في البدء كانت الكلمة وكان السؤال، لحظتان فارقتان في بداية الخلق لم ينتهيا إلا بدوار الإنسان واستمرار دوامته في حوار الذات مع الذات، فلم يعد ممكنًا بعدها أن يمر شيء عليه مرور الكرام، فكان الأنبياء وبدأت الرسالات واستدعاء كل ما هو وراء النظر والقبر، فكانت المؤلفات التي تعددت كثيرًا بين فلسفة كانت وما تزال تراثًا إنسانيًا مُشتركًا تستظل البشرية جميعها في ظله، وكان الأدب، مختلجات الإنسان وحنينه للمعنى والتعبير عما يختلج تلك العضلة التي تضخ له دمًا وهمًا، فكان الأدب وكان الفكر، وكانت المناورات بينهما، بين علاقة وجودية يستحيل فيها الحرف دون فكرة، وتندر فيها الفكرة بلا حرف يصفها ويُشكّلها، وعلاقة نديّة أنشأها البشر الذين خلق الله لهم عقلاً يحب إثارة المشكلات.
عادةً ما يُثير الشخص الذي يحمل كتابًا يقرأه أو يتجول به فضول من حوله، لأنه يترك انطباعًا بأنه يعرف أو على الأقل يحاول أن يعرف، وهي بالواقع مغامرة روحية خطيرة لا يتجرأ الكثيرون على دخولها، لأنك تتحول فيها من إنسانٍ يرى كل ما حوله واضحًا لا يحتاج إلى تفسير، إلى إنسانٍ يرى كل ما حوله موضعًا للتفكير والتأمل والسؤال، ولنا في الخليل إبراهيم عبرة، عندما نظر نظرة للسماء وسأل وخاطبها بكل ما امتلك من حرف سائلاً عن سر وجوده، لذا غالبًا ما يتوجهون نحو هذا القارئ المسكين ليسألوه ماذا يقرأ وعندما يجيبهم يأتي السؤال المُتوقع وهو: إذن تقرأ روايات فقط ؟ أو: إذن تقرأ فكرًا فقط؟
إن هذه الثنائية الصلبة التي باتت تشكل جدرانًا حاجزة تفصل ساحات الثقافة الواسعة عن بعضها البعض أصبحت أكثر انتشارًا من ذي قبل، وهذا يعود لعدة أسباب أولها: أن العقل العربي قد اعتاد على الثنائيات الصلبة في تصنيف الأشياء والأحداث – فالأمر إما يكون أبيض أو أسود، خيرًا أو شرًا، قبيحًا أو جميلاً – ، أي أن اجتماع اثنين في شيء واحد مستحيل لديه، وثانيها أن هنالك أعداد من المُثقفين أسهمت في جعل البيئة الثقافية مكونة من معسكرات يقف كل منها مقابل الآخر ولا مجال للتلاقي، فترتب على ذلك أيضًا ظهور طبقات في مجتمع القرّاء يتربع على عرشها الفكر والتفلسف ناظرًا بازدراء إلى أسفل الهرم من الأدب بأنواعه وأشكاله المُختلفة، أو العكس عندما يرى الأديب أو مُحب الأدب نفسه يمتلك مقاليد الحرف والإبداع وينظر للمُفكر نظرته لآلة علمية وظيفتها التحليل وإخراج النتائج.
