كان الملمح الأبرز في الساحة السودانية بين يدي الاستقلال انقسام النخبة السياسية حول الحدث الأهم، لكن كلا الموقفين، الاستقلال الأتم للسودان أو إلحاقه متحدًا بمصر، كان يقوم على خلفيات شكّلتها أجندات أجنبية، إذ تبنى حزب الأشقاء (1943) المدعوم من مصر، مشروع الوحدة مع مصر وتوالي دعمه لمدى يبلغه ساحة البرلمان ليحسم أمر الوحدة مع مصر، واتخذت الإدارة البريطانية حزب الأمة (1945) واجهة تساند حزب الأمة عاملاً لاستقلال السودان ضمن خطتها نحو تمام عزل السودان مستقلاً عن الإدارة المصرية، وهي ذات الحيثيات التي شكلت ملامح المنافسة في الانتخابات التي تشكل على ضوئها البرلمان الذي سيفصل في القضية، وإذ انجلت تلك المعركة بانتصار الحركة الاستقلالية التي قادها حزب الأمة متقمصة الشعار الذي أطلقه لأول مرة ونجت باشا “السودان للسودانيين” ومهما يكن الشعار لأول مرة يحمل رؤية إنجليزية باكرة لعزل السودان عن مصر فإنه في لحظة الاستقلال أضحى تعبيرًا وطنيًا عن مطلب تقرير المصير والاستقلال عن سطوة بريطانيا ومصر كلتاهما.
الانتقال المستمر
لكن السودان منذ انتقال إدارة شئونه السياسية لأيدي النخبة الوطنية تضمن الانتقال، منذ الاستقلال كان هنالك دستور انتقالي وجاءت ثورة أكتوبر لحكم انتقالي لم يكتمل، ومن ثم دخل السودانيون في عهد طويل “العهد المايوي” ثم جاء عهد الانتفاضة الذي لم يكتمل فيه التأسيس وإلى حين انفصال الجنوب، لكن السودان لايزال اليوم في مرحلة انتقال وتأسيس مهما تكن الأحزاب السياسية مدركة لأصل أزمة السودان تعبّر عنها بصور جليّة في خطابها كله: “إن أزمات السودان قديمة تراكمت مظاهرها السالبة ونمت عبر الحقب الوطنية من بعد أن بدأت توتراتها بأسباب من سياسة التنمية الاستعمارية غير المتوازنة التي وضعتها الإدرة البريطانية بما يحقق مصالحها، لكن أنظمة الحكم الوطنية الخالفة توارثت جميعًا ذات سياسات الاستعمار، كما فشلت الأحزاب السياسية والنخب المثقفة في أن تبرم عقد ولاء يجمع مكونات القطر السوداني على هويّة سودانية تصلح أساسًا لوحدة وطنية جامعة.
ألقت أحوال الانتقال المستمر للدولة السودانية بظلال كثيفة على الأزمة الأعمق التي واجهت كل الحكومات الوطنية واتصلت بمعالجاتها كل الأحزاب السياسية كذلك دون أن تصل إلى نهايات خاتمة بشأنها، مشكلة جنوب السودان، مهما حدد مؤتمر المائدة المستديرة مواضع وتعقيدات الأزمة لأسباب تتعلق بجغرافيا القطر وتكوينه البشري ومن ثم لأسباب سياسية تاريخية تعود إلى الاستعمار لكن تعضدها أخرى مستمرة تتمثل في الأخطاء التي ظلت تواقعها الحكومات القومية المتعاقبة منذ أول عهد الاستقلال، وإذ تعمّق إضفاء الصفة العرقية على الصراع الشمالي الجنوبي عبر الحقب الوطنية فإنها كذلك عجزت عن إعادة تقسيم السلطة والثروة بالتساوي بما يعدل التفاوت في درجات النمو الاقتصادي بين الشمال والجنوب، وإذ تحتمل الأحزاب السياسية السودانية كفلاً من هذه الأخطاء فقد تفرّدت الأنظمة العسكرية التي هيمنت على حكم البلاد لسنوات مضاعفة مما أُتيح للأنظمة المدنية الديمقراطية، ذاك أن الأنظمة العسكرية جميعًا التي تعاقبت على حكم السودان كانت تظن أن تلك المسألة السياسية القومية هي مشكلة أمن ونظام.
