على مدار الأسابيع الماضية، قام منتدى العلاقات العربية والدولية (1) بنشر سلسلة من المقالات للدكتورة “هبة رءوف عزت” كان عنوان السلسلة هو: “من الدولة إلى التجديد”، وقد نُشر منها حتى اليوم ثلاثة مقالات يجمع بينها قدر كبير من الخصائص وتفصل بينها أخرى.
تأتي هذه المقالات في إطار مشروع “الفقه الإستراتيجي” الذي بدأ عام 2011 تحت إشراف الدكتورة هبة، وهو مشروع يطمح بالأساس إلى تكوين وتطوير مجموعة جديدة من الأدوات الفكرية والمنهجية مستعينًا بثلة من التخصصات العلمية والأدبية المختلفة، على أن تكون هذه الأدوات قادرة على إعادة صياغة العلوم الاجتماعية بشكل يستخدم الوحي كمنظار، وفي ذات الوقت على إعادة قراءة نصوص الوحي من منظور عمراني/ اجتماعي بما يسمح بتكوين رؤى استراتيجية فعالة عمليًا وأكاديميًا، بدأ المشروع في القاهرة وقام بترتيب عدد من الندوات في محافظات مصرية متنوعة وعقد عدد من الندوات والورش بتونس والمغرب. (2)
اتبعت الكاتبة أسلوبًا يتسم بالمنهجية والتدرج الشامل في مقاربتها لموضوع السلسلة؛ وهو الدولة (في السياق العربي الإسلامي)(3)، لتبدأ في عملية من فك الاشتباك بين عدد من المفاهيم التي أدى تداخلها على أرض الواقع إلى التشويش على ماهية كل منها على حدة، إلا أنها لم تقع في الفخ المعتاد وهو تناسي الترابط الواقعي بين هذه المفاهيم.
بدأت الكاتبة حديثها بإرجاع الفصل الواضح بين المؤسسات والتنظيمات وبين الجماعات والسياقات الاجتماعية الواسعة إلى أصلها الحداثي، فهذا الفصل قد حدث بالأساس كجزء من بزوغ نجم الحداثة الغربية ونشأة الدولة بصورتها الحالية ومكوناتها من أجهزة بيروقراطية وجيوش تحتكر استخدام العنف والرشد، مشيرة إلى أن هذا توزاى مع الاختفاء التدريجي للذوات الفاعلة كالأفراد والجماعات الصغيرة تحت وطأة هذه الكيانات؛ متحركة فقط في الإطار المرسوم لها من قبل الكيانات.
انطلقت الكاتبة بعد ذلك لتطبيق ما سبق ذكره على الظاهرة الواقعية الأهم في الوقت الحالي؛ الحركات الإسلامية والسياسي منها تحديدًا، فبدأت بطرح تساؤل تأسيسي فيما يخصها: “ما هو الإسلامي تحديدًا في التنظيمات الإسلامية؟”، فمن الواضح أن “تصور” المنتمين لتنظيمات الصحوة الإسلامية لا يماثل إلا مقلوب أو صورة مرآة للدولة القومية الحديثة، ويتضح من الصور الحالية للتنظيمات الإسلامية لأي مدى يمكن وصف الأيديولوجيا الحاكمة لها (للتنظيمات بشكل هيكلي وعملي) بالحداثية التامة، فرغمًا عن كل الخطابات التي تصنعها هذه التنظيمات حول نفسها أو يصنعها الآخرون، فإن الشكل الذي تتخذه وأسس توزيع القوة والمسؤولية والثقافة الخاصة والداخلية هي كلها بُنى وأنظمة حداثية بامتياز.
وبذلك يمكن النظر للفشل الذريع لمحاولات هذه التنظيمات استيعاب نظم الحكم في المناطق التي وصلت إليه فيها، فبينما تواجدت فجوة عملاقة بين الادعاءات الخطابية لهذه التنظيمات وطبيعة حركتها الحداثية وتقبلها للأسس الموجودة بالفعل لتوزيع السلطة والقوة الحداثي والدولة على شكلها الحالي، لم تحاول هذه التنظيمات إعادة النظر على اتساق المكون الإسلامي (الذي تدعي دورانها في فلكه) من شريعة وفلسفة وهيكل أخلاقي مع هذه النظم والهياكل سواء في الحركات أو الدول التي حاولت السيطرة عليها.
