إذا كانت العقوبات الإقتصادية الخانقة التي فرضتها القوي الغربية هي العائق الأكبر الذي يواجه الرئيس حسن روحاني لمعالجة الأزمة الإقتصادية المُتصاعدة و علي رأسها عجز الميزانية (30 مليار دولار) , التضخم (45% في يونيو الماضي) و البطالة (في 2012 كانت النسبة 27% للذكور و 43% للإناث) فأن هناك مشكلات اقتصادية داخلية ناتجة عن العقوبات ستسبب صداعاً لدي الإدارة الإيرانية الجديدة إن لم تجد سبيل للتغلب عليها خاصةً لو كان مصدرها مؤسسة حساسة مثل الحرس الثوري الإيراني.
يمثل تهريب الوقود المدعم من إيران إحدي هذه المشاكل الداخلية التي تواجهها الحكومة الجديدة , تأتي هذه المشكلة في إطار مشكلة أكبر الا و هي تهريب السلع. علي قدم المشكلة فأنها ظهرت تصاعدت بشكل اوضح منذ نهايات العام الماضي حين كشف عضو مجلس الشوري الإسلامي عبد الله يوسفيان عن ارتفاع نسبة السلع المهربة إلي إيران إلي 58% و لكن حسب تقديرات مسئولين يتم الكشف عن 3% فقط من هذه السلع و الـ97% الباقية تدخل الأسواق الإيرانية. اما فيما يخص تهريب الوقود فأن وسائل التهريب لا تقل غرابة في حجمها عن الأرقام المذكورة. في سبتمبر من العام الماضي كُشف عن خط انبوب يبلغ طوله 30 كم في مياه محافظة هرمزجان المُطلة علي الخليج لتهريب الوقود , و في نفس الشهر كُشف عن خط انبوب لتهريب الوقود يبلغ طوله 10 كم في محافظة بندر عباس.
إذا كانت هذه الأرقام و الوسائل تشير إلي شئ فأنها تشير إلي تورط اطراف من داخل جهاز الدولة و اطراف مرتبطة به في عمليات التهريب لأنه ليس بمقدور شركات صغيرة وحدها أن تخترق الأجهزة الإدارية للدولة الإيرانية و أن تستخدم وسائل من السهل اكتشافها إلا لو كانت تقف ورائها كارتلات و جماعات ضغط دولتية تستخدمها كواجهه لنشاطاتها. دفع هذا رئيس جهاز مكافحة التهريب فدا حسين مالكي في بداية الشهر الجاري إلي التحذير من أن الإقتصاد ليس مجالاً للألعاب السياسية في إشارة إلي نشاطات الحرس الثوري الإيراني.
جذور المشكلة
في اعقاب الحرب الدموية التي شنها صدام حسين علي إيران شرع الرئيس هاشمي رفسنجاني في عملية إعادة البناء التي سعي في إطارها توجيه طاقات قوات الحرس الثوري الإيراني نحو العمل في القطاعات المدنية و تجديد البني التحتية التي تضررت بسبب الحرب. تحول الحرس الثوري تدريجياً إلي امبراطورية اقتصادية في مجالات البناء و النقل و قطاع الطاقة. بحلول عام 1992 اصبح 45 ألف موظف يعمل في المجمعات الصناعية و التجارية التابعة للحرس الثوري الإيراني.
في عهد احمدي نجاد استطاع الحرس الثوري و البسيج التوسع أكثر للانخراط في المزيد من الصفقات التجارية و الصناعية خاصة في قطاع الطاقة. كان احمدي نجاد كجزء من النخبة الأمنية الإيرانية يستهدف تمكين رفاقه لتعزيز سلطته في كافة مفاصل الدولة لتطهيرها من النخب الإصلاحية التي تمكنت من الانتشار في عهد الرئيس خاتمي. من جهه أخري كانت العقوبات الغربية المتزايدة التي سببت في إنسحاب المزيد من الشركات الإستثمارية الغربية قد دفعت الدولة إلي سد الفراغ من خلال المؤسسات التجارية و الصناعية التي يديرها الحرس (يقال أن إستبعاد الشركات الإيرانية الخاصة كان يتم تحت دعوي “الحفاظ علي الأمن القومي”). لذا كما هو شائع تحول الحرس الثوري الإيراني إلي “دولة داخل دولة” (شبيه بوضع الجيش المصري الذي يسيطر علي 30-40% من الاقتصاد المصري من خلال مجمعاته الصناعية).
اثر العقوبات
تسعي امبراطورية الحرس الاقتصادية كأي كارتل إلي تحقيق تراكم أكبر في رأس المال و التوسع في السوق و القضاء علي المزيد من المنافسين. لكن لأن العقوبات الإقتصادية الغربية اغلقت الباب في وجه نشاطات الحرس في مجالات التصدير التي كان يتم الحصول من خلالها علي عملة صعبة فأن جماعات الضغط داخل الحرس الثوري بدأت في الانخراط في نشاطات تهريبية (و خاصة الوقود المدعم) لتعويض ما فقدته من منافذ رسمية كانت تستخدمها في الحصول علي العملة الصعبة التي تعظم من خلالها نشاطاتها و مشروعاتها التجارية الداخلية بالإضافة إلي معداتها العسكرية و نشطاتها الاستخباراتية. كان الخطاب الشعبوي و التهديدي النجادي جزءاً من استراتيجيات الايدولوجيا الرأسمالية التي استخدمها الحرس للتوسع الاقتصادي في السوق الداخلية تحت دعوي الحفاظ علي الأمن القومي. لذا فأن عقوبات الولايات المتحدة و خطاب احمدي نجاد التهديدي هم المسئولان عن المزيد من “كرتلة و عسكرة إيران”.