لنتناول السيناريو الأول الذي يرى بتفوق الفكر على الأدب، وهو ما أراه مغالطة فكرية عظيمة تُجرِّد الفكر من أهم أدواته وتفككه إلى أسبابه، أعني أن الفكر لم يكن ليوجد لولا وجود لغة وحرف يصيغانه، والمعروف أن الشيء بلا أسبابه قد يندر وجوده أو يستحيل، كما أن فرادة حرف المُفكر وتَلوّي حرفه برشاقة وهو يشرح فكرته وقدرته على “نحت” المصطلح المُناسب لنظريته لا يأتي وليدًا للحظة إبداع فقط، بل هو نتيجة لمخزون أدبي عظيم قد أكسبه القدرة على التنقل بين المُفردات بسلاسة وأناقة رجل نبيل يعرف تمامًا القطعة النادرة والفريدة ولا يضيع على نفسه فرصة اقتنائها، ولو أردنا أن نسوق الأمثلة سيكون خير من نبدأ به هو المُفكر والقائد الجليل “علي عزّت بيجوفيتش” في مؤلفاته المُختلفة وأشهرها هو كتاب (الإسلام بين الشرق والغرب )، وسأقتبس منه بعض المُقتطفات التي تجلى فيها جمال لغته في توصيف ما يريد توصيفه، فيُعرِّف فعل التأمل مثلاً على أنه “جهد جوّاني للتعرف على الذات وعلى مكان الإنسان في العلم، وهو تكريس النفس للأسرار للوصول إلى بعض الحقائق الدينية والأخلاقية”، ويصف الراهب والشاعر والفنان في فعل التأمل قائلاً: “إنهم يحاولون الوصول للحقيقة الكبرى، السر الوحيد الأكبر، هذه الحقيقة تعنى كل شيء ولا شيء، كل شيء بالنسبة للروح ولا شيء بالنسبة للعالم”، وعن أحد أشكال الإلحاد يقول: “هو لعنة صامتة للروح التي أجهدها البحث عن الله دون أن تجده، إنها إلحاد يائس”.
وبما أن الحديث هنا عن كتاب الإسلام بين الشرق والغرب فحري بنا أن نذكر أن طبعة دار الشروق عام 2010 للكتاب حوت على مقدمة كتبها الدكتور “عبد الوهاب المسيري” لتكتمل التحفة الفكرية الأدبية، وأكثر ما لفت انتباهي في هذه المقدمة هي اللغة والألفاظ التي استخدمها المسيري في التعبير عن نظريات علي عزت بيجوفتش، فبعد أن يتحدث عن ثنائية المادة والروح داخل الإنسان، يوضح أن هنالك لحظة معينة يتجاوز فيها الإنسان ماديته ويسمو في عالم الروح والمُثل فيطلق عليها “الدوار الميتافيزيقي واللحظة الفارقة” ويوضحها قائلاً: “يرى علي عزت بيجوفتش أن ثمة شيئًا ما حدث للإنسان جعله لا يقتنع بجانبه الطبيعي المادي الحيواني، ودفعه إلى أن يبحث دائمًا عن شيء آخر غير السطح المادي الذي تدركه الأسماع والأبصار وصولاً إلى ما لا تدركه الأسماع والأبصار ولنسمه (المُقدّس)، بحيث يبدأ يفكر في معنى حياته وفيما وراء الطبيعة (فيما وراء القبور)”، وعن الحرية الإنسانية يقول: “ولكننا إن سلمنا بحرية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله، فإننا بذلك نعترف بوجود الله إما ضمنًا وإما صراحة، فالله وحده هو القادر على أن يخلق مخلوقًا حرًا، فالحرية لا يمكن أن توجد إلا بفعل الخَلق، الحرية ليست نتاجًا للتطور، فالحرية والإنتاج فكرتان متعارضتان، فالله لا يُنتج ولا يُشيد .. إن الله يَخلق”.