الجنوب – الوعد المكذوب:
ويقرأ د. منصور خالد موقف الأحزاب من قضية الجنوب فيقول: في عشية الاستقلال أعلن جنوب السودان بلغة لا مواربة فيها عبر ممثليه في البرلمان، استعداده ورغبته في إقرار وحدة السودان شريطة أخذ تطلعات الجنوبيين في الاعتبار”، عبّر عنهم بنجامين لوكي عضو البرلمان عن دائرة “ياي” في جنوب الاستوائية عندما طالب في 12 ديسمبر 1955 بتكوين مؤتمر من كل الأحزاب للاتفاق على “أن يتضمن إعلان الاستقلال بيانًا يُعلَنُ فيه عن قيام دولة فيدرالية تضم الجنوب والشمال في إطار سودان موحد” ذلك الاقتراح رفضته أحزاب الحكومة والمعارضة على السواء، ولكن رغبة منها في إعلان الاستقلال في البرلمان في أول يناير 1956م، وافقت تلك الأحزاب على إضافة فقرة في إعلان الاستقلال تتعهد فيها بأن مطلب الجنوب بالحكم الفيدرالي “سيؤخذ بعين الاعتبار” في دستور السودان الجديد عند صياغته” و”ماذا كان مصير ذلك الوعد الغامض؟” يتساءل د. منصور خالد ثم يستطرد: “ما إن ناقشت اللجنةُ التي توفرت على صياغة الدستور الاقتراح حتى رفضته باستهانة بالغة، أعلنت اللجنة أنها، بعد إعطاء الاقتراح ما يستحق من عناية، وجدت أن أضرار الفيدرالية تفوق مزاياها، ولا شك لدينا في أن الميزان الذي رَجَح مضار الفيدرالية على مزاياها ميزان باخس، إذ لم يولِ أي اعتبار لمخاوف وقلق الذين طالبوا بالفيدرالية ابتداء”.
وينقل د. منصور خالد رسالة بعث بها “بنجامين لوكي” رئيس المؤتمر الجنوبي في 16 نوفمبر 1954 إلى الحاكم العام البريطاني ووزيري الخارجية المصري والبريطاني قال في تلك الرسالة: “إذ تعذرت الفيدرالية فلا مناص من أن ينفصل الجنوب عن الشمال بالطريقة التي انفصلت بها باكستان عن الهند”، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يتحدث فيها سياسي عن حق تقرير مصير جنوب السودان، لكن دون أن تأخذ النخب السياسية السودانية الأمر على محمل الجد حتى ساعة تمام انفصال جنوب السودان 9 يوليو 2011.
الشيوعيون والإسلاميون:
حفلت الساحة السودانية نحو بداية سنوات الخمسينات بحراك سياسي واسع تمخض عنه توقيع اتفاقية تقرير المصير وجرت خلال ذلك انتخابات عامة تفوق فيها الحزب الاتحادي لأول مرة قبل أن يعود فينتكس كسبه بسبب سيادة حكم العسكر على ساحة السياسة المصرية وما قابل ذلك من تظاهرات على صعيد الجبهة السودانية تندد بمصر وتدعو إلى استقلال كامل عنها، لكن في خلال ذلك نشأت حركتان سياسيتان شديدتا الصلة بالساحة المصرية، هي الشيوعية وحركة الإخوان المسلمين، وإذ تأثرت ثقافة الشيوعيين السودانيين آنذاك بأدب الشيوعية في مصر وثقافتها التي يمدهم بها من خلفهم اليهود، فقد مثّلت الإذاعة المصرية رافدًا مهمًا في جميع أدبياتهم وهي تتعبأ دعاية مضادة لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، لكن يرجو شيوعيو السودان أن ينتنقل شيء من شعار تلك الحملة الإعلامية نحو التنظيم الإسلامي السوداني في جامعة الخرطوم الذي بدأت كذلك تشير إليه بوصفه (جمعية دينية) تحقيرًا لشأنه وصدًا عن سبيله بما سار من عرف استصغار مادة الدين في المجتمع ومناهج التعليم بالمدارس والمعاهد، وقد وافى ذلك تطورًا مهمًا على ساحة التنظيم الإسلامي السوداني الداخلية، وإذ مضى الحزب الشيوعي يشهر نفسه حزبًا سياسيًا في ميدان السياسة السودانية فقد أثار ذلك حماسًا لدى الإسلاميين يرجون مكافئة تلك الخطوة، لكن مهما يكن التنظيم الإسلامي قد أكمل عدته نحو تمام ساعة الجهر والإعلان عن ميلاده فقد وافى ذلك التطور الانقسام الأول بين صفوفه دون أن يؤجل مؤتمره التأسيسي الذي بدأت أعماله (1954) وإذ تباينت الاقتراحات في شأن تسمية التنظيم بين جماعة ترجو أن يحمل اسم (الجماعة الإسلامية) وأخرى ترجو نصرة وتضامنًا مع إخوان مصر الذين أشتدت بهم المحنة وعظم بلاء الاضطهاد فقد أمضت الأغلبية اسم (الإخوان المسلمين) وسمًا للتنظيم السوداني لكن دون التزام يلحقه تابعًا للجماعة في مصر التي لم تكن خرجت من وصفها (جمعية الإخوان المسلمين)، فلم يجد التنظيم السوداني الجديد ما يأخذه عنها ساعة كتابة برنامجه السياسي فمضى قادته يكتبون النظام الأساسي الخاص بهم لا يستلهمون شيئًا من تراث الإخوان في مصر مهما حملت الصحيفة الناطقة باسمهم كذلك اسم الإخوان المسلمين.