فما هي طبيعة الدولة التي تنشدها تلك التنظيمات؟ وما شكل العلاقة التي تربط الشريعة والأخلاق بالقانون الذي سيجري من أجهزتها مجرى الدم بالعروق؟ فعلى سبيل المثال شكل هذه العلاقة سيحدد طبيعة العلاقة بين السلطات المختلفة داخل الدولة، وبينها وبين المؤسسة العسكرية (وهي العلاقة التي أدى فشل تبلورها بشكل واضح إلى سفك دماء الآلاف في مصر)، ويُصبح السؤال عن شكل حرية الفرد وعلاقته بهذه الدولة محوريُا على عدد من الأصعدة وأهمها الصعيد الديني الذي يلعب فيه رجال وعلماء الدين دورًا فرديًا ومنهجيًا في ذات اللحظة، هذه كلها أسئلة تحتاج إلى دقة نظر، والإجابات عنها كلها مرتبكة، وسجينة التفكير بمنطق المؤسسة والكيان التنطيمي في النظر للدولة والمجتمع، أو غارقة في تكرار ذكر نماذج تاريخية لا يمكن إعادة بعثها لاختلاف السياقات حجمًا ونوعًا وطبيعةً.
فهل للقوة مكان في أفق هذا التصور؟ قطعًا، القوة بكل مقوماتها وأبعادها. وهل للقانون والعدالة مساحة؟ بالتأكيد، العدالة كقيم وفضاء مجتمع قبل الأكواد والأنظمة القانونية. وهل للشريعة مكانة؟ بلا جدال. ولدينا الكثير في هذا المجال من جهد القرون وتجديد الباحثين الذين شُغلوا بمستجدات العلم والعالم منذ عقود في مجال الاجتماع الاقتصاد والتعليم والتشريع وعلاقات القوة ورؤى العلاقات الدولية والاجتهاد الفقهي، ما ينقصنا هو تصور مختلف للسلطة والسيادة يخرج من أسر الانبهار بالحداثة، والشعور بالصَغار أمام المستعمر والرغبة في التوافق معه، ويعيد بناء تصورات شعوب تماهت مع الاستبداد ونسيت العدل، واستبطنت ذلك في نُظمها الثقافية وتنظيماتها الاجتماعية والمجتمعية والحركية، بل والعلمية.
فمع إسقاط المشروع الاستعماري لمحاولات التجديد الإسلامية في أراضي الخلافة الأخيرة، حاول هذا المشروع تقديم إجابات على مجموعة الأسئلة المختصة بشق “الدولة” من ثنائية الدولة الإسلامية، فعلى حد قول الكاتبة، تكمن الإشكالية الحقيقية في هذه الثنائية المثيرة للجدل في شق الدولة وليس في شق الإسلامية، خصيصًا وقد ركنت حركات الصحوة الإسلامية إلى التعامل مع هذا الشق كأن حداثته شيء بديهي لا يستحق إعادة التفكير فيه، وانصب الاهتمام على إضفاء الإسلامية عليه.
أنهت الكاتبة المقال الأول قائلة: “إننا نحتاج عقلاً مختلفًا لا يسير على قضبان السلطة ولا يغيب خلف قضبان الاستضعاف والمظلومية؛ أي تصور مختلف للسلطة والسياسة يخرج من أسر الانبهار بالحداثة”.