كبح جماح الامبراطورية
مثلما شكا رفسنجاني مؤخراً من سيطرة الحرس الثوري علي جميع المجالات فأن أحمدي نجاد في مؤتمر شهير في عام 2011 لمكافحة تهريب السلع وصف الدوائر التي تمارس نشاطات التهريب داخل الحرس بـ”الأخوة المهربون”. في هذا المؤتمر طالب أحمدي نجاد بإغلاق جميع المنافذ الحدودية و المرافئ البحرية الغير خاضعة لمراقبة هيئة الجمارك. تناقض هذا الكلام مع تصريحات سعيد مرتضوي رئيس جهاز مكافحة السلع في عهد نجاد التي قال فيها أنه لا توجد في إيران مرافئ غير خاضعة للمراقبة. كان سعيد مرتضوي الذي تولي منصب النائب العام متورطاً في اعمال تعذيب و قتل في حق المتظاهرين الإيرانيين المعتقلين في اعقاب احداث 2009 الشهيرة.
تشير التقديرات إلي وجود ما بين 150 إلي 212 مرفأ بحري في إيران و لكن حسب تقرير نشرته إحدي المواقع التابعة للأصوليين فأن إدارة 61 مرفأ فقط تملك التصريحات اللازمة من وزارات الداخلية و الدفاع و البيئة و هيئات الجمارك و الملاحة , و هو ما يعني أن هناك ما يقرب من 151 من المرافئ الباقية قد تكون منخرطة في اعمال تهريب سلع.
الكارتل يُحصن نفسه أم العكس ؟
في 27 اغسطس من العام الجاري صدق مجلس الشوري الإسلامي علي قانون يقضي بتحويل السلع المُهربة التي يتم الكشف عنها إلي لجنة شرعية يعينها المرشد و يكون للجنة حق بيع هذه المواد و وضع اموال السلع المباعة في حساب يتبع اللجنة. و طبقاً لنفس مشروع القانون الذي تم التصديق عليه يكون للجهة التي تكشف عن واقعة التهريب الحق في الحصول علي الوسيلة التي تمت بها العملية طبقاً لحكم قضائي.
لما كان الكثير من نواب المجلس من القادة السابقين في الحرس الثوري فأن التصديق علي مسودة القانون له معني من اثنين : 1 – أن الكارتل يستخدم نوابه في المجلس لتعزيز سلطته بتفويض لجنة تابعة للمرشد للاستحواذ علي السلع المهربة و من ثم يستحوذ الحرس بطريقة غير مباشرة علي السلع التي حاول تهريبها التي كُشف عنها و السلع التي تهربها الكارتلات الأخري و من ثم يضيق عليها الخناق. 2- أن المرشد يرغب في كبح جماح نشاطات الحرس الثوري التهريبية.
كيف يعالج حسن روحاني المشكلة ؟
تكمن مشكلة تهريب السلع في أن منفذيها ليسوا شركات مستقلة صغيرة تنتمي للقطاع الخاص و إنما كارتلات ترتبط بشكل أو بآخر بالنخب الأمنية و العسكرية التي لها شبكات مصالح مرتبطة بوسائل الإعلام مما يجعل الاصتدام بهم ليس خياراً موفقاً خاصة أن حسن روحاني لا يعتمد في خطابه السياسي علي لغة الصدام كما أنه يحتاج إلي جميع الأطرف لتجاوز العقبات الإقتصادية الأخري التي يواجهها. إذاً فأي حلول إجرائية لن تكون مجدية إلا إذا كانت عبر تنسيق مُسبق ليس مع المرشد فقط بل مع الدوائر القريبة لأن سلطة المرشد تدخل في عملية تأثير و تأثر مع المؤسسات الأمنية و العسكرية المحيطة به , كما أن روحاني يحتاج إلي التقريب بين الحكومة و البرلمان. فروحاني من جهه كرئيس سابق لمركز البحوث الاستراتيجية التابع لمجلس تشخيص مصلحة النظام علي قدر كبير من الإطلاع عل إشكالات الدولة الإدارية و مفاصلها و من جهه أخري فأن توليه لمنصب سكرتارية المجلس الأعلي للأمن القومي يوفر له علاقات وثيقة باعضائه من القادة العسكريين و الأمنيين. لكن في النهاية تظل عقبة العقوبات الغربية هي العقبة الرئيسية التي علي روحاني حلها لأنها المفتاح الرئيسي للأزمات الاقتصادية و علي رأسها أزمة التهريب. ستكون جولة المفاوضات النووية القادمة التي ستعقد في نيويورك هي الاختبار الأول لدبلوماسية روحاني.
حسن روحاني هو جزء من المنظومة و النخبة المُسيطرة علي جهاز الدولة و أيدولوجيتها لذا فأنه ليس من المتوقع أن يكون هناك أي تغييرات هيكلية و إنما دور روحاني هو التقليل من تغول الحرس الثوري للحفاظ علي توازن الاقتصاد و العبور به من الأزمة الحالية.