خطايا الأحزاب:
منذ أول فجر استقلال السودان وانعتاقه عن ربقة الاستعمار وظهور الأحزاب السودانية فاعلة في الساحة السياسية فقد قارفت تلك الأحزاب أخطاءً كثيفة أثرت على جملة التاريخ السوداني الحديث وبدت تلك الأحزاب بعيدة عن الممارسة الديمقراطية الرشيدة التي ظلت ترفعها شعارات في وجه أنظمة العسكر الطاغين على ساحة السياسة السودانية، ذاك أن أول ممارسة سياسية شائنة في أعقاب الاستقلال كانت حينما اتفق زعيمي طائفتي الختمية والأنصار على إسقاط حكومة الأزهري بعد شهور من إعلان استقلال السودان، لكن الجريرة الأكبر التي قارفها حزب الأمة كانت عندما أمر رئيس الوزراء “عبد الله بك خليل” بتسليم السلطة لقيادة الجيش في نوفمبر 1958 ليقطع الطريق على إجراء برلماني يسحب عنه الثقة.
جاء انقلاب العقيد “جعفر النميري” مدعومًا من الحزب الشيوعي السوداني القوميين العرب تعبيرًا عن الغبن السياسي الذي وقع على الحزب الشيوعي حينما أقدمت أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي وجبهة الميثاق على عقد تحالف قام بتعديل الدستور وأسقط عضوية نواب الحزب الشيوعي من البرلمان (1965) بينما تواطأت الحكومة رافضة إمضاء حكم المحكمة العليا التي لم تجد حيثيات قانونية في القضية فقضت ببطلان إسقاط عضوية النواب الشيوعيين، إذ وقع الخلاف على أشده بين الشيوعيين وقائد الانقلاب المايوي، فلم يتوان الحزب أن يدبر انقلابًا جديدًا على نظام النميري (يوليو 1971) وهو الحدث الذي واجهه النميري بردة فعل قاهرة دفع خلالها بوجوه من قيادة الحزب إلى ساحة الإعدام.
هذا وكان التنظيم الإسلامي وواجهاته السياسية المحتلفة قد أثبت وجودًا فاعلاً في ساحة السياسة، مشاركًا ضمن قوات الجبهة الوطنية التي اقتحمت الخرطوم في عمل عسكري يرجو تقويض حكم النميري (1976) لكنه ساعة الانتفاضة يجاري الانتقال السياسي طارحًا صيغة الجبهة الإسلامية القومية، لكن الأحزاب كذلك أحدثت أمرًا خرقت من خلاله العملية الديمقراطية حين تجمعت كتلة واحدة تعمل على إسقاط الأمين العام للجبهة الإسلامية الشيخ “حسن الترابي” المرشح في دائرة الصحافة، لكن الجبهة الإسلامية التي حصّلت من أصوات المنتخبين ما ضمن لها المركز الثالث لاقت تعنتًا سياسيًا متعاظمًا من خلالها مشاركتها في حكومات الديمقراطية الثالثة بلغ ذروته بمذكرة الجيش التي دفعت بها خارج المشاركة في الحكم وهيأت الفرصة لمكاتبها العسكرية الخاصة لمراجعة خطتها في الاستيلاء على الحكم عبر انقلاب عسكري في 30 يونيو1989، لتبدأ حقبة الإنقاذ التي شهدت أحداثًا عظامًا من بينها انفصال جنوب السودان، لكن يبقى المشهد العام يحمل ذات ملامح المشهد عشية الاستقلال أن الدولة السودانية في حالة صيرورتها، تعايش حالة الانتقال لا يكاد يستقر إلى قرار.