على بعد أميال قليلة من شواطئ إيطاليا، تُرِكَت سفينة إزادين، المخصصة لنقل المواشي، للاصطدام بالشاطئ، بعد أن تخلى عنها طاقمها، قبل أن تتدخل قوات خفر السواحل الإيطالية وتُرسيها بنجاح في ميناء كوريليانو، إثر تلقيها إشارة صوتية أطلقها أحد ركابها عبر جهاز الراديو، مفادها أن السفينة تتجه نحو الساحل، ولا تملك طاقمًا يقودها لتفادي الاصطدام.
لم تكن إزادين تحمل في الواقع سوى المئات من السوريين الفارين من بلادهم والباحثين عن مأوى، فيما بات يُعرَف بـ “سفن الأشباح” في البحر المتوسط، والتي يمثل السوريون 50٪ من ركابها، طبقًا لوكالة الإغاثة التابعة للأمم المتحدة، حيث يقوم طاقم قيادة سفينة ما بتركها قبل سواحل أوروبا ببضعة أميال، لإجبار الدول الأوربية المعنية على إنقاذ الركاب على متنها، وتباعًا إيوائهم.
يُظهر هذا تحولًا في أساليب اللجوء نحو أوروبا، والذي تحاول أوروبا مكافحته بشتى السبل، إذ يقول ويليام سبيندلر، المتحدث باسم وكالة الإغاثة التابعة للأمم المتحدة، أنه جرت أربعة أو خمسة حوادث مشابهة لسفن الأشباح تلك خلال الشهرين الماضيَين فقط، وعبر طرق بحرية جديدة، وباستخدام سفن أكبر. يحدث هذا بالتزامن مع تجاوز عدد اللاجئين في العالم للرقم القياسي الذي سجلته الحرب العالمية الثانية، جراء الحروب المختلفة في ليبيا وسوريا والعراق وأفغانستان ومناطق شتى في أفريقيا. بدورها، تحتل سوريا نصيب الأسد من أعداد اللاجئين.
ماذا تفعل أوروبا حيال تلك الأزمة إذن؟ بالنظر لتزايد الاحتجاجات في الداخل ضد المهاجرين والأقليات غير الأوربية، لا يبدو أن أوروبا ترغب في تحمل المزيد من الأعباء، وهو ما دفع الاتحاد الأوربي إلى خفض الدعم الإنساني لأي لاجئ أتي عن طريق البحر، وتشديد الإجراءات على الحدود البرية الشرقية للقارة.
شهدت سوريا وحدها فرار أكثر من ثلاثة ملايين سوريًا منذ بداية الحرب فيها، وقد لجأ معظمهم إلى دول الجوار، مثل تركيا ولبنان والأردن، في حين اتجه حوالي 300 ألف إلى أوروبا، بيد أن السلطات في بلدان عدة قد بدأت تضيق ذرعًا بالعبء الذي تشكله تلك الأزمة، إذ تشير الإحصاءات حاليًا إلى فرار حوالي 5000 سوريًا يوميًا من بلاده، كما أن هناك توقعات بزيادة أعداد اللاجئين خلال هذا العام لتصل إلى 4 ملايين.
ليس أدل على ذلك من القرار الذي اتخذته لبنان لأول مرة منذ نشأة البلدين بعد الحرب العالمية الأولى – والتي كانا قبلها كيانًا واحدًا بشكل فعلي – الذي يقضي بضرورة حصول السوريين على تأشيرة لدخول لبنان ويسري ابتداءً من الغد الرابع من يناير.
يقول المدافعون عن القرار إن البلد قد استقبل بالفعل حوالي مليون لاجئًا سوريًا بشكل لا يستطيع تحمله بتعداده الضئيل البالغ أربعة ملايين، وأنه يُنذر بتوتر الأوضاع السياسية المضطربة أصلًا منذ عقود، لاسيما وأنه شهد نفس الشيء مع أزمة اللاجئين الفلسطينيين التي كانت واحدة من أسباب اشتعال الحرب الأهلية اللبنانية.
المناوشات الجارية خلال العام المنصرم، وعمليات التفجير المتفرقة، وأنباء تواجد جيوب لداعش في شمال لبنان، وحساسية الموقف في الجنوب نظرًا لضلوع حزب الله أصلًا في الحرب السورية، كلها مؤشرات وعوامل ترجح بقوة أن يكون لوجود اللاجئين السوريين آثارًا سلبية على استقرار لبنان الهش، والذي يتمسك الآن ببرلمان منتهية ولايته لإبقاء الوضع على ما هو عليه قدر الإمكان.
