم به، وكل محاولة من محاولات إضفاء الشرعية الدولية وفرض الأمر الواقع غير العادل بالقوة إلى زوال حتمًا، فإسرائيل نفسها مهما علت وقوت فهي “ظاهرة مؤقتة” متكررة، وحكماؤهم يعرفون هذا، فقضية الوجود الصهيوني بالأرض المقدسة ليست قضية فلسطينية فحسب ولا هي قضية الناطقين بالعربية وحدهم، إنها قضية إسلامية في المقام الأول، والصهيونية تعتبرها هكذا شئنا أم أبينا.
ففلسطين إرث إسلامى لا يجوز التفريط فيه ولا حتى مثقال حبة من رمل واحدة، وإن تحريرها فريضة شرعية وضرورة حياتية، ومن هذا المنطلق فإن دولة إسرائيل المزعومة ما هي إلا مرحلة في حياة المد العربي الإسلامي.