في كتابه (حوارات من أجل المُستقبل) يجيب العلّامة “طه عبد الرحمن” على عدة أسئلة في مقابلة سُجلت إجاباتها في هذا الكتاب، ومن إحدى هذه الأسئلة مثال على ما أرمي إليه من ضرورة اللغة والمعرفة الأدبية في الفكر وتفرده عندما سأل المذيع الدكتور طه: أنتم تتحدثون عن بُعد تواصلي للإبداع الفلسفي بغية إحداث تفاعل مع المُتلقّي العربي، ولكنكم تكتبون بلغة غير معتادة للقارئ والباحث في هذا المجال، كيف تفسرون ذلك؟ فيجيبه الدكتور قائلاً: “هذا السؤال لا يقل وجاهة عن الأول، وجوابي عنه قد يكون من وجوه عدة، ولكني أكتفي بذكر بعضها: أحدهها أن المستويين؛ مستوى الإبداع الفلسفي ومستوى التنظير لهذا الإبداع مُختلفان؛ فليس من ينظر للشيء كمن يأتي بهذا الشيء نفسه؛ وعليه، فقد تكون لغتي التي أضع بها نظرية في الإبداع الفلسفي في غاية الدقة المضمونية والتقنية الاصطلاحية، لكن لغتي في وضع فلسفة مبدعة ليس فيها مثل هذه الدقة ولا فيها هذه التقنية، بل قد تكون قريبة ومألوفة ..، والوجه الثاني للإجابة عن سؤالكم هو أنه لا شيء أنفر منه مثل نفوري من الألفاظ والتعبيرات التي دارت على الألسن إلى أن صارت مبتذلة لا طرافة معها، وسوقية لا جودة فيها، لاسيما تلك التي لا تكون من إبداع الأمة وإنما من تقليدها لغيرها، لذلك تجدني لا أفتأ أطلب من الكلمات والتراكيب، لا الغريب الذي ينفر منه الطبع أو يمُجّه السمع، وإنما السليم الذي يبعث على الاندهاش، ولعل السبب في ذلك ممارستي في سن مبكرة للإبداع الشعري، إذ كنت أكتوي بالحرف اكتواء العاشق بمعشوقه، أو هو تشاغلي فيما بعد التأمل في عجائب اللغة، حتى أنه لولا اللسان، لما كان الإنسان، وقد يكون هذا السبب هو اجتماع هذه الممارسة الأدبية السابقة عندي إلى هذا التشاغل الفلسفي اللاحق”.
أما السيناريو الثاني فهو تفوّق الأدب على الفكر وهو عادةً ما يأتي ممن لا يجدون المتعة في الكتب العلمية أو الفكرية، وفي هذا مغالطة أعظم من سابقتها، لأن الأدب هو كُلّ العقل وكُلَّ كُلّه يتجلى في الفكر واللحظات التي يبتكر فيها الإنسان نظرية جديدة، وأن معاملته على أنه مجرد أحداث تستمتع فيها هو أكبر إجحاف يتعرض له، فعلى مرّ الزمان جسّد الأدباء القدرة العظيمة على إنتاج أعمال أدبية غير مجردة ، تناولت الفلسفة وعلم النفس والتاريخ وفن العمارة وغيره الكثير من المجالات، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى ولا يسعفني هذا المقام إلا بذكر بعضها، وأسّتهلها بـ “ميلان كونديرا” الذي يمل سريعًا من يبحث عن الأحداث في رواياته لأنه كتب الرواية لتجسد فلسفة فكرّ بها وليس مجرد سرد اعتيادي لقصة قد تجدها في أي مكان ، فيتحدث في بداية روايته (كائن لا تحتمل خفّته) عن نظرية (العود الأبدي) التي أربك فيها نيتشه العديد من الفلاسفة وهي أن نتصور أن كل شيء سيتكرر ذات يوم كما عشناه في السابق، كما ويطرح مفهوميّ (الخفة والثقل) في وصف حالة الغياب التام للحمل عن الكائن الإنساني فيصبح بذلك أكثر خفة من الهواء، أما إن كانت حياتنا أقرب للأرض وكانت واقعية أكثر وحقيقية أكثر فإن الحمل يكون ثقيلاً.