سيؤثر قرار كهذا بالطبع على الكثير من السوريين، والذين يمثل لهم لبنان المخرج الأفضل والأقرب من الحرب السورية، إذ تبعد بيروت ساعتين فقط عن دمشق، ولكنه ليس العلامة الأولى على رغبة لبنان في التحرر من أعباء اللجوء السوري، حيث قامت الحكومة اللبنانية مؤخرًا برد الكثير من السوريين على الحدود، في حين تسلل البعض بشكل غير قانوني عبر المناطق الجبلية الواقعة على حدود البلدين.
يقول رون رِدموند، أحد المتحدثين باسم وكالة الإغاثة التابعة للأمم المتحدة، إن القرار قد بدأ بالفعل في التأثير على أعداد اللاجئين الوافدين منذ الإعلان عنه، بالإضافة إلى العديد من القيود التي بدأت الحكومة اللبنانية في اتخاذها في الأشهر القليلة الماضية، حيث انخفض عدد الوافدين من السوريين على لبنان بنسبة 75٪ في نوفمبر الماضي جراء سماعهم عما جرى لغيرهم على الحدود، وعلمهم بالإجراءات الجديدة في لبنان.
سيؤدي القرار أيضًا إلى تعقيد حياة الكثيرين ممن عاشوا أصلًا على الحركة بين بيروت وسوريا، حتى قبل الحرب، إما لزيارة أهاليهم القاطنين هناك، أو لمتابعة أعمالهم بشكل دوري، فالطبقات الوسطى السورية التي استطاعت التكيف بسهولة مع البيئة في لبنان، ووجدت موطئ قدم في اقتصادها، لا يبدو أنها تريد أي خدمات خاصة كـ “لاجئين”، ولكنها ستحتاج الآن إلى اتباع إجراءات أكثر صرامة للحصول على الإقامة في لبنان، أو ربما الاتجاه للحصول على الجنسية اللبنانيةـ من ناحيتها، بدأت السلطات اللبنانية في تعقب أصحاب الإقامات المنتهية بشكل أشد من ذي قبل، كما تشي حوادث عدة.
هناك توتر سياسي كبير في الداخل بطبيعة الحال حيال اللاجئين الذين يشكلون عبئًا على المدارس والمستشفيات اللبنانية، ويحتلون بعض المزارع لنصب خيَمهِم، أضف إلى ذلك أنهم يغيّرون من الموازين الطائفية في البلاد لأن أغلبهم من المسلمين السنة، وقد يؤثرون على المعادلة السياسية بشكل لا ترغب به الكثير من الأطراف إذا ما أصبحت إقامتهم دائمة.
بعيدًا عن توتر مسألة قبول السوريين في لبنان بشكل دائم، وقبول أي مهاجر في أوروبا، تتجه الأردن أيضًا نحو تقييد الأوضاع أمام اللاجئين الذين استضافتهم، والذي أعلنت مؤخرًا بأنها لن تستطيع تزويدهم بالرعاية الصحية حتى ولو كانوا من اللاجئين المسجلين – البالغ تعدادهم 623000- تقول الحكومة رُغم ذلك إنها لم توقف سيل اللاجئين إليها، ولكنه سيكون من الصعب تزويدهم بكافة احتياجاتهم الأساسية للعيش في الأردن.
البلد الوحيد ربما الذي يتكيّف بشكل جيد مع لاجئي سوريا هو تركيا، رُغم قبول الكثير من الأتراك في الداخل لذلك الواقع على مضض، حيث تتجه تركيا لإدماج أكثر من مليون سوريًا على أرضها باعتبارهم مقيمين بشكل دائم، وتعزيز فرص حصولهم على التعليم والخدمات العامة، على العكس من لبنان والأردن، وأوروبا أيضًا.
لن تأوي تركيا وحدها بطبيعة الحال ملايين السوريين التي ستزداد خلال العام المقبل، وسيكون على طرف من هؤلاء أن يعمل على استضافتهم قدر استطاعته، وهو ما تبدو أوروبا الطرف الوحيد المؤهل له، على عكس دول مثل لبنان والعراق، بيد أن مسألة رفض المهاجرين هي العقبة الوحيدة على المستوى الشعبي أمام قبول هؤلاء بأعداد كبيرة، سيكون على بلدان أوروبا المختلفة أن تتشارك العبء إذن، كما قال مؤخرًا وزير الداخلية الألماني، والذي استضافت بلده عددًا لا بأس به من السوريين.
يقول رِدموند، “إننا نتفهم كافة الإجراءات والقيود التي تتخذها الحكومة المستضيفة للاجئين، ولكن مهمتنا الرئيسية تظل البحث عن مكان آمن لهؤلاء، وضمان عدم عودتهم إلى مناطق قد تشكل خطرًا على حياتهم”.