“والدي كان رجلًا عاديًا وقد أخبرنا تقريبًا كل شيء عن حياته، إنه بريء وستظهر براءته عندما لا يستطيعون تقديم أي إدانات بشأنه”.
هكذا صرح “عبدالله الرقيعي” – قبل عامٍ لجريدة “الديلي تيلجراف” البريطانية – نجل “نزيه عبد الحميد الرقيعي” الليبي الجنسية المشهور بأبي أنس الليبي القيادي بتنظيم القاعدة، الذي وقع في أيدي السلطات الأمريكية العام قبل الماضي بعد عملية نفذتها القوات الخاصة الأمريكية لاعتقاله من قلب العاصمة الليبية طرابلس، اُعتقل الرجل لتقديمه للمحاكمة ولكنه توفي منذ يومين بمدينة نيويورك في ظروفٍ غامضة قبل أيام من بدء محاكمته.
وقد صرح محامي أبي أنس الليبي لصحيفة “الواشنطن بوست” أن موكله قد تدهورت صحته بشكلٍ كبيرٍ في الآونة الأخيرة موضحًا أن أبو أنس الليبي كان مصابًا بسرطان الكبد.
“أبو أنس” كان من أهم المطلوبين على لائحة مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (FBI) لاتهامه بالضلوع في عمليات تفجير سفارتي الولايات المتحدة بدولتي كينيا وتنزانيا عام 1998.
إذن من هو أبو أنس الليبي الذي أثار كل هذه الضجة لدى السلطات الأمريكية حتى وفاته منذ يومين في ظروفٍ غامضة؟
الاسم الحقيقي له “نزيه عبد الحميد الرقيعي” المولود عام 1964 بمدينة طرابلس الليبية، يعمل الرجل مهندسًا للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وقد ساعده نبوغه في ذلك المجال إلى الترقي في صفوف تنظيم القاعدة، خاصةً في قارة أفريقيا.
أبو أنس الليبي أو نزيه الرقيعي، هو أحد أعضاء الجماعة الليبية المقاتلة التي قاتلت نظام العقيد معمر القذافي في أوائل التسعينيات، وقد شارك بالفعل في عمليات ضد نظام القذافي ولكن مع التنكيل الذي لاقته الجماعة وأعضائها من نظام القذافي بتهمة العمل على قلب نظام الحكم؛ فر الليبي وعدد من مقاتلي الجماعة إلى دولة السودان التي كانت تأوي معارضي النظام الليبي، ل سيما الجهاديين عقب صعود الحركة الإسلامية إلى الحكم.
انضم الليبي إلى صفوف تنظيم القاعدة عام 1994 وعمل بخبرته في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وساعد التنظيم كثيرًا في هذا المجال حتى انتقل إلى أفغانستان مع زعيم التنظيم أسامة بن لادن الذي غادر السودان إلى هناك ثم انتقل الرجل إلى اليمن.
هذا وقد حدثت تفجيرات في العام 1998 في سفارات الولايات المتحدة بالعاصمة الكينية “نيروبي” ودولة “تنزانيا”، فيما أعلنت الولايات المتحدة مسؤولية الرجل عن هذه التفجيرات وظلت تطارده حتى طلب الرجل اللجوء السياسي إلى بريطانيا، حيث اُعتقل هناك على خلفية نفس الأحداث، لكن التحقيقات لم تثبت عليه التهم فأطلقت السلطات البريطانية سراحه.
أُجبر الرجل بعد ذلك على مغادرة بريطانيا بسبب المضايقات الأمنية التي تلاحقه من قبل “الإسكتلاند يارد”، نظرًا لاعتقادهم بضلوع الرجل في تدبير عمليات إرهابية دولية.
اختفى الليبي ورصدت الولايات المتحدة مبلغ 5 ملايين دولارًا لمن يدلي بمعلومات تؤدي للوصول إليه، وظهرت الشائعات التي تتحدث عن القبض عليه في أفغانستان وتارة السودان دون أن يدري أحدٌ مكانه.
الليبي الذي بلغ من العمر 50 عامًا تنقل بين بريطانيا وأفغانستان كثيرًا حتى هربت عائلته بأكملها إلى دولة إيران عقب تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر وقد تم وضعهم في السجن لمدة سبع سنوات.
ظهر الليبي مرةً أخرى عقب الثورة الليبية وقد قيل أنه شارك في المعارك ضد نظام العقيد القذافي وقد قُتل أحد أبنائه في معارك تحرير العاصمة طرابلس، وقد سبقته أسرته إلى ليبيا منذ 2010 بموجب مبادرة أطلقها سيف الإسلام القذافي.
أوكلت القاعدة في شرق أفريقيا مهامًا دقيقة لأبي أنس نظرًا لتفوقه في جميع معسكرات التدريب بل إنه أصبح مدربًا لعناصر أخرى لدى القاعدة، إذ أوكل إليه مهام استكشاف واستهداف المؤسسات الأمريكية من سفارات ومنظمات في بلدان شرق أفريقيا وهو أحد المدبرين للهجوم الذي تتهمه الولايات المتحدة بالضلوع فيه وقد عزمت محاكمته على خلفيته لكن لم يوجد أي دليل لدى السلطات الأمريكية على ذلك.
