للأندلس عندي نصيب كبير من الذاكرة، ذاكرة الأحلام والآمال، ذاكرة المجد والجمال! لا أذكرها إلا وأذكر فيها شِعرها البديع وموشحاتها المطربة وقصرها الغرناطي الأحمر وزهراءها الأموية وزاهرتها العامرية وأسماء من عبروها من التابعين ومن تبعهم ومن تلاهم حتى السقوط المريع!
غفلت عنها برهة ثم أعادتني إليها “ثلاثية غرناطة”، فقد كنت أقرأ تاريخها وأحداثها العظام ولكني لم أعش يومًا حياتها، نعلم جميعا كيف قامت محاكم التفتيش وكيف حُرق الناس وكيف عُذبوا حتى الموت وكيف هُجّروا وكيف أُرغموا على التنصر وكيف تجرعوا الذل دامعين صامتين.
ولكني لم أشعر شعورهم إلا حينما عشت معهم تفاصيل حياتهم اليومية في تلك الرواية، كيف سلّموا المدينة وهم يحدثون أنفسهم أنها جولة واحدة للباطل، جولة واحدة فقط ثم تليها جولات للحق! كيف أُحرقت كتبهم وعصارة حضارتهم وثقافتهم أمام أعينهم، فقالوا نعم ربما قد اشتد الكرب ولكن الله يمهل ولا يهمل! ثم أُجبروا على التنصر فبدأ الشك يتسرب إلى النفوس … هل يرانا الله حقًا؟! هل يرى ما حل بالمؤمنين من عباده؟! وتضُج الصدور بالشكوى .. يارب أرنا من لدنك بصيص نور نحفظ به بقية الإيمان! لقد وعدت بنصر من آمن … فأينا أخلف وعده؟! ثم تُذهلهم شدة الضربة التالية عن سابقتها؛ فيراودهم السؤال الموجع “هل سيأتي إخواننا من تونس والمغرب أو حتى الأتراك لنصرتنا؟!”، ربما لم يبق أحد في الأندلس كلها من لم يسأل ذلك السؤال، ولم لا يسأل؟! ألسنا جميعًا مسلمون ولنا حق النصرة؟! ثم يتناسى السؤال .. لا لشيء إلّا ليسكّن بعض آلامه.
لم تُعرض خلال الرواية شخصية بطولية متمثلة في شخص واحد وإنما حكت لنا قصة الإنسان الموريسكي صاحب القضية، كيف انتقل من العز إلى الذل ومن الحرية إلى العبودية، كيف كان يشعر، ومن أي شيء كان يتألم، وفي أي شيء كان يأمل؟!
في شخصية “أبي جعفر” نرى رجل الأندلس الوقور صاحب حضارة عريقة وجذور ضاربة في التاريخ، لا يقبل الضيم ويستقبل الموت بصمت قبل أن تهشّم المأساة بقية كبريائه! ثم “حسن” وصراع بين بقايا الكرامة فيه وواقعه الطاغي في قسوته، يتعلق بالكلام والتبرير ليدرأ عنه وخز الضمير! و”مريمة” المسكينة ومثلها ربما معظم الشعب الأندلسي، تعيش يومها على أمل، مرة في رؤية تراها ومرة أخرى في خبر تخال الفرج يأتيها من خلاله، ثم تموت في عين البؤس وكأنها ما رأت ولا سمعت، عندها فقط يُكشف عنها الغطاء فترى المصير المحتوم؟! أما “علي” ذلك الشخص الضائع التائه الذي يقفز إلى الأحداث قفزًا، فيحكي ربما حال المظلومين كلهم، هل من الخير أن يقوموا بترحيلنا؟! أليس أفضل من التنصير؟ هل يمكن أن يخذل الفرنسيون ثورتنا وقد تعاهدنا؟! هل يرى الأتراك ما يقع علينا ويسكتون؟! أسئلة تقض مضجعه ولا جواب ولا مجيب!
يحدث عليٌّ نفسه: لن أترك هذه الأرض، ليس لذات الأرض أبقى، فالأرض هي الأرض أينما ذهبت وحلَلَت، ولكنها ذكرياتي .. بعضٌ مني! هنا دفنت مريمة جدتي، وهنا فقدت أبي الذي انتشله الظلم مني، وهنا أحرقوا سليمة وأحرقوا عليها القلوب! … ثم .. ثم هنا ذاتي فهل ينكر المرء ذاته؟!
في ذكرى سقوطها، تُعيد الأندلس إلى أذهاننا أسئلة الصراع المستمر بين الشرق والغرب، من يملك الأرض؟! ومن الأحق بها؟! بالتأكيد ليس القِدَم هو ما يحدد وليست القوة هي ما يثبت الحق، وليست القضية فيمن احتلها أو من استردها، وإنما كيف تم ذلك، هل أجبر المسلمون مسيحيي الأندلس على الرحيل أو اعتناق الدين الجديد؟ّ! ألم يُسلم السكان السابقون وأصبحوا من أهل الحضارة الجديدة لغة ودينًا وثقافة؟! في المقابل فعل (المستردون) الإسبان كل هذا؛ فضيقوا على السكان جميعًا في دينهم ولغتهم، ولم يميزوا بين الأصول العربية ومن أسلم من أهل البلد السابقين، ثم لم ينتهوا حتى طردوهم جميعًا وصادروا أموالهم وأرضهم.
ليست القضية فيمن يحكم البلاد، فذلك خاضع لموازين القوى في العالم، بل كيف يحكمها، فالقضية في جوهرها قضية أخلاقية وليست من يملك أو يسيطر! لقد رضي أهل الأندلس بقدوم المسلمين ورفضهم الأمراء وأصحاب الشوكة وفيه مصلحتهم وذلك مفهوم، وبعد ثمانمائة عام رفض أهل الأندلس (المستردون) وقاوموهم فقوبلوا بالتنكيل والتشريد والقتل، لقد كان دخول المسلمين – في عمومه – امتدادًا لحضارة وثقافة ودين وعلم، أخذه الناس وأقبلوا عليه رغبة ومحبة وتماهوا فيه وأصبحوا جزءًا منه، وانعكست أخلاقية الإسلام على أهله قبولاً ورضى.
بينما كان دخول الإسبان (مستردين) توسعًا أمبراطوريًا كأي مَلك ينشد مُلكًا كبيرًا، نعم سُميت حروب استرداد وتبشير بالمسيحية، ولكن ذلك كان تجييشًا لمشاعر وعواطف مسيحيي أوروبا وحشدهم في الحرب ضد المسلمين، ولم يكن للمسيحية في الحقيقة أكثر من ذلك! وإلا فإن الإجرام والتشفي من (المستردين) تجاه المغلوبين من أهل الأندلس فاق كل وصف وبلغ درجة يأنف منها الإنسان كأنسان عداك عن أي دين!
الأخلاقية – كما أرى – هي المفهوم الوحيد الذي يمكن من خلاله فهم صراع كهذا، وإلا فارتباط الإنسان بالأرض ارتباط فردي ينبع من حبه لها وذكرياته فيها، أما أن تصبح قضية له فذلك شيء أصغر بكثير من دوره ومهمته، نحن نُعيد الكلام في تلك الذكرى لا لذات الأرض وإنما لعدالة القضية، فثمة مظلومون وهناك حق مضاع، هي قضية أخلاقية إذن، وهو ما يجب أن يُرفع الصوت من أجله، في ذلك العالم الذي لا يعي إلا لغة القوة، فيستبد فيه القوي بالضعيف والقادر بالعاجز، فليُرفع الصوت … علَّه ينقذ ما بقيَ من الإنسانية!