أما من عالمنا العربي فلا أجد أفضل من “رضوى عاشور” التي تُعتبر مدرسة أدبية مُستقلة لها منهجها وطريقها الفريد في إثبات أن الأدب قد يتحمل عبء التاريخ فيرويه ويُصرّفه كرواية بديعة كما فعلت رضوى في روايتها (الطنطورية) التي تناولت أحداث مجزرة الطنطورة والمجريات السياسية في حينها، وفي رائعتها (ثلاثية غرناطة) التي تشعر فيها أن رضوى قد أخرجت كرسيها القشّي صباحًا أمام منزلها في حارة البيازين لتروي لنا حكاية فردوسِ مفقودٍ، وكون أن الأدب لديه هذه القدرة البديعة على التشكل في كافة المواضيع، لم أستغرب صدور رواية للأديبة التركية “إليف شافاق” تتحدث فيها عن القواعد الأربعون للعشق الإلهي التي سنّها مولانا “شمس التبريزي” الذي كان رفيقًا لأشهر الشخصيات الصوفية في التاريخ الإسلامي وهو مولانا “جلال الدين الرومي”، فتتناول الرواية قصة تلاقيهما مصحوبة بالتعاليم والحكم التي نطقا بها، وهنا سأقتبس موضعًا يتحدث فيه شمس التبريزي عن عقيدة الحب لدى المتصوفة فيقول: ” كما ترى، فإن حب الله محيط لا نهاية له، ويحاول البشر أن ينهلوا منه أكبر قدر من الماء، لكن في نهاية المطاف يعتمد مقدار الماء الذي يحصل عليه كلّ منا على حجم الكوب الذي يستخدمه، ففي حين يوجد لدى البعض براميل، ولدى البعض أدلاء، فإن لدى البعض الآخر طاسات فقط”.
في فصل الأشياء وحشة، خاصة تلك الملتصقة ببعضها البعض منذ الأزل، ولو عدنا في تاريخ الفلسفة اليونانية لوجدنا أن الرجل الميتافيزيقي إما يكون شاعرًا أو نصف شاعرًا وجد في الفن عالمًا واسعًا يساعده على التعبير عن أشد المعاني الماورائية التي توصل إليها عقله بفعل السؤال الفلسفي، وعندما أراد ابن طفيل أن يعبر عن قلقه الوجودي حول الإنسان وطبيعته وسر خلقه قام بتوظيف الرمز لتحقيق أسمى المعاني الماورائية فكتب روايته (حي بن يقظان)، فضلاً عن الفلاسفة المعاصرين مثل بول سارتر وألبرت كامي الذين اتخذا من المسرح والتمثيل طقسًا يقربان فيه أفكارهم الفلسفية من الجمهور، وفي الربيع الذي مرّت فيه بعض الدول العربية منذ سنوات شهدنا ازدهارًا يعادله بنفس المقدار الانحطاط فيما يتعلق بالشأن السياسي والاجتماعي، أما ثقافيًا فقد أنجبت هذه السنوات الأخيرة عقولاً عربية شابة قادرة على تداول الفكرة دون اعتناقها شأن القوي المُتسائل لا الضعيف المُتَلك، وكل متابع للنشاط الثقافي سيجد أن الخريف الذي حلّ بعد الربيع السياسيّ لم يحلُل على ربيعنا الثقافي، فلم نعد نعرف إلا فصلاً تزدهر فيه الأفكار وتنمو وفصلاً تهطل فيه حبّات السماء ليزداد ربيعنا فيه خُضرةً.
ولطالما كان الأدب قهوة العقل والفكر غذاؤه، ولكل منهما ساحته ومجاله الواسع، وإن استعلاء أحدنا على الآخر بسبب ما يقرأه يشير إلى أننا بحاجة إلى إعادة تعريف الثقافة تعريفًا واسعًا باتساعها، ومن التعاريف التي تخطر ببالي دومًا: إن الثقافة حالة متكاملة بدأت عندما سأل الإنسان الأول: لماذا؟ وجلس بعدها يحتسي القهوة لليلِ طويل من التفكير، فخطرت بباله الإجابة وتمكّن منها فتذكر ما كان يقرأه من مُفردات ودوّنها فأحسن تدوينها.