وبعد أن قُتل معمر القذافي استقر أبو أنس في طرابلس دون أن يعلم أحدٌ شيئًا عن طبيعة تواجده في البلاد لكن هذا الأمر كان يقلق الولايات المتحدة كثيرًا خاصةً بعد مقتل السفير الأمريكي هناك في هجوم السفارة، وقد تشككت الولايات المتحدة في أسباب تواجد الرجل حتى هذه اللحظة على الأراضي الليبية، ورجحت أنه موكل إليه إنشاء فرع لتنظيم القاعدة في ليبيا عقب توقف القتال ضد نظام القذافي؛ ما جعل السلطات الأمريكية تحاول اعتقاله أكثر من مرة لكن الأمر لم يكن سهلًا في ظل الانفلات الذي عقب سقوط نظام القذافي.
إلى أن قامت قوات أمريكية خاصة بأكتوبر عام 2013 باعتقال الرجل في وضح النهار من طرابلس بعد تمهيد استخباراتي شاق قامت به مخابرات عدة دول عربية أبرزهم مخابرات السلطة الفلسطينية التي ذكرتها مصادر أمريكية بالاسم أن لها دورًا كبيرًا في القبض على هذا الرجل، وقد قامت القوات بتجريده من سلاحه الشخصي واقتياده إلى مكانٍ مجهولٍ بعد مطاردات دامت لأكثر من 13 عامًا لم تفلح الولايات المتحدة في اصطياد الرجل الذي يمثل لأمريكا الكثير إلا في هذا الوقت.
www.youtube.com/watch?v=9lzCvK-46yQ
أثارت العملية غضب السلطات الليبية التي اعتبرت الأمر انتهاكًا لسيادة أراضيها، ولكن البيت البيض الأمريكي احتفى بالأمر ودافع عنه، حيث خرج المتحدث باسم البيت الأبيض مصرحًا أن الرجل عضو بتنظيم القاعدة وأنه بوضوح مطلوب في تهم لذا جرى اعتقاله.
وقد استندت حكومة الولايات المتحدة في اعتقال أبو أنس الليبي لقانون لديها أُقر في عهد الرئيس الأمريكي السابق “جورج بوش” يقضي باعتقال أي فرد يشتبه أنه إرهابي في دولة أجنبية دون اتباع إجراءات التسليم الدولي.
هذا وقد صرح مسؤولون أمريكيون أن الرجل يخضع للتحقيقات من قبل نخبة من المحققين المتخصصين في استجواب “المعتقلين ذوي الأهمية العالية”.
وقد اختيرت هذه النخبة في العام 2009 بمكتب التحقيقات الاتحادي بالأمن القومي وهذه النخبة أيضًا مسؤولة عن جمع المعلومات من المشتبه بأنهم إرهابيون، هذا وقد نقلته السلطات الأمريكية إلى سفينة تابعة للبحرية في البحر المتوسط “سان انطونيو” ليتم التحقيق معه بدون وجود أي محام.
عملية اعتقال أبو أنس الليبي واختطافه من ليبيا تفتح ملف التعذيب الذي قامت به وكالة الاستخبارات الأمريكية “سي أي إيه” لانتزاع اعترافات من مشتبه بهم في قضايا إرهاب، وهو بالطبع أقل أهمية من هذا الرجل الذي اعتبرته وسائل الإعلام الأمريكية بأنه المطلوب الأول في قائمة الإرهاب والأخطر على الولايات المتحدة.
فبعد نشر هذا التقرير الذي يوضح استخدام وكالة الاستخبارات الأمريكية لفنون تعذيب للمعتقلين لديها؛ تظهر تساؤلات بقوة هل دخل أبو أنس الليبي المشفى على خلفية إصابته بالفعل بسرطان في الكبد أم على خلفية تعذيب، حيث إن الرجل قد قال لمحكمة فيدرالية في “مانهتن” في أكتوبر الماضي إنه مضرب عن الطعام عند التحقيقات والاستجوابات التي يقوم بها المحققون الذين أكدوا أنه اعترف بأدلة تدينه وهو الأمر الذي نفاه لاحقًا؛ ما يجعل في الأمر شبهة تعذيب لمتهم ذا أهمية كبرى كهذا الرجل، وشاهد آخر يعزز طرح التساؤلات هذه أن أسرته قد حمّلت السلطات الأمريكية مسؤولية موته بسبب منع العلاج عنه داخل السجن؛ ما تسبب في وفاته، ليُسدل الستار عن قضية أبو أنس الليبي باعتقاله ووفاته في ظروفٍ غامضة تراجحت فيها الأقاويل بين الرواية الرسمية الأمريكية بأنه مات على خلفية إصابته بمرض سرطان الكبد، وبين الشكوك التي تحوم حول ممارسة التعذيب ضد الرجل لإجباره على الاعتراف بتهم معينة؛ ما أدى لتدهور صحته ووفاته.