أتى المقال الثاني حاملاً لعنوان “في نقد الحداثة واستعادة معايير الحكم”، وإن كان المقال الأول قد عنى بمحاولة فهم التصورات الإسلامية عن الدولة وعن الحركات نفسها ومكان هذه التصورات من الواقع، فإن المقال الثاني (4) يهدف بالأساس لتقديم فهم واقعي (براغماتي) للدولة الحداثية في السياق المحلي الحالي، تبدأ الكاتبة بوضع الدولة في إطار المشروع والآليات الرأسمالية، ليتضح من ذلك موقع وأهمية المنطق المؤسسي الحاكم لهذه الدولة (والتنظيمات الإسلامية على حد سواء)، فبالرغم من أهمية هذا المنطق ونجاعته في الكثير من الأحوال، إلا أن غياب منطق مقابل ذي عملية وقوة قد أدى لإطلاق يد المؤسسة في المجتمع بشكل لم يبق له على أي وسيلة للدفاع عن نفسه ومنطقه الخاص في مقابل الوعي الرسمي المؤسسي.
وعلى ذلك فإن أي محاولة تجديدية لابد لها قبل أي شيء أن تعمل على صياغة اجتماعية جديدة متنوعة الأبعاد، أي غير محكومة بمنطق القوة والسلطة أحادي البعد فحسب، ويتطلب هذا نظرة جديدة إلى الصيغ غير المؤسسية في تحجيم السلطة والسيطرة على تمدد القوة، أي أن تحرير العقل السياسي من الدولة عن طريق اعتبار اللامؤسسات واللاحركات في إطار من السيولة الثقافية قد أصبح ضرورة في عالم تسارعت فيه معدلات العولمة وقاربت الحداثة على الموت، بينما لم يُطرح بعد تصور جاد للدولة الإسلامية كفرع عن أصل الشورى بعد.
ويتضح أن بعد 200 عامًا من العلمنة لكل من الدولة والمجتمع، فإن الفهم الشعبي للدين وقدرة الناس على تخطي الفجوة الزمنية والجدانية قد أصبح مجالاً للتشرذم والتشوه، إلا أن سير الحداثة الحثيث والواثق نحو نهايتها يعني بالضرورة أن الهجين الحالي بين التدين والثقافة القومية وثقافة الاستهلاك في طور التحلل بلا شك، ومن خلال هذا يصبح من الممكن جدًا إعادة تدوير الخيالين الديني والسياسي لإنتاج صيغ جديدة تأخذ في الحسبان المزيد والمزيد من الأبعاد الأخلاقية والاجتماعية.
في ضوء ما سبق في كلا المقالين؛ يصبح من الصعب للغاية تناول “الدولة الإسلامية” في أدبيات التنظيمات الإسلامية عبر سرديات استعادة عز الأمة وبناء الخلافة، أجابت الكاتبة على هذه المعضلة بأن كلاً من الأمة والشريعة هما الإجابة؛ ولكنها لم تنس أن تشير إلى مدى صعوبة هذه الإجابة وإمكانية إساءة استخدامها في سياقات من الجهل أو البراغماتية السياسية والاقتصادية؛ وبذلك يتوجب حماية الشورى من تضخم وعملقة وهيمنة صورة الدولة، وأن تُفهم الشريعة في سياق الاجتماع والاحتكام لا التقنين والإرغام.
كان المقال الثالث (5) تحت عنوان “عن المجال والمكان والمدن”، وهو في حقيقة الأمر مقال فريد على عدد من الأصعدة، خصيصًا وأنه يهدف إلى تغطية مجال دراسة شحيح الأدبيات جدًا في اللغة العربية وهو مجال الدراسات العمرانية، بالإضافة إلى أنه يمتلك نقطة تميز ضخمة عن الأدبيات المنشورة في لغات أخرى وهي الدراية العميقة بأحد أهم أعمال المجال الكلاسيكية وهو علم عمران ابن خلدون.
يعتمد المقال بشكل كبير على مجازي المساحة والمجال في فهم العلاقات الاجتماعية والتعاطي مع المحيط المادي من مدن وعمران، إذ بدأت الكاتبة الحديث بإعادة طرح السؤال الأشهر “من نحن وماذا نريد؟” لتتمكن لاحقًا من تعديد وترتيب الجهود اللازم بذلها وفقًا له.
وبدأت بالإشارة إلى غياب ما يُطلق عليه الدوران المؤسسي في التصورات الإسلامية للنظم السياسية، إذ إن أهلية الوحدات الاجتماعية المختلفة (غير مؤسسات الدولة والسلطة والحركات السياسية) للقيام بدور سياسي تعضد من تكاتف هذه المكونات في وحدة قوية تدعم مؤسسات الدولة أو تقومها وفقًا لموقعها من القيم الأساسية، وأهمية هذا الدوران هو في الديناميكية والاتساق الذي يخلقه بين كافة تمظهرات الاجتماع البشري وبين القيم الحاكمة له.
وهنا أتت الإشارة إلى نقص أي شكل لمشروع إسلامي للعمران، فالعمران كعملية إجتماعية هو عملية مستمرة من تشكيل المساحات المحيطة بالمجتمع وإكسابها معاني مختلفة وفقًا للقيم السابق ذكرها؛ ونتيجة لذلك تصبح المدن الناتجة هي السياق المكاني الحاكم لأي تنزيل لقضايا فكرية أو فقهية أو سياسية أو اقتصادية، وهذا يعني بالضرورة أن انشغال الفكر الديني والخطاب الإسلامي تحديدًاعن محاولة تشكيل تصور وتأصيل بديل لواقعها الحالي هو خطأ مروع، خصوصًا إذا اختلط بالتسليم بالمدينة/ السوق الرأسمالية في صورتها الحالية.
لينتج عما سبق ما يمكن تسميته بالعمران الكاذب، أي عمران لا يتسق مع ما يحتويه من أشخاص بما لهم من أفكار وقيم وتصورات، معمار يشل ويقتل أي تصور بديل لعلاقة الوحدات الاجتماعية ببعضها البعض، ويُعيد تشكيل علاقة الأفراد ببعضهم البعض، بل وحتى يبيح سيطرة السلطة على أجساد مواطنيها بشكل غير مسبوق.
وبينما لم تنته هذه السلسلة حتى الآن فإن النظر إليها كوحدة واحدة سيسمح باستخدامها كمنظار جديد يمكننا من إلقاء نظرة جديدة وشديدة الأهمية على واقعنا المعاصر واليومي، في إطار كل من التفهم الفردي وحتى الدراسة الأكاديمية الجادة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) https://fairforum.org/
(2) نشأ مشروع الفقه الإستراتيجي عام 2011 وقام على تأسيسه الأكاديمية المصرية الدكتورة “هبة رءوف عزت” والباحث الأزهري “أحمد عبد الجواد زايدة” وأشرفت عليه علميًا الدكتورة هبة رءوف عزت، يهدف المشروع إلي تقديم أطروحات تسعي إلي رأب الصدع بين الأساس المعرفي الإسلامي والوعي الحضاري المعاصر بمنجزاته النظرية مع نقدها – ونقضها حين يلزم ذلك – والانطلاق بهما لاستشراف نهضة في عالم يفرض تحديات – مثلما يتيح فرصًا – للأمة الإسلامية على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكل منهجي يجيد لغة الأصول ولسان العصر، ويحاول المشروع تقديم إسهامات فكرية تساعد على بناء أدوات منهجية يمكن من خلالها إعادة صياغة العقل المسلم وإعادة قراءة الواقع من خلال ما تمثله هذه الأطروحات من أدوات ومعايير، والغاية هي تكوين عقول إستراتيجية عمرانية تدرك وتمتلك أدوات التفكير المنهجي الشرعي بعمقها الاجتهادي التنزيلي، وتنفتح في الوقت نفسه على مستجدات العلوم الاجتماعية بمستوياتها النقدية لإحداث مقاربة حقيقية تُقرأ فيها هذه العلوم في ضوء تصورات الوحي وسننه ومقاصده وقواعد شريعته لإحداث التفاعل المطلوب وتحقيق شهود الأمة المعرفي العالم. يصدر عن منتدى الفقه الإستراتيجي سلسلة مطبوعات بالتعاون مع الشبكة العربية للأبحاث والنشر ، يصدر منها كتابان خلال الفترة القريبة القادمة، أولهما “نحو عمران جديد” للدكتورة هبة رءوف عزت.
(3) المقال الأول
(4) المقال الثاني
(5) المقال الثالث